لو لم يمنحنا الله ما نحتاج إليه من نعم، ما استطعنا الحصول على أيٍّ منها ولو استعنّا بالكون كله، دخل أحد العارفين على هارون الرشيد وسأله:
– يا أمير المؤمنين! لو ظمئتَ ظمأً شديدًا، ومُنِعتَ هذه الكأس من الماء، أَكنتَ تتنازل عن نصف ملكك لتحصل عليها؟
فأجابه هارون الرشيد: نعم.
فقال العارف: وإنْ شربتَ هذا الماء ومُنعتَ إخراجه، هل كنتَ تهب ملكك كله مقابل إخراجه؟
فأجابه هارون الرشيد: نعم.
فقال العارف: إذًا كل ملكك وسلطانك لا يساوي إلا كأس ماء فحسب يا أمير المؤمنين.
أجل، نجد النعم مبثوثة جاهزة أمامنا، ابتداء من كأس الماء هذه ووصولًا إلى الهواء الذي نتنفّسه.
في كل فصل من فصول السنة، تُدِرّ علينا آلافُ الأنواع من الفواكه ألوانًا مختلفة من اللذائذ بلطف الله وإحسانه، من يدعي عكس ذلك؟ فإننا لا نملك قدرة على إنشاء بذرة، ناهيك عن إنشاء تلك الفواكه، تلك البذرة التي تضاهي الكون في دقة صنعتها، فإحسان الله وسخاؤه علينا مبسوط بجلاء أمام أعين الناظرين في هذه الدنيا، يا لحمق الإنسان الذي يبحث عن كرامات وينقب عن معجزات، وكل ما يقع من حوله آية محيرة من آيات الإعجاز!
ما أعظم سخاء الخالق على الإنسان! وها هما الشمس والقمر يعملان خادمين مطيعين لنا.. تُلاطف الشمس رؤوسنا من جانب، وتسعى من جانب آخر إلى إنضاج الفواكه والخضار وما نحتاجه من حبوب في الحياة، فلو كان هذا السخاء كله منحصرًا في دار الدنيا الفانية المؤقتة، لشعرنا بغصة وعذاب إثر تناولنا لكل نعمة كأننا نتجرّع كأسًا من السمّ، وذلك بسبب الموت الذي لا يبرح عقولنا لحظة، وقد يداهمنا بغتة دون سابق إنذار، فزوال النعمة ينبهنا إلى زوالها كليًّا، وحرمانِنا من جميع النعم التي كنا نتقلب فيها.. زوالُ النعمة يحوّل التنعم بها ألمًا.. والأفظع من ذلك أنه يذكرنا بالعدم الأبدي الرهيب.
لكن حاشا لصاحب هذا السخاء العظيم والكرم العميم أن يحرمنا هذه النعم بعد أن أذاقنا حلاوتها.. بل، إنّ صاحب هذا السخاء التي تَفضّل علينا في هذه الدنيا الفانية بألوان من الإكرام والإنعام، سيديمها علينا إلى الأبد ولا بد أنه يملك عالمًا حافلًا بخزائن من النعم الخالدة التي لا تنفد، فهو هنا أَتْحَفَنا بعيّنات منها أصولُها هناك، ولا بد أن إكرامه علينا سيمتد في ذلك العالم، نقطف من أصولها وننعم بها أبد الآبدين، وإن ادعاء العكس، يشوّه تلك الصور، ويُبهِت رونقها، ويمرر مذاقَها، وذلك يتناقض مع قداسة الذات الإلهية، سبحانه وتعالى عن كل نقص وعيب.
جمالٌ فانٍ يستدعي جمالًا باقيًا
لنقف في موسم من مواسم الربيع ونستمع إلى تغاريد العصافير وخرير المياه، لنشاهد جمال الخضرة الزمردية الأخّاذة للأشجار والنباتات، ولنتابع شروق الشمس وغروبها، ولنستمتع بمنظر القمر ليلة البدر، ولنتأمَّل جميع محاسن الكون البديعة.
كل هذه المَشاهد الخلابة ومثيلاتها، ما هي إلا تجليات لجمال الله سبحانه وتعالى؛ إذ إنه تعالى يفرش أمام أنظارنا جمال ذاته العلية عبر هذه الصور المتناغمة المتناسقة، فنقف مبهورين مأخوذين بكل حواسنا من سمو هذا الجمال، إنه تعالى يريد أن نعرفه.. ونحن نسعى إلى معرفته.
ولكن الجميل المتعالي سبحانه، لو أسدل الستارَ علينا أثناء مشاهدتنا هذه المحاسن، وتركنا في دياجير الحرمان؛ لتحولت -عندئذ- النعمة إلى نقمة، والمحبة إلى مصيبة، والعقل إلى أداة عذاب ومعاناة.. حاشاه أن يفعل سبحانه وتعالى ذلك ويستبدل الجمالَ بالقبح، أضف إلى أن الذي يجعل النعمة نعمة حقًّا، ويفتح للعقل باب التلذذ بها، إنما هو دوام تلك النعم، لذا فربنا العظيم سيفتح دارًا أخرى لكي يطلعنا على جماله الأبدي السرمدي، ويبعثنا في تلك الدار، ويكشف لنا عن نعمه الخالدة وجماله البديع وكماله الفريد.
ثم إن تلك المحاسن والجماليات التي أبدعها جل شأنه لا تُعدّ ولا تُحصى.. وهذا يستدعي عالمًا أبديًّا تصبح فيه هذه المحاسن العابرة من هذه الدنيا الفانية خالدة أبدية. أجل، فكما انبهرنا بتجليات جماله المبثوثة في أرجاء هذه الدنيا، سننبهر يومًا بالنظر إلى جمال الذات المقدسة غارقين في نشوة ما بعدها نشوة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (سُورَةُ القِيامَةِ: 75/22-23).