القيامة واقعة لا محالة، وهي حقيقة أكدتها العلوم الوضعية وأهل العلم بالإجماع، إلا أن العلماء يتوقعون ذلك في مستقبل بعيد، في حين يمكن أن تقع في أي لحظة نتيجة حدث من الأحداث الاستثنائية العديدة التي تطرأ على الأرض يوميًّا.
فلو أراد القمر -مثلًا- الذي انفصم عن الكرة الأرضية في ماض سحيق، أن يعود إلى صدر أمه مرة أخرى، فسوف يؤدي ذلك إلى انفجار هائل يدمر الأرض وفق القوانين الذرية.
وقد ورد في الحديث النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يشرح لأمّنا عائشة رضي الله عنها كلمة “غاسِق” في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ (سُورَةُ الفَلَقِ: 113/3)، أشار إلى القمر وقال: “يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ”[1]، ولذلك اعتبر أهل الخبرة والدراية رؤية القمر في المنام علامة للشر، ورؤية الشمس علامة للخير، وعبروا الرؤى بناء على ذلك.
وقد تقوم القيامة باصطدام مذنَّب بالكرة الأرضية، أو بتجربة نووية خاطئة.. فمهما كانت الأسباب الظاهرية، فإن القدرة التي تمسك بزمام المؤثرات المبثوثة في ثنايا كل هذه الأحداث، ستأمر بنفخ الصُّور يومًا، وتقوم القيامة الكبرى لا مناص.
لقد عالج القرآن الكريم حقيقة البعث بعد الموت من زاوية التمثيل القياسي وتقديم النظير، فمن خلال هذه الزاوية يثبت القرآن الكريم وجود البعث والنشور، حيث يقدم أدلة من الكون الشاسع تارة، وأدلة من عالم الذرة الصغير تارة أخرى، كما يجمع بين آيات الكون العظيمة وعجائب الذرة في سياق واحد، وهذا ما نسميه بـ”الدليل الكلّي”، إذ يتم التأكيد به على الخلق بمعناه المطلق، وفيما يلي نحاول شرح ما ذكرناه:
يبسط القرآن الكريم أدلة دامغة على وجود الحشر والنشور من خلال التمثيل القياسي عبر آيات الكون: ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ (سُورَةُ الرَّعْدِ: 13/2).
إن الله الذي سيبعث الناس ويحشرهم من جديد، رفَع السماء بغير عمَد نراها، ووضع لها نظامًا تتحرك فيه النجوم وتجري إلى أجَلها المسمى.. لا شك أنكم تندهشون من ارتفاع هذه السماء دون عمَد، وتذهلون من حركتها الدائمة دون أيّ خلل أو فتور! ثم يستوي الله –أيًّا كان معنى “الاستواء” على الخلاف المذكور في علم أصول الدين- على العرش وينفذ حكمه من هناك، وبالتالي يسخّر الشمس والقمر ويعطيكم زمام الاستفادة منهما.. كل ذلك يتم بحسابٍ دقيق ليريكم رب العزة لَأْلَاءَ الحكمة من علمه اللانهائي.
أجل، البعث والنشور وعد من الله سبحانه، فهو الذي يكشف عن آيات قدرته في كل شيء، وهو الذي يقوم بتنظيم كل ما في الأرض والسماء؛ يفصّل آياته لكم لتدركوا قدرته وعظمته، ولتفكّروا وتتأملوا وتؤمنوا بحقٍّ أنكم سترجعون إليه في يوم من الأيام مهما طال الزمن.
إننا نؤمن بالآخرة، ونؤمن -كذلك- بوحدانية الله عزّ وجلّ.. وإنه تعالى بعظمة ربوبيته وقداسة حكمته سيأمر بقيام الحشر وبالطريقة التي يشاؤها هو.
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/104)؛ أي نحن مَن سنطوي السماء كطي السجل للكتب ونخرجها من ماهيتها التي هي عليها الآن.. عندها تفقد حركتها وحرارتها ثم تتوقف عن الدَّوَران.. سنطوي كتاب الكون الذي أخرجناه من محفظته وفرشناه أمام بصائركم، ثم نعيده إلى محفظته كما بدأناه في أول خلقه، فكل المخلوقات ستعود إلى خلقها الأول في نهاية المطاف، فكما سكتت الأسباب عند الخلق الأول، فستسكت كذلك عند الخلق الثاني، ثم سنفتح الكتاب كرة أخرى كما طويناه، ونخلق الذرات من جديد.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (سُورَةُ الأَحْقَافِ: 46/33)؛ إن الله تعالى الذي خلق السماوات والأرض وسيّرهما داخل نظام بديع دون عيّ منه ولا تعب، أَوَليس قادرًا على أن يحيي الموتى من جديد؟ أمعنوا النظر في الكائنات وتأملوا فيها جيّدًا، سترون بجلاءٍ قدرةَ الله في كل شيء، إنه تعالى لا يمسّه تعب ولا يحتاج إلى راحة أبدًا، وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ (سُورَةُ ق: 50/38).
أجل، أوليس الله بقادر على إحياء الموتى من جديد؟
إن التمثيل القياسي في القرآن الكريم هو منهج استدلال واضح، وعن طريقه تقدَّم أدلة وبراهين من العالم الفسيح الذي نعيش فيه لإثبات خلّاقية الله سبحانه وتعالى جلية، ولتهيئة الأذهان للإيمان بخلق الكون من جديد، ومن ثم يزداد الإنسان يقينًا بيوم البعث والنشور.
﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ (سُورَةُ يس: 36/81)، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ (سُورَةُ النَّازِعَاتِ: 79/27).
أَوَأنتم أشد خلقًا أم خلقُ الجن وخلقُ كل ما يحيط بالإنسان من قوانين وأنظمة؟ أوَيعجز القدير المطلق الذي أقام قصْرَ الكون عن بناء قصور أخرى لكم في الجنة؟
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (سُورَةُ فُصِّلَتْ: 41/39).
عندما جفت تربة الأرض وأجدبت؛ تمثلت -كالإنسان الذي يعترف بعجزه أمام ربه- أمام الله خاشعة خاضعة تسأله الإمداد بالغيث والماء، فيغيثها بالمطر، فتنتعش وتهتز وتتحرك، ثم تبدأ البذيرات تتشقق، والبراعم تطل برؤوسها من تحت الأرض، وسرعان ما تتحول الأرض إلى خضرة أخاذة وحدائق غناء، وهذا دليل على أن الله عزّ وجلّ قادر على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة في كل ربيع. أجل، إن مَن يبعث هذه النباتات في كل ربيع ويفرشها أمام أنظاركم لمحيي الموتى حتمًا، وباعثهم مرة أخرى.
إذًا فمثلما يحيي الله الأشجار اليابسة الميتة، والحشرات والهوام الغارقة في سبات الموت، فسيحييكم في موسم خريفكم مرة أخرى بعد موتكم ومواراتكم التراب ودفنكم بالأرض.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/5).
لقد ورد في آخر الآية، أنكم ترون الأرض وكأنها هامدة قاحلة عاجزة عن الإنبات والعطاء، وما إن نُنزل عليها الماء الغزير من السماء، حتى تبدأ بالحركة والاهتزاز، فينبت نباتها بقوة، وينمو زرعها بشكل سريع. أجل، ويخلق الله سبحانه زوجين من كل شيء، وترسم يد القدرة مشاهد من الجمال خلابة تبهج القلوب وتبهر الأنظار.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/6)؛ فجميع ما ترونه حقّ لأنه من الله تعالى، هو الذي سيحيي الموتى وهو على كل شيء قدير، يكشف لكم قدرته من خلال تجليات خلقه، ومن خلال تدبيره لآلاف الوقائع والأحداث التي تحيط بكم.
﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/7)؛ لا ريب أن كل هذه الآيات تشير إلى قيام الساعة، وتؤكد على أن الله سبحانه وتعالى سيبعث كل مَن في القبور مرة أخرى ويحشرهم من جديد.
ومما هو واضح في كل هذه الآيات، أن الله تعالى أثبت البعث من خلال الأحداث التي تقع في الأرض التي نعيش عليها؛ فكما أنه تعالى يحيي البذور وينبتها في ربيع جديد بعد تعفّنها وموتها تحت الأرض، فكذلك سيحيي الإنسانَ الذي يتآكل جسده في القبر ويتبعثر؛ في يوم البعث والنشور الذي هو ربيعه الثاني.
هذا هو أسلوب القرآن المبهر في بسط القضايا وإقناع العقول، كان المخاطَبُ فيلسوفًا أو راعي غنم، فليس ثمة أسلوب يفوق أسلوبه في العرض والإقناع والتأثير، لقد حسم القرآن القضية وبتّ فيها، وما كُتِب أو قيل حول الموضوع من طرفنا نحن البشر، إنما هو شرح أو تفصيل لما ذكره القرآن العظيم لا غير.
وفي السياق نفسه نجد أن القرآن المجيد عندما يريد إثبات الحشر الأعظم عبر دلائل أنفسية، يحيل أنظارنا إلى عالم الذرة ويفتق أذهاننا بقوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/29)؛ فكما أنه تعالى خلقكم أوّل مرة من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، فكذلك سيجمعكم ويعيد ذراتكم إلى أصلها مرة أخرى وسيخلقكم من جديد.
ويقول جل شأنه: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (سُورَةُ يس: 36/77-79)؛ إن كفرة القرون الأولى وبقايا كفرة هذا القرن، ينطقون باللغة نفسها وبالأسلوب نفسه فيقولون: “مَن يستطيع جمع هذه العظام، ونفخ الحياة فيها بعد أن صارت رمادًا؟” فيجيبهم القرآن قائلًا: “قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ”.
ويقول عزّ وجلّ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ (سُورَةُ يس: 36/80)؛ إن رب العزة هو مَن أخرج مِن الشجر الأخضر الرطب نارًا، بينما تقرر القاعدة عدم اجتماع النقيضين، ولكن صاحب القدرة الأزلية الأبدية جمع هنا بين النقيضين وبكل سهولة، ومن المعروف لدى العرب أن شجر المَرِخ والعَفَار الذي يتقطر منه الماء سريع الوَرْي والاتّقاد؛ إذا قُدحتْ أحد أعواده بالآخر -وهو يتقطر ماء- تولّدت النار من بينهما.
وهكذا، فإن الله الذي تجلت عظمته في هذا الشجر، قادر على جمع العظام البالية وبعث الحياة فيها من جديد، وبالتالي على إحياء الإنسان وحشره لحياة ثانية مرة أخرى.
سار القرآن الكريم على الأسلوب نفسه في إثبات البعث والنشور وهو يستعرض آيات الكون الصغير الذي يتألف من أصغر أجزاء الذرة وجزيئاتها، قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/5)؛ أيْ، إن كنتم في ريب من الحشر والنشور، فانظروا إلى هذا الحدث الذي يقع في ماهيتكم، وتأملوا هذا الدليل الأنفسي الآتي:
إن الله عزّ وجلّ خلقكم بادئ الأمر من تراب، وصنع خميرة ماهيتكم من بعض العناصر المبثوثة في الأرض، وخلط هذه العناصر ببعضها مكوّنًا منها حساء بروتينيًّا، ثم نفخ الروح فيها لتتحول إلى قطرة من ماء مهين، ثم إلى علقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة، وعندما أصبحتم مضغة خلقكم أو أماتكم؛ أي سقط بعضكم من بطن أمه قبل استكمال مدة الحمل، واستكمل بعضكم الآخر مسيرته وأخذ صورة تناسب بذرة ماهيته ونال شرف التكريم بسرّ “أحسن تقويم”.
أجل، يقرّ الله تبارك وتعالى في الأرحام ما يشاء إلى أجلٍ مسمى؛ فأحيانًا يَسقط الجنينُ وهو في شهره الثالث أو الرابع، أو يسير إلى الحياة فيولد في الشهر السابع، أو يستكمل نموه حتى الشهر التاسع، وأنتم يا أيها الذين خلقناكم أطفالًا أبرياءَ أنقياءَ، تسلكون بعد ذلك دربَ الحياة أملًا في الوصول إلى الغاية التي خُلقتم من أجلها، ولكن منكم مَن يُتَوفّى مبكرًا، ومنكم مَن تمتد به الأيام ويُردّ إلى أرذل العمر؛ فتضعف أرجلكم، وتصاب ظهوركم، وتنحني قاماتكم، وتشتعل رؤوسكم شيبًا، وتنهزمون أمام الشيخوخة متقهقرين، ها قد باتت حياتكم كلها معاناة، لكي تعلموا أنكم لا تساوُون شيئًا مهما علا شأنكم.. إذ تبدؤون الحياة أطفالًا عاجزين، وتفارقونها أطفالًا عاجزين، ولكن بلِحيةٍ هذه المرة.
يقول الله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ (سُورَةُ القِيامَةِ: 75/36-40)؛ إن الله الذي تنقّل بكم في منازل من الخلق شتى حتى سوّاكم على هذه الهيئة الرائعة التي أنتم عليها، ألا يستطيع أن يبعثكم من جديد؟
من خلال ما سبق، يتضح أن القرآن المجيد قد أثبت البعث بعد الموت بأسلوب فريد ينفذ إلى القلوب ويقنع العقول بسهولة عجيبة، وإن ثلث القرآن -تقريبًا- يعالج هذه الحقيقة الخالدة، وما الشواهد التي ذكرناها، إلا نماذج لدفع القارئ إلى التدبر والتأمل فقط، وما سنقوله لاحقًا تفصيل لمرامي هذه الآيات.
إن البشرية وأفكارها وأحاسيسها ومشاعرها ونواياها وأعمالها وتصرفاتها تجري في هذه الدنيا جريان السيل، وتصب في النهاية في مصب يناسب طبيعة المجرى وماهيته، ألا ترى أننا في هذه الحياة لا نُوفَّى ما نستحقه من مكافأة أو عقوبة! فكم من ظالم بزّ الفراعنة بظلمه مات وغادر الحياة دون أن يلقى أي عقاب.. مات دون أن يؤلمه ضرس أو يشتكي من صداع.. غادر الدنيا دون أن يعاني من وجع في الظهر أو المفاصل، وكأنه الرابح المنتصر رغم ما اجترحه من مظالم وآثام! وفي المقابل هناك مَن تجرع آلاف المصائب، وتعرض لآلاف البلايا ولم تفارقه مدى حياته، غادر الدنيا مظلومًا منكوبًا.
إذا كان للظالم خطط ومشاريع ينفّذها في هذه الدنيا، فإن للمظلوم -كذلك- أفكارًا ونوايا ينفذها، ولكنها مختلفة -بالتأكيد- تمام الاختلاف عن أفكار الظالم، ولا شك أن هذين المجريين المتناقضين كلّ التناقض، والمتدفقَين كالشلال باتجاهين مختلفين، سوف يصبّان في الآخرة في مصبّهما، ويقفان في حضرة رب العزة من أجل الحساب عن الأحوال والأفعال التي قاما بها في الحياة الدنيا الفانية، ولكن في نهاية الحساب، سيجد المظلوم نفسه في الجنة التي آمن بها وصدق بوجودها في حياته الدنيا، في حين سيجد الظالم نفسه ملقى في نارٍ لم يخطر بباله مرة أنه سيُقذف فيها كما يقذف الحطب في النار.
أجل، إن تمييز الأخيار عن الأشرار الذي لم يتحقق في هذه الدنيا، سيحققه المَلِك العدل الديّان في دار البقاء لا محالة، وساعتها سيقول لحشود الظالمين: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (سُورَةُ يس: 36/59).
أجل، إن لم يتم مكافأة الطيب ومعاقبة الخبيث من الناس والتمييزُ بينهما في هذه الدنيا، فذلك مؤجل إلى حين، وها نحن نرى أن التمييز قد تم بين الكائنات الأخرى، فتميَّزَ الخبيثُ من الطيب، والقبيحُ من الحسن، والناقص من الكامل.. فهل يُعقل أن يُستثنى الإنسان، ذلك الكائن الذي خُلق ليكون أنموذجًا فذًّا وجوهرةً فريدة في الكون، هل يعقل أن يستثنى من هذه القاعدة؟! كلا، وبما أن الفَرْز لم يتحقق هنا، فإنه سيتحقق في عالم آخر لا محالة.
تُنثر البذور في باطن الأرض، وعندما تَبلى وتموت تَنبت منها حياة جديدة؛ حيث تنمو شجرةٌ منها، وتعلو نحو السماء، تزدان بالأوراق الخضر والفواكه اللذيذة، وحين يحلّ الشتاء، تُلقي هذه الشجرة كل ما عليها من ثمار وأوراق وتتحوّل إلى شجرة جرداء يابسة عديمة الحياة، ولكن في مطلع ربيع جديد، تتزين بحليّها مرة أخرى، وتعرض جمالها وبهاءها للأنظار.. وكذلك الهوامّ والحشرات تتعرض إلى حالة شبيهة بالموت بعد استغراقها في نوم عميق طيلة الشتاء، ثم يتم بعثها ونشرها من جديد في مطلع ربيع ثانٍ، والسؤال: هل يعقل أن يُستثنى الإنسان من هذه القاعدة التي يخضع لها كل موجود؟!
لقد مُنح الإنسان كذلك ربيعًا، وشتاءً، ثم ربيعًا ثانيًا، لأنه تكوّن هو أيضًا من النواة، ثم نما كالشجرة، وأثمر فكرًا وسرًّا وخفيًّا وأخفى.. ثم تحوّل بعد ذلك إلى كائن لا يُسمن ولا يغني من جوع.. ثم وُضع في التراب مرة أخرى مثل البذرة تمامًا.. ثم راح ينتظر ربيعه الثاني.. وعندما تأتي الساعة ويُنفخ في الصور، فسيتحقق ذلك الانبعاث من جديد لا محالة.
[1] سنن الترمذي، تفسير سورة (113، 114) 1؛ مسند الإمام أحمد، 6/215.