إن تنظيم حياة البشر وتأمين سعادتهم، وثيق الصلة -بعد الإيمان بالله- بالإيمان بالحياة بعد الموت أو ما نسميه بالبعث والنشور، ولن تستقيم حياة الإنسان، ما لم يؤمن بأنه محاسَب على كل فعل من أفعاله، تصوروا رجلًا مؤمنًا لا يغيب عن باله -ولو للحظة- أنه سيُسأل في الآخرة عن كل خطوة خطاها في دار الدنيا.. كيف يكون سلوكه يا ترى؟ يكون ثمرة محاسبة متأنية لا محالة، يراقب كل كلمة تخرج من فيه، ويتتبع كل صوت يقتحم أذنه، ويترصد كل رغبة تختلج في صدره، يزنها بميزان دقيق ويضبطها ضبطًا محكمًا؛ وبالتالي تستقيم حياته وتستمر بتناغم وانتظام.
يقول تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (سُورَةُ يُونُسَ: 10/61)؛ أيْ تسجّل كل أعمال الإنسان -صغيرها وكبيرها، خفيّها وظاهرها- من قِبَل ملائكة مُكرمين.. خفيفةً كانت تلك الأعمال في نظَرِنا عظيمةً في ميزان الله، أو عظيمةً كانت في نظَرِنا خفيفةً في ميزان الله.. كل تصرفاتنا تسجّل.. القائمون بهذه المهمة الخطيرة يقفون لنا بالمرصاد، يتابعون أعمالنا ويسجّلونها، ثم يأتي الملِكُ الدَّيَّانُ الذي يعلم السر وأخفى يحاسب عليها.
إن حياة يسودها شعور كهذا مستقيمةٌ، ومجتمعًا امتلأت نفوس أبنائه بهذا الوعي آمِن وسعيد، وبيتًا ينبض بهذا الإحساس روضةٌ من رياض الجنة.
لا سبيل لإنقاذ البشرية من العبثية والفوضى إلا الإيمان بالبعث بعد الموت، الإيمان بالبعث -وحده- يمنع الشباب من الاندفاع وراء النزوات الطائشة، ويكبح جماح عواطفهم الثائرة المتأججة.. الإيمان بالبعث -وحده- يفجّر الأمل في قلوب الشيوخ الذين يرون أنفسهم يتدحرجون نحو هاوية الموت لحظةً فلحظة فتخبو جذوة الأمل في قلوبهم ويصابون بالانهيار مع كل خطوة تدنيهم من النهاية.. الإيمان بالبعث -وحده- يوقد شموع الفرح والسعادة في قلوب الأطفال الرقيقة كل حين.
الشباب والشيوخ، الرجال والنساء، العادلون والظلمة.. الكلّ في مسيس الحاجة إلى الإيمان بالبعث حاجتَهم إلى الماء الذي يشربون، والهواء الذي يتنفسون، فمن شرب من هذا الزلال، فقد ارتوى سكينة وطمأنينة وسلامًا، لذا، فرواد الفكر الذين يعملون على إصلاح البشرية وإقرار السلام في النفوس، ينبغي أن يعالجوا المشاكل الاجتماعية المتأزمة من هذه الزاوية كذلك.
أجل، سعادة الفرد والأسرة والمجتمع، بل سعادة الإنسانية جمعاء، لا تتحقق إلا إذا آمن المرء بأنه مسؤول في الآخرة، ومُحاسَب على أعماله كلها صغيرها وكبيرها، وها هو القرآن يغرس الشعور بالمساءلة في القلوب بقوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ: 99/7-8)، فإذا استقر هذا الشعور في قلب إنسان ما، يمكنك أن تقول له حينئذ بكل ثقة: “افعلْ ما شئت، فأنت حرّ”، لأن الواقع سينبهه دائمًا إلى أن أعماله مرصودة، وأن لها ثمنًا سيلقاه لاحقًا حتمًا، ومن كان هذا شأنه، فلن يفعل ما يُحرجه يوم الحساب أمام العباد ورب العباد.