لا يكاد قارئ هذا الكتاب يتخطّى سطوره الأولى؛ حتى يفاجأ بأنه قد دخل عالمًا مَوَّاجًا بالإشراقات الفكرية والروحية، وبأنه صار قبالة مفاهيم عالية وعميقة عن معاني الموت والحياة، والوجود والعدم.
فالأستاذ فتح الله كولن، يرى أن “الحياة” هي أصل الخلق والوجود، لأن خالق الحياة -وهو الله الحي القيوم- جعل من بعض تجليات اسمه “الحي القيوم” تلامس كل حي في هذا الوجود.. ويرى كذلك أن “الموت” الذي يخافه الناس ويرتعبون منه؛ ما هو إلا أمر عارض ليس له الغلبة، بل الغلبة والسبق دائمًا للحياة.. فما “الموت” إلا لون آخر من ألوان “الحياة”، ولكنه حياة صامتة لا تلبث حتى تعود لتستأنف حياة أخرى جديدة، كما تقوم الشجرة المورقة من البذرة المطمورة في التراب.. وما القبور التي يهجع بها الموتى، إلا حاضنات للحياة الصامتة التي سيأتي ذلك اليوم الذي تنهض فيه من جديد، وتجأر بالحمد والشكر لخالقها الذي ابتعثها من مرقدها، لتستكمل ما لم تستطع استكماله من معارف أسمائه تعالى الجليلة والجميلة في الحياة الدنيا.. ولترى مآلات ما كانت تجيش بها أرواحها من الأشواق والمواجيد والآمال والأحلام فلا يسعها الزمن الدنيوي القاصر والمحدود، فلا بد إذًا من حياة أخرى أعظم سعةً وأشدّ استشفافًا لما كان يضطرم في أعماق النفس والروح من استشرافات للأبد، وتوق إلى البقاء والخلود.
فالحياة الأخروية، أو الحياة الأبدية، أو البقاء الأبدي، لم يأتِ من فراغ أو من وهم وخيال، فلو لم يوجد هذا البقاء الأبدي، لما وَجَدَ الإنسان توقًا في نفسه إليه.. فكما لو لم يشعر الطفل الرضيع -فطرةً- بأن الحليب الذي يغذيه موجود فعلًا في ثديي أمه؛ لما تاق إلى صدرها والتصق به، وآنس الرحمة والشفقة في صدرها الحنون.
ولا يَظُننّ أحد أن الحياة الأبدية والبقاء الأبدي يورث الإنسان السأم والملل كما يورثه الزمان الدنيوي الذي جعل أحدَ شعراء الجاهلية يقول معبرًا عن هذا الملل والسأم:
سئمتُ تكاليف الحياة ومَن يَعشْ ثمانين حولًا -لا أبا لكَ- يَسْأمِ
فالحياة الأبدية لا تسير على وتيرة واحدة أو لون وشكل واحد، بل هي حياة متجددة مع اللحظات واللمحات.. فهي غيرها في لحظة من لحظاتها عمّا سبقتها من لحظات.. وهي غيرها مع اللحظات الآتيات.. وهذا التجديد للحظات واللمحات، هو تجديد كذلك لحياة الإنسان.. فهو في صيرورة دائمة من حال إلى حال لا تتوقف أبدًا، وفي ترقٍّ مستمرّ في سلّم البقاء من الأدنى إلى الأعلى.. فهو -أي الإنسان- في كل لحظة، غيره في اللحظة السابقة، وغيره في اللاحقة.. ولعل الحديث النبوي الشريف: “إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ”[1] يشير إلى هذا المعنى؛ فهو عليه الصلاة والسلام في تجدد مستمر في ترقّياته الروحية -كما يقول علماؤنا- فهو يستغفر الله تعالى من ترقيه الأدنى، ويحمده إذا جاوزه للأعلى.. فمن أين يأتي السأم والملل للإنسان في حياته الباقية وهو في تجدد مستمر لا يتوقف لمحة واحدة؟ وكيف يسأم ويملّ وهو في حالة هيام وذهول بالتجليات الجلالية والجمالية التي تشكل لوحات متتالية، كل لوحة أجمل من الأخرى وأشد إبهارًا.
ولا بد من التنويه بأن أصول هذا الكتاب كانت عبارة عن خطابات ومواعظ ودروس كان يلقيها فضيلة الأستاذ فتح الله كولن من على كرسي الوعظ في مسجد “بُورْنُوَا” المركزي في مدينة إزمير ما بين 11 أكتوبر/تشرين الأول (1977م) وحتى 17 فبراير/شباط (1978م) من القرن الماضي، وهي مكرسة كلها لإثبات وجود الحشر والنشر، والحياة والآخرة، ولا سيما لجيل الشباب الجديد من المتعلمين أو أنصاف المتعلمين.
فهذا الكتاب من ألِفه إلى يائه يعالج القضية المضنية التي أعيت الأجيال، وشغلت العقول والأفهام، ألا وهي قضية معنى الحياة وغاية الوجود، وقضيّة “الموت” وما بعده، ويُجِيب عما يؤرّق الشباب خاصّة ويرهقهم من أسئلة عن الخلود والبقاء والأبد والأبدية التي بشّر بها مئاتُ الألوف من الأنبياء والرسل وكتبهم ورسالاتهم، والمئاتُ من الفلاسفة والحكماء وأصحاب البصر والبصيرة. ويقدّم في الوقت ذاته الغذاء للذين يعضهم جوعهم الروحي وعطشهم الوجداني، إنها ليست قضية فرد أو أفراد، أو شعب أو شعوب، بل هي قضية الجنس البشري بأجمعه، وقضية الحضارات التي قامت واندثرت، والحضارات القائمة والتي ستندثر يومًا ما، إنها قضية الإيمان التي نأت عنها الأجيال، وخاصمتها بعض الجماعات..
إني لأحسب أن هذا الكتاب يفيد في انتشال الكثير ممن ابتلعتهم هاوية مجافاة الدين والإيمان من الذين يعانون الخواء الفكري والروحي.
أديب إبراهيم الدباغ
1 أكتوبر/تشرين الأول (2015م)
إسطنبول / تركيا
[1] صحيح مسلم، الذكر والدعاء، 41؛ سنن أبي داود، الصلاة، 372.