1- تربية الأسرة
تناولنا في المدخل بعضَ القضايا التي كان لا بدّ أن نتفق عليها ونمعن التفكير فيها، وقد حاولنا لفت الأنظار إلى هذه القضايا التي ينبغي للجميع الوقوف عندها، والتفكير فيها بطرح بعض الأسئلة مثل: ما رأيكم في الحال العام؟ كيف تحللون الأحداث التي تجري حولكم؟ ما موقفكم من السلوكيات غير الأخلاقية التي لا ترضونها؟ هل فكرتم في إيجاد حلّ للمشاكل الأخلاقية؟
فإن كنا لا نستسيغ هذا الوضع الراهن في دنيانا، أو كانت بعضُ المفاسد تخترق صدورنا كالرمح، أو كنّا مستائين ممّن يقوم بهذه الأعمال غير الأخلاقية، فما الرأي وما العلاج الأمثل لهذه المشاكل في ظنّنا؟ أجل، لا بدّ من الإجابة على كلّ هذه الأسئلة؟.
إن تركَ الصلاة والاستهانة بها، والإعراض عن الصيام واستصعابه، والتسكّع في الشوارع والتجوال هنا وهناك كلّ ذلك يُناقضُ أخلاقَ المؤمنين، وإن كان البعض قد يرى أنها من مستلزمات الحرية، ومن ثمّ فإننا سنحاول كشف اللثام عن مفهوم كلٍّ من: الأخلاق، وعدم الأخلاق، والتربية؛ مستنيرين في كل ذلك بضوء القرآن الكريم، ومبادئه القويمة.
إنّ الركيزة الأهمّ في بناء الأخلاق هي الإيمان والعقيدة، ولكن ليس الأمر اعتقادًا فحسب، فالعقيدة إن لم تُدعّم بالتطبيق العملي، ولم يسلك الإنسان طريقًا يقتضيه إيمانه فستظل العقيدة مجرّد قناعة ليس إلا؛ وهذا أمرٌ يجعل العقيدةَ غير موجِّهة للفرد ولا مؤثِّرة في حياته الشخصيّة والأسريّة والاجتماعيّة.
والحقّ أن الإيمان هو مصدرٌ للقوة والنور، والكفر مصدرٌ للضحالة والخواء، لكن الإيمان الحقيقي لا تظهر قوته إلا بالعمل، ويتعسر لمن لا إيمان له أن يكون نافعًا لمجتمعه، والنافعون منهم قلّة قليلة جدًّا، فمثلًا هناك مَن لا يؤمن لكنه عفيف، وإذا ما نظرنا إلى هذا الأمر من حيث معاييرنا الأساسية، فلا أدري هل يعد هذا الشخص من الفضلاء أو لا؟ لأن الفضيلة الحقّة هي التي تعتمد أصلًا على الإيمان والشعور بالمحاسبة.
أجل، إن الإيمان بالله والملائكة والرسل والكتب السماوية واليوم الآخر والبعث والنشور والجنة والنار والقَدَر؛ من العناصر المهمة التي تنظم حياتنا وتصل بنا إلى مستوى الملائكة، وتكفل لنا معيشةً قائمة على النظام والتوازن، ومن الأهمية بمكانٍ أداء ما يقتضيه الإيمان بهذه الأمور.
إن الآخرة مَحكَمةٌ لمحاكمة ما في الدنيا، ومكانٌ للسؤال عمّا إذا كان العبد قد أدّى شكره لربه سبحانه وتعالى الذي خلقه إنسانًا في أحسن تقويم أم لا.
ففي الدنيا حشودٌ من الظالمين والجاحدين ومن يصرّون على عدم إدراك حكمة الله تعالى وتجاهل آثاره المعروضة والبادية للعيان، بل هناك مَن يغمض عينيه ويتجاهل الكثرة الكاثرة من الجماليات الظاهرة؛ وهؤلاء لهم أعين لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، وقلوب لا يفقهون بها؛ رغم التناغم والوئام فيما بين الآلاف من الألوان والأصوات والنقوش واللهجات.
وهؤلاء يبعثهم الله تعالى هم والمؤمنين ويعدّ لهم الجنة والنار، ويشرِّف الصالحين الفضلاء بدخول جنّته، جزاءَ ما قاموا به في الدنيا من فضلٍ وكمال، حيثُ بلغوا أعلى مرتبةٍ في كمال الإنسانية، وعاشوا منفتحين على الحياة القلبية والروحية وفي شوقٍ إلى بلوغ المعالي والكمالات.
أجل، إن المؤمن يفكر هكذا، وينظّم حياته وفقًا لذلك، ولذا لا بدّ أن تكون عقيدة الفرد والمجتمع متينةً جدًّا حتى تحفظهما قوة الإيمان من شتّى الأحاسيس المضلِّلة.
فلا خير يُرجى من عائلة أو مجتمعٍ أو أمة تتشكّل من أفرادٍ مذبذبين بين الإيمان وعدمه، على الناس بداية أن يكون إيمانهم بالآخرة -وهي غد الدنيا- أشدَّ من إيمانهم بغدِ أيامهم؛ حتى يكونوا قريبين من ربهم نافعين لمجتمعهم.
أجل، كما يحمل الإنسان همّ الجوع إن لم يعمل، فعليه أيضا أن يؤمن يقينًا بأن الله تعالى سيحاسبه حسابًا شديدًا إن لم يحسن العمل في الدنيا ويقُمْ بمقتضى ما يقرره إيمانه في شؤون حياته، والفردُ الذي يعتنق مثل هذا الإيمان يتجه إلى الأعمال الصالحة بقوة الدفع المركزية التي يشكّلها إيمانُه، ويبذل وُسعه للوصول إلى ربه عفيفًا طاهرًا.
وسنتناول في فصلٍ مستقل موضوعَ الأُسر التي تتكون من أفراد كهؤلاء، وسنتناول أيضًا التوجهات المختلفة للأسرة، وكيفية تحلية الشباب والصغار داخل الأسرة بالأخلاق الإسلامية العالية، وهذا في ضوء الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة.
﴿اَلْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (سُورَةُ الْكَهْفِ: 18/46)، فلو أحسنّا استغلالهما لكانا لنا الزاد والعتاد إلى الآخرة، فبهما يهيّئُ الله تعالى قلوبَ الناس للسعادة والسرور، ويجعل منهما زينةً للعين وغذاءً للقلب، وكلما رأى الإنسان هذه الزينة أحسّ بسعادةٍ دنيوية في حياته، وسعادةٍ أخروية في مآله، غير أننا إذا لم نسعَ إلى تخليد هذه الزينة فإننا نكون قد فوتنا على أنفسنا السعادة، ما من سعادةٍ نشعر بها إلا وتشوبها مرارة العيش.
أجل، قد يُزعجكم أولادكم وأحفادكم ودنياكم، لكن إن سعيتم إلى تخليد هذه الزينات، وأحسنتم رعايتَها من أجل مَن منحها لكم جلّ وعلا، وطوّرتموها واستخدمتموها في سبيله وفي الطريق الذي يريد، فستجدون البداية في كل نقطةٍ تظنونَها النهاية.
إن كلَّ زينةٍ وأُبَّهَةٍ وعظمةٍ فانيةٌ زائلةٌ بزوال الحياة الدنيا، بيد أنها ستتدثر بأروع الأشكال مع بداية العالم الآخر وتستمر هنالك.
2- أهمية المنزل
إن كمالَ أي أمة أو مجتمع يبدأ من الأسرة، ومن المنزل الذي أقامه الزوجان وتعاونا على تأسيسه، ولذا لا بدّ للتربية أن تبدأ من المنزل حتى يُكتب لها البقاء والاستمرارية؛ فلا يُتصوّر مجتمعٌ فاضل دون أن يقوم المنزل على أسسٍ تربوية، نعم، السياسة القويمة للتربية والتعليم مهمة في تنشئة إنسان نموذجي، إلا أن المنزل سيظلُّ يحافظ على أهميته وحيويته دائمًا بما يزوّد به الطفل.
فإن توفرتْ للعقول التغذيةُ السليمة في المنزل ولا سيما في طور التغذية اللاشعورية، فقد تُبدي -بشيء بسيط من النصح والتنبيه- سلوكًا يُبهرنا ما لم تتعرض لعواصف معاكسة، وذلك بفضل المكتسبات اللاشعورية التي حصلتها في صغرها.
أجل، النجاح في المنزل هو مرحلة أولية للنجاح في الحياة العامة، وهذه المرحلة مرهونة بالزواج القائم على أسس سليمة.
3- الغاية من الزواج
الأسرة ليست كما يفهم بعض الكتّاب مصنعًا لتوليد الأطفال، وليست آلة للتفريخ أو لإشباع الرغبات الجسمانية، إنما هي النواة الأولى للأمة وأهم جزء في المجتمع، وهي مؤسسة مقدَّسة أبرز معالمها النكاح، والنكاح ميثاقٌ له هدف وغاية؛ وهو يعني اقتران اثنين بعقدٍ مشروع في إطار مبادئ معينة، أما الاقتران الذي تنعدم فيه قواعد النكاح فهو سفاح وزِنًا في شرع الله عز وجل.
والدينُ يجعل الاقتران المشروع بالنكاح ركنًا وأساسًا وقاعدة للأمة الصالحة، بل إن الاقترانات المشروعة مرهونةٌ بغاية معينة، فحري بالمسلم أن يكون بالغَ الدّقة في مسألة الزواج؛ لأن الزواج العشوائي الذي يخلو من المقصد والهدف يُقوِّض الضوابط المشروعة.
أجل، لا بدّ أن يهدف الزواج إلى تنشئة جيلٍ يرتضيه الله تعالى، ويسعد به الرسول الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه.
أما إذا كان الزواج يفقد الغاية والهدف فهو ممحوقُ البركة، شأنه كشأن الأعمال التي تخلو من النية، وأيّ اقترانٍ يشبه الزواج، ويخلو من الغاية ولا يحاط بسياج من الإيمان ولا يكترث إلا بالمظهر الخارجي فقط فكثيرًا ما ينتهي بعدم التوافق وصعوبة التعايش فضلًا عن انعدام البعد الأخروي، وخاصة إن اقترن اثنان أحدُهما مؤمن والآخر لا يؤمن بالله ولا بالقرآن ولا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مناص من وقوع خلافات فكرية ودينية، وظهور أفكار متناقضة من حيث الإيمان وعدمه، وتناقضات لا يمكن التخلص منها.
والزواج الهادف هو الذي يقوم على العقل والمنطق إلى جانب الحسّ والعاطفة، فإن ارتبط الزواج بغاية وهدف عمّت الأسرةَ الطمأنينةُ والسكينة، أما إن لم يراع الهدف في الزواج فلا جرم أن النتيجة هي وقوع الكثير من المشاكل، وسيادةُ القلقِ والاضطرابِ الدائمِ على أفراد الأسرة.
لقد شرع الله الزواج وحثّ عليه، وربطه في الوقت ذاته بالهدف والغاية، في الواقع، لا بدّ أن يتّخذ الإنسانُ غايةً له في كل أموره وسلوكياته؛ حتى يصمد في أعماله ومشروعاته في سبيل الوصول إلى الهدف الذي ينشده، وإن لم يتخذ غاية لحياته لم يستطع أن ينظّم وقته، أو يصل إلى أي هدفٍ ألبتة، وإن شئتم فسمُّوا هذا منهجًا أو مبدأً أو غائيّة.
والحق أننا إن لم نتشبث بالغاية في سلوكياتنا وأفعالنا لضيّعنا قدرًا كبيرا من حظّنا في النجاح.
4- شروط الزواج
عني الدين الإسلامي بمسألة الزواج عناية كبيرة تفوق جميع التصورات، وبناء على ذلك فقد أولى فقهاء الإسلام هذه المسألة أهمية كبرى؛ فكتبوا حولها العديد من المجلدات، ودرسوها بدقة وعناية بالغة، وقسموا الزواج إلى واجبٍ وسُنّةٍ ومباح ومكروه وحرامٍ؛ وربطوه بالوضع الخاص للأشخاص؛ وهذا يعني أن الإنسان لا ينبغي له أن يتزوّج عشوائيًّا كيفما اتّفق، بل إن الزواج قد يكون للبعض واجبًا، وللبعض الآخر حرامًا… وهكذا.
وعلى ذلك فإن مَن ينشد مِن زواجه إشباعَ رغباته الجسمانية فقط فهل يُنتظر منه أن يهبَ المجتمع ولدًا صالحًا أو أسرةً نافعة؟ هذا أمرٌ مشكوكٌ فيه!
وتتقارب آراء الفقهاء من بعضهم في هذه المسألة، ولو استعرضناها لظهر التصنيف التالي بمعالمه الرئيسة:
الزواج الواجب: يكون الزواج فرضًا إن خاف الإنسان على نفسه الزنا، أو خطرَ الوقوع في الحرام وكان قادرًا على دفع المهر والنفقة على أسرته، بل إن البعض زاد على ذلك عدم القدرة على الصوم؛ بمعنى أن الزواج لا غنى عنه، بل هو الحَلّ الأمثل لمن يخاف الوقوع في الحرام، والإعراضُ عن الزواج من خلال طرقٍ غير طبيعية هو محاربةٌ للفطرة الإنسانية، ولا مناص من الهزيمة والخسران إزاء من يشن هذه الحرب.
الزواج المسنون: يكون الزواج سنةً إن كان للإنسان رغبة في الزواج، ولم يخشَ أي خطر.
الزواج الحرام: إن كان الزواج سيفضي إلى اتخاذ الشخص طرقًا للكسب غيرَ مشروعة من أجل الإنفاق على بيته وأسرته أو كان سيفضي إلى ارتكاب المحرمات مثل: الغش، والاختلاس، والرشوة، فزواج هذا الشخص حينذاك حرام، أو على الأقل مكروه، ومن الفقهاء من يرى هذا الحكم منطبقًا على فاقد الاتزان الذي قد يتأتَّى منه ظلم زوجته.
الزواج المكروه: يكون الزواج مكروهًا -وفقًا لرأي بعض الفقهاء- إن كان هناك احتمالٌ -لا يقين- بأن الزواج قد يوقع الإنسانَ في الحرام، أو يجرّه إلى الظلم.
الزواج المباح: يكون الزواج مباحًا -بل ومستحبًّا- إن كان الإنسانا يقظًا حذرًا يكسب رزقه من حلال، ولا يخاف على نفسه الوقوع في الحرام، وكان قادرًا على دفع المهر والنفقة، فمثل هذا الشخص إن شاء تزوّج، وإلا فلا.
ومَن يمعن النظرَ لا يرى بين أقوال الفقهاء في مسألة الزواج بونًا شاسعًا.
أجل، رَبَطَ دينُنا الزواجَ بغايات وأهداف، لأنّه ليس بالأمر الهين الممكن قيامُه على الحسّ والعاطفة فقط، لأن هذا الأمر المهم إن لم يقم على أسسٍ سليمة لا تتسبب في أيّ خواء منطقيّ أو حسيّ فلا غرو أن نهايته أناسٌ على أبواب المحاكم، وأراملُ وأطفالٌ لا عائل لهم، ولذا فإن الدين قد أقام من البداية سدًّا لكلّ هذا، وحجرَ على الناس الإقدام إلى مثل هذا الزواج درءًا لما بعده من السلبيات، وأدرجه في قائمة الحرام والمكروه، وفضّل في هذه المسألة طريقَ العقل والمنطق والمحاكمة العقلية على الحسّ والعاطفة.
الأمر الذي نؤكد عليه ههنا هو أن الزواج مسألة جدُّ مهمّة، وبه تتكون الأسرة التي هي أهم عنصر في المجتمع، ولذا فإنه لا ينبغي لنا عند التفكير في الزواج أن ننظر إليه على أنه أمر بسيط يتعلّق بالرغبات الجسمانية للفرد، بل على أنه مسألة عامة ووطنية ودينية ترتبطُ بسعادة الأمة بأسرها، بل والإنسانية جمعاء، أما بالنسبة للأمر الخاص بالحالة النفسية والجسدية للفرد فهي بمثابة منحة أو عطية يتفضّل الله بها على الإنسان حتى يتيسر تحقُّقُ الغاية العظمى، ويمكن القول بأنها عبارة عن سُلفة، أو مكافأة معجَّلة على الخدمة العظيمة التي سيقوم بها الفرد مثل حفظ نسل بني البشر وتنشئة أفراد ذوي شخصية عالية ترقى بمستقبل الإنسانية.
والحق أنّ الدين الإسلامي يولي أهمية كبرى إزاء هذا الموضوع، ويوصينا أن نتحلى بالدقة البالغة عند التفكير فيه، ونقيِّم الأمر جيّدًا، وأن نحذر من ارتكاب أي خطإٍ؛ حتى لا يتأسس المنزلُ على أسس واهية تودي به إلى الانهيار.
تحليل الأدلة
إليكم بعض الأدلة في الترغيب في النكاح:
1- يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (سُورَةُ النُّورِ: 24/32).
2- ويقول سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثٍ حسنٍ: “تَنَاكَحُوا، تَكْثُرُوا، فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[1].
3- ويقول صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخر: “تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ”[2].
إن مَن لا قدرة له على النكاح؛ يعني الإنفاق ودفع المهر، أو بالأحرى من لا يستطيع أن يعول أسرةً فعليه أن يصبر حتى يغنيه الله من فضله، دون أن يفرّط في عفّته، أو يقتربَ من الحرام.
وإنّ الآية المذكورة رغمَ ما تتفرّدُ به عن الحديثين من معانٍ جليلة إلا أنّها تتلاحَمُ معهما في توكيدِ الحقائق عينها والفِكرة الأساسية ذاتها.
أعني أن حديث “تَنَاكَحُوا، تَكْثُرُوا، فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” مضمونُه صريح إلا أنه قد يشير إلى مفهومٍ مخالف وهو: إن لم يستهدف المرءُ بالزواج تربيةَ نَسلٍ يَفتخر به سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا معنى قطّ من الزواج أو التكاثر، وبدهيٌّ أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لن يفتخر بنسلٍ وحشيٍّ صَدِئِ الفؤادِ لا تَعرف جبهتُه إلى السجود سبيلًا، ينغمس في لهو ومجون، ويجترح أعمالًا إرهابية، إن النسل الذي يريده سيّد الأنام صلى الله عليه وسلم هو نسلٌ يرضى عنه الله عز وجل؛ نسلٌ يعيش الدينَ ويعايشه، ويتلهّف ويتعطّشُ لنيل رضا مولاه عز وجلّ، وأظهرُ برهانٍ على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من بياناتٍ نورانيةٍ، يقول ربنا سبحانه وتعالى في واحدة منها: ﴿اَلْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (سُورَةُالْكَهْفِ : 18/46).
أجل، إن ابتغيتم الآخرة في أعمالكم كنتم من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
والنتيجة: أن الهدف الرئيس من الزواج هو تربية جيلٍ يُرضي اللهَ ورسولَه.
من أجل ذلك فعلى كلِّ متدينٍ، عاشقٍ لأمته، متمسِّكٍ بأسرته، يراعي الدقة البالغة في تربيته لأبنائه؛ ألا يتردّد ألبتة في مسألة إنجاب الأولاد بشكلٍ يتناسب مع أصوله ومبادئه، رغمًا عن الأفكار الضالة التي تحوم في بيئته؛ لأن تكاثر نسلٍ كهذا سيرسم البسمة على وجه أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأرى من الضروري عرض هذه الوصية الجامعة التي أسداها النبي صلى الله عليه وسلم للشباب فيما يتعلّق بالأفكار التي أوردناها حتى الآن: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ”[3].
أولًا: يقوم الصوم عامةً مقام الحِمية؛ فإنه يضبط المعدة، ويسيطر على المشاعر البشرية، وييسِّر استغلالها في السبيل الذي أمر به ربُّنا سبحانه وتعالى.
ثانيًا: الزواج حدثٌ خطير، وليس أمرًا بسيطًا يمكن أن يقرّره المرء أو يُقدِم عليه دون تأمل وإعمال فكر، فإنَّ أيَّ زواج تصحبه العجلة والسرعة دون إعمالٍ لعقل أو منطق يسوده القلق والاضطراب. وإنْ نشأ الأطفالُ في مثل هذه الأسر المضطربة فلا مناص من أنهم لن ينالوا حظهم من التربية اللازمة، ولسوف يَنشؤون كاليتامى وإن كان لهم أب وأم، وقد يصبحون أعداءً لأبويهم بل لمجتمعهم؛ حيث لا شعور ولا حسّ لديهم.
والوضع في معظم البلدان الغربية على هذا النحو. أجل، إنهم لا يعتبرون مسألة الزواج مهمة حيوية، ولا يحققونها وفق ضوابطها اللازمة، بل ينظرون إليها على أنها أمرٌ عادي تمامًا كالأكل والشرب وإخراج الفضلات؛ هدفها هو تلبية بعض الرغبات الإنسانية، وليس هكذا فقط، بل ضيّقوا من دائرة الغاية، وجعلوا الزواج خاليًا من المعنى.
إن أوربا الآن تدور على شفا جرفٍ تردّت فيه “روما” أمس، وتقترب من الموت خطوةً بعد خطوةٍ؛ لأنه لا بقاء لأمّةٍ فسدت فيها الأسرة، وانحلّت فيها أخلاقُ أفرادها.
لا أعرف كيف تفكّر الكنيسة في هذه المشكلة، وماذا يقول عنها علماء الاجتماع؟ وفيم يفكر التربويون؟ أما الذي أعرفه فهو أنه لا بقاءَ لمجتمعٍ معلولٍ بهذه البَلادة واللامنطقية.
ويُلَخِّصُ أحدُ المفكّرين الإسلاميّين انطباعه حول هذا الأمر فيقول:
“عند دراستي لحياتهم الدينية في أمريكا صادفتُ أشياء عجيبة، وذات مرة رأيت الرجال والنساء يدخلون الكنيسة متلاحمين لـيُـؤدّوا شعائرهم، وبعد أن انتهى القسُّ من طقوسِه اصطحبهم إلى قاعةٍ أخرى يرقصون فيها ويلهون ويقومون بأمورٍ أخرى، ثم أطفأ الأنوار، وكان في سعادة عارمة وهم في لهوهم ولعبهم. أجل، كان سعيدًا؛ لأنه قد أتى بهم إلى الكنيسة”.
بيد أنّ الغايةَ ليست هي مجرد الذّهاب إلى الكنيسة، بل ولا الذهاب إلى المسجد، ولا الطواف حول الكعبة، إنما الغاية الحقيقية هي رضا الله وأن يكون المرءُ على الطريق الذي يأمر به مولاه عزّ وجلّ ويرضاه.
ولقد سافر إلى أمريكا أحد الأصدقاء، فكان يعمل طبيبًا متخصّصًا هناك، ولما عادَ نقل لنا انطباعاته قائلًا:
“إن معظم الغادين إلى الكنائس الموجودة في مراكز المدن الكبرى، وفي الشوارع والأسواق المزدحمة هم من الشيوخ الذين انحنت ظهورهم، ويغلب عليهم النعاس عندما يجلسون، فقلتُ في نفسي: عجبًا! هل كل شباب أمريكا قد انحلّوا وفقدوا هويتهم؟
ثم ذهبتُ إلى كنيسة خارج نيويورك، كانت تقع على إحدى التلال، ولما وصلت هنالك رأيت الشباب، بل والجميع رجالًا ونساءً يتوافدون على هذه الكنيسة، فكان القسُّ في الكنيسة يقدّم لهم النصح دائمًا، ولكن لم يكن هناك من أحدٍ يكترث لهذا الأمر، كانوا جميعا غارقين في لهوهم ولعبهم، والقسّ يغض الطرف عن أفعالهم بحجة أن وجودهم في الكنيسة -بحدّ ذاته- ربحٌ ومكسبٌ كبير، كان بعضهم يتعاطى الهيروين، والبعض يتناول المورفين، والبعض الآخر مشغولٌ بأمور أخرى”.
وإنني لا أدري هل هناك فائدةٌ تُرجى من وراء الذهاب إلى الكنيسة على هذه الشاكلة؟
أجل، إن كان الذّهاب إلى الكنيسة لا يقوّي الإنسانَ روحيًّا، ولا يثير مشاعره الإنسانية، ولا يسوقه إلى حياةٍ إنسانية؛ فلا معنى ولا غاية من الذهاب إليها أصلًا.
5- مبادئ الفطرة في الزواج
أ. بسم الله: رأسُ كلّ خير
إنّ من ينجح في إقامة عشٍّ للزوجيّة وفقًا لما ذكرناه من مقاييس ومعايير فقد نجح في إحرازِ ما هو في غاية الأهمّيّة، فمثل هذا العشِّ يؤدي أحيانًا وظيفة المسجد وأحيانًا وظيفة المدرسة، وينفث روحَ الانبعاث في الأمة بأسرها، كما أن مثل هذا العش الذي يخضع للضوابط التي وضعها الله عز وجل يُعتبر الحمض النووي “DNA” للمجتمع بأسره.
وهنا أريد أن ألفت انتباهكم إلى مسألةٍ مهمة، وهي أننا نقول “بسم الله الرحمن الرحيم” في كل أمر نقوم به، ونعتقد حصول البركة إن تحلينا بالإخلاص في نطق هذه الكلمة، وكثيرًا ما شاهد المؤمنون المخلصون هذه البَرَكةَ عيانًا.
ونستعيذ بالله من شرّ الشيطان في كل أمورنا، ونستعينه جلّ وعلا أن يحفظنا؛ فنراعي الضوابط التي وضعها الله لنا حتى في أخصّ أمورنا، ويكون لدينا يقينٌ بأن هذه الاستعانة والاستعاذة سيترتب عليهما صلاح أبنائنا، وأن أصابع الشيطان لن يمكنها أن تمتدّ إلى النتيجة.
فمن لم يأخذ بهذه الاستعاذة وتلك الاستعانة مُنِيَ -نتيجةَ الإهمال الذي استصغره- بمصائب لا قِبل له بها وانسحق تحتها، ومن ثمّ يجب على الإنسان ألا يغفل عن أيّ نقطة في هذا الصدد، وأن يؤدي ما عليه صغيرًا كان أم كبيرًا، ويأتي بكلِّ أسباب النجاح في الامتحان الذي يخضع له، ويراعي الدقة البالغة عند أداء التكاليف المناطة به؛ ولا يقع في الغفلة مطلقا.
وإنّ الفتور اللحظي ليُطابِقُ الغفلةَ الصغيرةَ التي تنتاب السائقَ الجالس على عجلة القيادة، فتؤدي به إلى عاقبة وخيمة.
أجل، على المؤمن أن يتوكل على الله سبحانه وتعالى ويلوذ به في كلّ وقت وحين، وأن يكون هذا الشعور منطلقَه في مسألة النكاح أيضًا، تلك المسألة التي قد تبدو أمرًا بسيطًا، لكن غايتها لا بد أن تكون رضا الله لا غير، ولا يُتصوّر نكاح لا يُبتغى فيه وجهُ الله أن تتحقق فيه البركة أو يرُجى منه الخير.
أجل، إن النكاح رابطةٌ معنوية، وكرامته تكمن في ارتباطه بالله تعالى، وعلى ذلك لا بدّ وأن يكون المقصد من النكاح مرضاة الله حتى تحفّ به البركة، ولا بد أن يصاحبه الدعاء، وألا يخرج عن إطار الضوابط التي وضعها الله سبحانه، وأن يُسمّى الصداق؛ وما ذاك إلا ليكتب للزواج الاستمرارية، فأيّما نكاح ذُكِرَ فيه اسم الله غشيه اليمن والبركة، وكان سبيلًا للتوافق بين الزوجين، وكان ذلك الزواج محفوفًا بعناية الله عز وجل، وعسى الله أن يكتبَ له البقاءَ.
إن حوادث الطلاق كثيرة في أيامنا الراهنة، وكثيرًا ما يبدو الزواج ممحوقَ البركة، سيّئَ الطالع، لا خير يُرجى منه.
أجل، إن لم نبتغِ وجهَ الله في أعمالنا، ولم نراع القيم الإنسانية، بل كان أداؤنا للأعمال عاريًا عن الهدف، موصوفًا بالعشوائية، مرتبطًا بإشباع الغرائز فحسب، فإنَّ من المتحتم أن يتزلزل نظامنا الأسري كما اهتز وتزلزل نظام الأسرة في الغرب من الأساس، والواقع خيرُ دليلٍ على ذلك، نسأل الله السلامة.
ب. اختيار شريك الحياة
أما عن أول مسألة لا بدّ أن يفكر فيها مَن يُقدم على الزواج فهي البحث عن شريك حياة يتناسب معه في مشاعره وأفكاره، فكثيرٌ من الشباب الآن يقيِّم هذا الأمر الحيوي بعواطفه ليس إلا، ويسعى إلى تأسيس عش للزوجية فور تعرفه على فتاة التقى بها في الشارع أو السوق، ولا يحاول أن يسأل نفسه: من هي؟ وما محاسنها، وما مساوئُها؟ وما المنطق الذي يُعتمد عليه في الزواج وتأسيس عشّ الزوجية؟… بل يتغاضى عن كل ذلك، وبدهي أن مثل هذه الزيجات تكون عاقبتها وخيمة، ولو أنهم استعانوا برأيِ غيرهم ممن يقيّمون المسألة تقييمًا أفضل وبمعايير أخرى لكان أنفع.
إن الزواج الذي يعتمد على العاطفة قد يتحوّل من عشٍّ يُرجى منه أن يكون روضةً من رياض الجنة إلى عشٍّ يؤول إلى حفرة من نار جهنم، وهناك الكثير ممّن نعرف ثباتهم وحماسهم وعشقهم لِدينهم يعيشون في أزمة عميقة وفوضى كبيرة منشؤها عدم الحيطة في هذه المسألة وعدم التوافق بين الزوجين.
فالمشاكل والنزاعات لا تنتهي في مثل هذه الأسر، بل تتوالى تباعًا، فالرجل يريد أن يلتزم بدينه، والمرأة لا تريد، والعكس صحيح، ومن ثَمَّ فإن مثل هذا الرجل وتلك المرأة لن يتوافقا في أسرة واحدة ولا يمكنهما أن يتشاركا في عشٍ واحد، بل على العكس يعيشان كالأقطاب المختلفة دائمًا، ففي مثل هذه الأسرة يُقرأ نوعان مختلفان متضادان من الكتب، ونوعان من الجرائد، ونوعان من القصص، ويُعقد نوعان من الاجتماعات الأسرية، فالمرأة تريد شيئًا والرجل يرفض، والمرأة تتكلّم عن الدين والإيمان والأخلاق، والرجل يتّخذ هذا ذريعةً للنزاع والشجار، ففي مثل هذه الأُسَر طِرازان من الحياة، إن جاز لنا أن نسمّيها حياة.
وأحيانا ما ينحاز الأطفال في هذا التضارب والصراع إلى طرفٍ دون آخر، وأحيانا يفقدون مشاعرهم وأحاسيسهم بين هذين الجبهتين ويقفون موقف العداء للمجتمع والأسرة.
بناءً على ذلك فإن من الواجب للرجل والمرأة حين الإقدام عل الزواج أن يُمعنا التفكير في الأمر، ويستشيرا ذوي الخبرة، ويحدّدا جيّدًا أسباب الأفضلية.
وفي هذا الصدد يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ”[4].
والدين هو أهم أسباب التفضيل، فلو أن هناك اثنتين: إحداهما ذات جمال، والأخرى متوسطة الجمال لكنها كاملة التدين، وأتيح لك الخيار بينهما فلا بدّ من تفضيل ذات الدين والأخلاق.
أجل، إن الحياة الأسرية ليست مقصورة على الدنيا، بل لها امتداد في الآخرة أيضا.
ورغم أن البيت السعيد يُرجى منه أن يكون روضة من رياض الجنة فقد يتحول من جراء بعض الأخطاء إلى قبرٍ موحش، يدمِّر كلّ السبل التي توصِّل إلى السعادة في الآخرة.
ومن ثمّ لا بدّ من مراعاة مسألة الدين في اختيار شريك الحياة، لا سيما الأمور المتعلقة بالعقيدة، فأيُّ أبٍ يزوّج ابنته لشخصٍ منحرفٍ فاسد العقيدة يُعدّ مسؤولًا عن جميع المشاكل والمثالب التي ستقع، وينطبق الأمر على الرجل أيضًا، فإن كان هناك فسادٌ في العقيدة لدى الرجل فهذا يعني فسادَ الأمر من الأساس؛ لأن الإيمان ركنٌ أساس في صحة النكاح، فمن لم يؤمن بالله واستخف بأوامر الدين فلا يصح نكاحه بمؤمن ولا مؤمنة.
وبدهيّ أن الزواج الذي يُبنى على المقام والمنصب والشهرة والوظيفة فيه استخفافٌ بالدين، ومثل هؤلاء يخسرون في وقتٍ هو أدعى ما يكون للكسب.
إن التدين هو أهم مطلب لا بدّ أن ينشده كل من الزوجين إزاء الآخر قبل إقدامهما على الزواج، فأصول الدين هي العقيدة، والارتباط بإنسان فاسد العقيدة ليس زواجًا بالمعنى الحقيقي بحال من الأحوال، وإنما هو مجرَّد ارتباط.
وما أوردناه من أفكار هنا لا يهمّ سوى المتدينين الذين يذعنون لمعايير الدين وضوابطه، وأقول مرة أخرى: إن الزواج هو دعامةٌ مهمة جدًّا للسعادة في الدنيا والآخرة، فمَن أخطأ في مسألةٍ مهمة كهذه فقد أظلم دنياه وآخرته.
إن لم تعملوا بدايةً على تغذية مَن يحيط بكم من أبناء وأقرباء بالمشاعر الدينية تعذّر عليكم فيما بعد أن تتدخلوا في أمر زواجهم إلا أن تسعفكم عناية الله الخارقة وتقوِّم الاعوجاج الناشئ عن إهمالكم وخطإكم، وعندها نقول “هذه عناية الله”، ونتمنى دوامها، بيد أنها قد لا تتأتى دائمًا.
ج. تربية الولد الصالح
يجب على الأب والأم أن يتفقا أوّلًا على تنشئة الولد الصالح، فالأمُّ إذا لم يكن لديها استعداد أو قابلية لتربية الطفل، أو كانت على استعداد وقابلية لكنها امتنعت عن تحمل المسؤولية، وكان الأبُ لا يكترث بمشاكل أولاده أبدًا؛ فإن مصير أولادهما الذين يقعون تحت وصايتهما هو اليُتْم، وإن كان الوالدان على قيد الحياة.
لقد زوّد الله سبحانه وتعالى الأمّ بالشفقة والرحمة، والرقّة والحساسية، وجعلَ تربية الأطفالِ جزءًا من طبيعتها؛ ومن ثمّ فإن عليها أن تستثمر هذه الطاقة الكامنة في روحها في سبيل الارتقاء بأطفالها إلى الإنسانية الحقيقية؛ لأنها بمقتضى هذه الفطرة معلِّمة، ومربية، ومرشدة، وأعظم مهامّها تربيتها لأولادها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ الله بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ”[5]، وهذا الحديث يبرز بشكلٍ جلي الدور الرائع الذي تضطلع به الأم في تربيتها لطفلها.
وإذا كان على الأم أن تؤدي ما تقتضيه الخصال التي زُوّدت بها فعلى الأب أن يكون حذرًا دقيقًا كيِّسًا واعيًا على الدوام وفقًا لما تقتضيه فطرته ومكانته، فيشتغل بالتجارة والزراعة وغير ذلك من الأعمال، ويملأ الفراغَ الآخرَ في الأسرة وفقًا لما تستلزمه طبيعته وفطرته.
أجل، إن الرجل بما أوتيه من بنيةٍ مختلفةٍ وقوّةٍ وتحمُّلٍ مهيَّأٌ للقيام بأعمال أخرى، وفي الواقع فإن الرجل لم يزل هو ذاك الذي تناط به المسؤوليات الخاصة، بدءًا من تقطيع الأشجار في الغابة، وحرث الأرض وزرعها بالشعير والقمح وحصادها، حتى الاشتغال بأشقّ الأعمال في التشييد والبناء أو المصانع، وفي رأيي أن الرجل الذي يستطيع أن يتحمّل مثل هذه الأعمال الشاقّة بجسده وإرادته، عليه أن يحافظ على مكانته، وألا يشتغل بأعمال النساء، ولا يجعل امرأته تشتغل بأعمالٍ تتجاوز طاقتها.
فضلًا عن ذلك فإن الرجل هو مثالُ التحمّل، ولكنه ليس بطلَ الشفقة، فالشفقة هي أهم خصال المرأة إذ هي التي حملت ولدها في بطنها تسعة أشهر، وهي التي تحمّلت الكثير من المعاناة عند ولادتها لطفلها، وتجشّمت الصعاب في تربيته، فإذا أنَّ ليلًا نهضت على الفور لإسعافه، وإن بكى ضمّته إلى صدرها؛ إنها تعيش ليحيا الطفلُ انطلاقًا من انسياق وشوق نابعين من فطرتها، وهكذا فمن الممكن للرجل والمرأة أن يقيما بترابطهما الأسري عشَّ زوجيةٍ يحاكي قصور الجنة، ويشاهدان من خلاله جماليات الآخرة.
وفي الغرب يعمل كلٌّ من الزوج والزوجة، وحينذاك يعهدان بالطفل للغير أو الحضانة، وإنّ المرأةَ حينما تقوم بالعمل إلى جانب الرجل فإن أولادهما سيتعرّضون للوحدة وعدم الرعاية، وسيتلمّسُ الأبوان لأنفسهِما أعذارًا وحججًا قائلين: إنّ مَن أودعْنا عندهم أولادَنا أولو خِبرةٍ ورحمة، وسيُحسِنون رعايةَ أبنائنا أكثر منا…إلــخ، والحقُّ أنّ متطلّباتٍ أخرى يحتاجها الطفل ولا يجدها في غير أبويه.
قد يغسلون ملابسَ الطفل، ويراعون الدقّةَ في موعد تناوله لطعامه، فإن أراد أن يلهوَ خرجوا به إلى الملاهي ليلعب فيها، لكن مَن يفعل هذا لا يمكنهم أن يكونوا أمًّا أو أبًا ألبتة، ولا يقدرون على أن يمنحوه الشفقة التي يحتاج إليها، فالشفقة هي رابطةٌ فطرية يقرؤها الطفل في وجه أمه، ويجدها على صدرها، ويشعر بها في حِجْر أبيه، وليس هناك شيء يُشبع الطفل سوى هذا الشعور.
ولنضع الآن جانبًا الأطفالَ الذين يَعهد بهم ذووهم إلى الحضانات ولنتناول الأطفال الذين أسلمتهم أُسَرُهم في سنّ الصغر لحرفيٍّ في ورشةٍ ما، فإن كان هذا الحرفيّ قاسيًا غليظَ القلب انعكس ذلك على الأطفال الذين يُعانُون من قسوته باستمرار، فيَنشؤون على القسوة من غير أن يشعروا بذلك، لا يتورّعون عن التعامل بغلظة مع آبائهم وأمهاتهم، فضلا عن الأجانب، فإذا كان فعل هؤلاء الناس غلاظ القلوب سيؤثّر سلبًا على الأرواح الرقيقة لهؤلاء الأطفال الأبرياء، ويولّد هذا القدر من النتائج السيئة في مرحلة الصبا فليس من العسير أن نجزم بالحالة التي سيكون عليها هؤلاء الأطفال الذين أسلمناهم إلى الآخرين منذ نعومة أظفارهم.
إن الأمهات مَظهرٌ من مظاهر رحمة الله الذي عرّف نفسه لنا بالرحمن الرحيم، ولقد وردت كلمةُ “بسم الله الرحمن الرحيم” في القرآن مائة وأربع عشرة مرة. أجل، يمكننا أن نلحظ تجلّي ربّنا سبحانه وتعالى على البيت برحمانيته ورحيميته من خلال اهتمام الأم بأولادها ورعايتها لهم، ولا جرم أن هذا الحظّ العلوي لا يمكن أن يضاهيه شيءٌ أو يُستبدَل بشيءٍ في الدنيا.
في فترة ما كان هناك شبابٌ درسوا في الجامعة، بل تزوّدوا بالماجستير والدكتوراه إلا أنهم وقعوا في براثن البؤر الإرهابية؛ فنشأ جيلٌ قاسٍ بلا رحمة أو شعور، أبكى أبويه، وأحرق فؤادهما، غير أن هذا لا يمكن أن يتخذ ذريعة لعدم تعلمهم وتشجيعهم على العلم؛ إذ إن أولئك كانوا على خلاف القاعدة؛ فلا أحد يربّي ابنه لكي تتلقّفه رصاصة فتقتله، أو يزعزع من أمن المجتمع، ولكن قد لا يمكنه أن يحول دون انجرافه إلى التيارات غير المتوقعة، ولذا يجب على الأبوين أن يجعلا البيت حصنًا منيعًا ضدّ المساوئ المفاجئة والمخاطر المحتملة، وألا يسمحا بضياع أولادهما، وطريق هذا هو اتخاذُهما من التربية الأخلاقية هدفًا لتربية أبنائهما.
والحاصل أن على الوالدين أن يبذلا وسعهما من أجل تنشئة جيلٍ حساس واعٍ، وَفِيّ لوطنه وأمته ودينه، وألا يسمحا بأن يتعرض هذا الطفل لفراغ عقلي وقلبي وشعوري ومنطقي، فلو أن الأبوين متدينان متصلان بالقرآن، ويعرفان قواعد الإسلام فسينشأ الأطفالُ بإذن الله تعالى واعين يسطع بهم نجمُ مستقبلِ أمتهم.
6- الفضيلة العليا للأم
الأم هي أهمّ عنصرٍ في الأسرة، وهي التي تنشئ الأمّة، ولها في نظر الإسلام منزلة عالية؛ حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اَلْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَات”[6].
ذلك لأن الأم يدٌ مباركة تصوغ أمة، ومؤسِسةٌ لعشٍ يشكّل الخلية الأولى في المجتمع؛ ذلك العشّ الذي يغمر الأطفال وما حولهم بالنشاط والسعادة والسرور والحيوية…
أجل، لقد منح الإسلامُ الأمَّ منزلةً عالية جدًّا، حتى إنّ محاولة منحها منازلَ جديدة -مقارنةً مع منزِلَتِها في الإسلام- تهوينٌ من شأن هذا الكائن المقدّس، وهو تمامًا كَمَنْ أراد أن يلبسها طرطورًا مزينًا بقطع من الزجاج كبديلٍ عن تاجِها المرصّع بالزبرجد، وقد خلق الله الذكر والأنثى وزوّدهما بما زودهما وفقًا لأدوارهما، ووهبهما ما وهب حسب استعداداتهما، فالمرأة مخلوقٌ ضعيف نحيف جسمانيًا، تتأثر بالأحداث أسرع من الرجل، ومن الإجحاف أن نبعدها عن الأعمال الملائمة لطبيعتها، ونستخدمها في أمور لا تتوافق مع رقتها وملاحتها ووقارها.
لقد زوِّدت المرأة – ذلك المخلوق الرقيق- بخصائص تفوق الرجل فيها بمسافات بعيدة، فهي بطل الشفقة، ترعى أولادها أعظم رعاية، حتى إن الأب لا يمكن أن يجاريها في ذلك، وهذا الأمر لا يقتصر على عالم الإنسان فحسب؛ فالدجاجة رغم أن رأس مالها هي حياتها فقط، فإنها تضحي بها لإنقاذ وليدها من فم الكلب، وهكذا وضع الله سبحانه وتعالى هذا الشعور العميق بالشفقة لدى كلّ الأحياء تجاه أولادهم، وهو شعور سامٍ، فانزعوا ما تنزعون منها، وامنحوا ما تمنحون، فسيظل كلّ هذا ضحلًا مضمحلًا أمام ما يهبه ربّ العزة سبحانه وتعالى.
لقد حاولنا في هذا الفصل -الذي عرضنا فيه كلّ ما عرضناه بنظرة إجمالية- أن نقدّم النصح حول كيفية تأسيس عشّ الزوجية، وتوقفنا عند الجانب العقدي والجانب العملي في الإسلام، وعند تدين الزوجين، وتقسيم المساعي، والتعاون بين الزوجين، وتربية الأطفال تربية صالحة، وشدّدنا على بعض الأمور المهمة كتكوين أمّة ستكون مَفخرةً لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الفصل التالي سنتوقف عند ضوابط الأسرة.
[1] سنن ابن ماجه، النكاح، 1؛ عبد الرزاق: المصنف، 6/173، (واللفظ لعبد الرزاق).
[2] سنن أبي داود، النكاح، 4؛ سنن النسائي، النكاح، 11.
[3] صحيح البخاري، الصوم، 10، النكاح، 2؛ صحيح مسلم، النكاح، 1، 3.
[4] صحيح البخاري، النكاح، 16؛ صحيح مسلم، الرضاع، 53.
[5] سنن الترمذي، البيوع، 52.
[6] سنن النسائي، الجهاد، 6؛ سنن ابن ماجه، الجهاد، 12؛ القضاعي: مسند الشهاب، 1/102 (واللفظ للقضاعي).