تعيش تركيا الآن فترة تاريخية قلّ أن صادفتها خلال تاريخها. ورغم أن مقدمات هذه الفترة ترجع إلى سنوات ماضية فإن بداية ظهورها إلى العلن قد وافقت السابع عشر من ديسمبر عام (2013م)؛ حيث تمّ في هذا التاريخ القبض على بعض أبناء الوزراء ورجال الأعمال بتهمة الفساد وتلقي الرشاوى، فما كان من حكومة العدالة والتنميةإلّا أن أظهرتْ هذا الأمر على أنه محاولةٌ للقيام بانقلابٍ ضدّها، وابتدعت مفهوم “الدولة الموازية”، وتستّرت خلفه، وعَزَتْ كلَّ التهم المنسوبة لها إلى هذه الدولة الموازية، وحاولت وما زالت الانسلاخ من الأحكام القضائية التي صدرت بشأنها، وبعد ذلك طورت من هذا الخطاب، وهاجمت مَن سمّتهم “الدولة الموازية”، وأخذت تحرمهم من أبسط حقوقهم، فشَنّت الحرب على المدّعين العموميين ومدراء الأمن الذين صدّقوا على قرارات الاعتقال في السابع عشر من ديسمبر وبعضِ موظفي الدولة وأصحاب المقامات الرفيعة الذين وُضعوا ضمن القائمة السوداء، فنَفت بعضهم وأوقفت البعض وعزلت الآخرين عن مناصبهم وزَجّت بهم في السجن. جديرٌ بالذكر هنا: أن تركيا بدأت تضيّع المكتسبات التي حقّقَتْها خلال العقود الثلاثة الأخيرة في مجال الحقوق والحرّيات والديمقراطيّة وبدأت تتراجع تدريجيًّا عن تحقيق ذلك.
في الواقع كانت هذه الأحداث تُنْذِرُ بوقوعها منذ سنتين تقريبًا، ففي الثاني من فبراير عام (2012م) استُدعي “خاقان فيدان” رئيس جهاز المخابرات التركية من قِبل المدّعي العام وأُجري معه التحقيق بسبب ما ظهر من دلائل تثبت تورّطَ وقيامَ بعض الموظفين العاملين في جهاز المخابرات بدورٍ مهمٍّ في الأحداث الإرهابية التي وقعت آنذاك، غير أن رئيس الوزراء في تلك الفترة “رجب طيب أردوغان” لم يأذن بهذا التحقيق، وأصدر قانونًا على عجلٍ يقضي باشتراط أخذ إذنه قبل التحقيق مع رئيس المخابرات، وبعد ذلك طفت على السطح مسألة إغلاق الدولة -بلا داعٍ- للمعاهد التحضيرية المنتشرة في أنحاء البلاد، بدهيٌّ أن هذا الأمر كان يستهدف حركة الخدمة التي ينضوي تحت لوائها كثيرٌ من المخلصين الذين كانوا يشاركون بأنفسهم في كلِّ عملٍ يعود بالخير على الإنسانية أو على الأقل يدعمونه، فأنشأوا العديد من المعاهد التحضيرية للجامعة وفصول التقوية، كانت هذه المؤسسات تؤهّل أبناء الوطن للالتحاق بالجامعة، وبذلك تتيح الفرصة لمن يتعذّر عليهم الالتحاق بالدروس الخاصة أو الذين لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس الخاصة أو المدارس عالية الجودة؛ أن يلتحقوا بها ويتسابقوا مع أقرانهم، كانت هذه المؤسسات تتلقّى بطبيعة الحال رسومًا ممّن يلتحق بها، ولكنها مع ذلك كانت تُعرض عن أخذ الرسوم من الطلاب المتفوقين الذين يمرّون بأزمات مادّية صعبةٍ، وبفضل فصول التقوية التي افتتحها رجال الخدمة في ولايات شرق الأناضول -التي ضحّت بفلذات أكبادها في العمليات الإرهابية الغادرة- أُتيحت لأبناء هذه المناطق الدراسة في هذه المراكز، وبذلك أُوصِدَ الباب أمام انزلاق أرجل هؤلاء الشباب إلى مستنقع الإرهاب، ومن المعروف أن أحد الدوافع لإغلاق هذه المؤسّسات هو انزعاج المنظمات الإرهابيّة من وجود مثل هذه المراكز.
وفي الواقع لا تتبلور المسألة في الأحداث التي وقعت عام (2014م) أو العامين السابقين له، ولكن سيظهر فيما بعد أنه قد تقرّر إبادة حركة الخدمة في اجتماع مجلس الأمن القومي([1])، الذي عُقد عام (2004م) أي بعد أن وصلت حكومة “حزب العدالة والتنمية” مباشرةً إلى سدّة الحكم في تركيا، وأخذت هذه الخطة تُنفّذُ على أرض الواقع بشكلٍ تدريجيٍّ.
والكتاب الذي بين أيديكم يحتوي على حوارت خمسٍ أُجريت مع مهندس الفكر لحركة الخدمة أو حركة المتطوعين فضيلة الأستاذ “فتح الله كولن” عام (2014م)، لذا تُسلِّط هذه الحوارات الضوءَ على الأحداث التي وقعت هذا العام.
1- حوار مع جريدة الشرق الأوسط، نشر في (24-25 آذار/مارس 2014م)
2- حوار مع جريدة “زمان” التركية، نشر في (17-21 آذار/مارس 2014م)
3- حوار مع قناة “بي بي سي” الفضائية، نشر في (27 كانون الثاني/يناير 2014م)
4- حوار مع جريدة “وول ستريت جورنال الأمريكية، نشر في (21 كانون الثاني/يناير 2014م)
5- حوار مع جريدة “لا ريبوبليكا” الإيطالية، نشر في (28 آذار/مارس 2014م)
وأخيرا نرجو أن يكون هذا الكتاب “كلمات شاهدة” وسيلةً للتعرف على ذلك المنعطف التاريخي الخطير الذي تمرّ به تركيا في الوقت الحالي.
[1] مجلس الأمن القومي: هو هيئة منوطٌ بها التواصل مع مجلس الوزراء وتبليغه آرائها المتعلقة بتحديد سياسة الأمن القومي للجمهورية التركية والقرارات الخاصة بكيفية تطبيقها، علاوة على تحقيق التواصل والتناسق بين المؤسسات المعنية، ويجتمع مجلس الأمن القومي باستثناء بعض الجلسات الطارئة مرةً كلّ شهرين برئاسة رئيس الجمهورية، ويشارك في هذا الاجتماع علاوة على رئيس الجمهورية: رئيس الوزراء، ورئيس الأركان العامة، ومساعدو رئيس الوزراء، ووزراء العدل والدفاع والداخلية والخارجية، وقادة قوات الجيش التركي.