إنَّ مسألة القدر قد عُدَّت من مزَلاَّتِ الأقْدام منذُ سَالف العصُور؛ لذا أَجمل علماء الإسلام أهم أُسسها بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، دون أن يخوضوا في جوانبها المتشعّبة والعَميقة صوناً لعوام النّاس من الضياع في مسالك يجهلونها لدى البحث عن التفاصيل الدقيقة التي فيها.
ولكن بمرور الزمن أخذ الفكر المادي ينتشر في العالم كله، حتى أصبح أساساً لأنظمة بعض الدول، والحجر الأساس لأنظمة التعليم في مستوى العالم كله، فبدأت أجراس الخطر وصفارات الإنذار تدقّ عندنا كذلك، إذ أخذ يغزو تدريجاً مراكز التعليم في العالم الإسلامي أيضاً، حتى غدا كأنه أسلوب يحتذى به، فنمّى روح الانتقاد بنشر الشبهات والريب في الأوساط العامة والخاصة. وعندها وجد الماديون مسائل القدر كأنها موضع هَشٌّ للهجوم، فشنّوا هجماتهم في هذا الموضع بما يملكون من قوة، في الوقت الذي كان المسلمون يتحرجون من الخوض فيه.
إن الأجيال الحاضرة الذين جُرّدوا من التعليم الديني وحُرِموا منه، باتوا ضعافاً، عزّلاً وبلا حماية ووقاية تجاه هذه الهجمات المكثفة القوية، فأصبحوا حيارى تائهين، بل لم يقدر الكثير منهم الصمود لإنقاذ نفسه من التردي في دوامة الإنكار والجحود.
وجبهتنا ما كانت أفضل حالاً من غيرها، إذ كانت تعاني من صدمة عدم التهيؤ والاستعداد للمبارزة، حيث المعلومات المتراكمة منذ أمد بعيد ما كانت تُغني شيئاً لمجابهة أسلحة الهجوم الحالية، فضلاً عن أن الجبهة المقابلة تعمل بتنظيم وتنسيق، وبشخصية معنوية عالمية. وثانيا كانت تستهدف التدمير والتخريب دون التعمير الذي هو صعب وعسير. وثالثاً إنَّ تيار الإلحاد كان قويًّا وسارياً سريان الوباء. ومن هنا ما كان هناك تكافؤ بين الجبهتين: فالجبهة المضادة لها وزنها وثقلها، مما دفع أهل الوجدان الغيارى إلى الفزع من المصير، ولاسيما عندما بدأ هذا الفكر ينتشر انتشار النار في الهشيم حتى غزا المقاهي والمجالس العامة.
ففي هذا الوقت الدقيق الحرج بدأ العالم الجليل م. فتح الله كولن بمواعظه ودروسه بأسلوب حواري بين سؤال وجواب، وانطلق يجوب في ميدان واسع جدّاً من العمل، بدءاً من منصة الوعظ في الجامع إلى مقاعد المقاهي العامة المنتشرة في المناطق المختلفة في المدينة إلى محيط الجامعة وصفوف المثقفين. وقد كنا شهود عيان لهذا العمل الدائب والخدمة الجليلة، إذ ما كان يصدر سؤال من أي أحد كان، وبأي أسلوب كان، فيطرحه دون تردد وإحجام، إلاّ ويأخذ جواباً شافياً وافياً. ولاسيما الأسئلة الواردة حول مسائل القدر، لما فيها من غموض ومزالق أقدام. فكانت الأجوبة واضحة جلية نيِّرة تزيل ما علق في العقول والأذهان من أدران الشبهات، وتنقي الأفكار من لوثات الضلالات المشوشة. ولقد كنا نلمس التحول ونشاهده رأي العين، إذ كانت الجلسات تبدأ بعدم المبالاة وعدم الاكتراث من الحاضرين ولاسيما في المقاهي، وربما قلة توقير وإحجام عن الإنصات، أو بردود مفتعلة وإثارة صخب، ولكن بعد فترة إذا بالحاضرين يتحولون إلى آذان صاغية تدريجيّاً ويستمعون إلى المحاورة وكأن على رؤوسهم الطير.
كانت الأسئلة والأجوبة تسجّل على الأشرطة، وتتناقلها الأيدي. فنجّى الله بها الكثيرين من الحيارى من مستنقع الضلالة، وأصبحوا سبباً في إنقاذ أصدقائهم؛ لأن الكلمات التي تلقى في المحاورة ما كانت كلمات باردة وتعابير منطقية جافة فاقدة للروح، بل ثمرات أينعت في قلب حزين وسقيت بدموع عين شاهدت ضياع جيل كامل غير محظوظ، قد فقد التسليم والانقياد وانهدّت لديه أُسس الاحترام والتوقير، وغرق في مهاوي الإنكار والجحود.. نعم هذه الكلمات كانت تحمل من الحرارة النابضة والدفق الحيوي والعطف والحنان، حتى أصبحت وسيلة لإرجاع الكثيرين إلى رشدهم وعودتهم إلى صوابهم، بل دفعتهم إلى إنقاذ من يليهم بإذن الله.. نعم إنها كانت اهتزازات وجدان ينقب عن دواء من صيدلية القرآن الحكيم وينتقي منها ما يلائم عقول المخاطبين الذين كان منهم من لا يعرف حتى آداب السؤال، فيضع البلسم الشافي كالطبيب الحاذق ويسقيهم إياه بعطف وحنان غامرين، فأثمرت بفضل الله نتائج بهيجة جميلة في عالم أرواح المخاطبين.
إن موضوع القدر بشكله التعريفي يعرض أمام المخاطبين في مساحة واسعة سعة الكون أجمع، إذ يبيّن النظام الدقيق في الكون كله بدءاً من الذرات والنوى والبذور إلى السيارات والمجرات، فيوضح أن كل موجود في الكون قد صُمم وخُطط له مذ خلقه ربه. ويبين أيضاً أن انكشاف معنى القدر في وجدان الإنسان وحلّ أسراره واحدة تلو الأخرى، هو الآخر نقطة أساس في هذه المسألة، ويُلفت النظر إلى الفروق بين مفهوم القدر لدى “المبتدئ” الذي ما زال في أول الطريق، والذي قطع أشواطاً بعيدة في عمق الإيمان وسر الإخلاص والاستغراق في العبادة حتى بلغ “المنتهى”. ويُنبه أيضاً إلى أن معرفة بعض دقائق علم القيافة وحلّ بعض أسرار ماهية الروح ووظائفها من ملامح وخطوط سيماء الإنسان ينعقد أيضاً في القدر. ومن جانب آخر لا يَشِلُّ إرادة الإنسان ويمنحها حقَّ الاختيار. وفي الوقت نفسه يضع لإهل البصائر مقاييس وجْدانية، بدءً من مسؤولية الاختيار بلا غرور إلى قضيته ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾(الأعراف:172). والحقيقة إن نفاسة الأجوبة تضفي على الموضوع بعداً آخر من الجمال والبهاء .
والفصول الثلاثة الأولى لهذا الكتاب، جامعة لسلسلة المواعظ والدروس التي ألقاها ارتجالاً العالم الجليل م. فتح الله كولن، وسجّلت مباشرة على أشرطة التسجيل، ثم حُوّلت إلى أسلوب الكتابة، وعُرضت على الأستاذ المؤلف الفاضل. وبعد إجراء التصحيح والتشذيب خُرّجت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة. أما الفصل الرابع من الكتاب فهو فصل الأجوبة عن الأسئلة التي وجِّهت إلى الأستاذ الفاضل بوسائل مختلفة وفي مواضيع شتى.
وبعد الانتهاء من تنسيق الكتاب وضعت له فهارس، فأصبح حقّاً كتاباً يمكن عده من كتب المصادر والمراجع.
وعلى الرغم من أن تلك الهجمات المكثفة المنظمة تبدو كأنها توقفت، فإن إلقاءات النفس ووساوس الشيطان تكدر صفو عالمنا الداخلي في أحْيَانٍ كثيرة، مما يزيد الحاجة إلى هذه الأدوية الشافية.
وفي الواقع إن هذا الكتاب “القدر في ضوء الكتاب والسنة” ليس هو أجوبة لبعض ما ورد من الأسئلة فحسب، بل هو شعاعات إيمانية يجد بها القلب والعقل والوجدان اطمئنانه، ومن هنا تكون الحاجة إليه ماسة وباستمرار.
إن العمل للإيمان والقرآن وعلى مستوى العالم، يبدأ في الحقيقة بتقعيد هذه الحقائق الإيمانية على أسس متينة، إذ العالم برمته بحاجة إلى هذه الحقائق التي يجهلها وفي المقدمة أوربا وأمريكا. ولهذا تقتضي الضرورة ترجمة هذه الحقائق إلى لغات العالم الأخرى ليعم نفعها.
ونغتنم هذه المناسبة لنقدم أجزل شكرنا إلى أستاذنا الفاضل ونبارك الذين أصبحوا وسيلة في إنجاز هذا العمل الجليل. سائلين المولى القدير أن يرزق أستاذنا عمراً مباركاً ويوفقه للمزيد من العمل في خدمة القرآن والإيمان.
آمين.
صفوت سنيح