على الداعية في أثناء تبليغ دعوته أن يكون في منتهى صفاء القلب ورقة الروح، أي عليه أن يحمل قلباً صافياً صفاء دعوته وسطوعها، إذ بخلافه تكون علاقته مع الحق سبحانه كَدِرةً بنسبة كدورة عالمه الروحي. فيزول تأثير كلامه. ويمكننا أن نعبّر عن هذا بالآتي:
لا يرجو المبلغ شيئاً لدى تبليغه غير رضوان الله سبحانه وتعالى. وطالما هذا طوره فسيجد الله معه، ويستشعر بروحانية الرسول الكريم وهمّة العظماء ظهيراً له. وهذا ما لا يشك فيه أحد، إذ لئن كانت تُنتظر من البذرة التي تلقى في التراب أن تتحول إلى ألف بذرة فلابد ألاّ يركن إلاّ إلى قوة الله جل وعلا. إذ الرجاء من أبواب أخرى ليس إلاّ الخسران المبين. والحقيقة أن فهمنا للتوحيد يقتضي هذا، إذ كما لا شريك له سبحانه في ذاته فلا شريك له في أفعاله أيضاً. فلا يخلق الهداية والضلالة إلاّ هو، فهو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينـزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويذل من يشاء.
نعم، إن السير في مجاهدة الإنسان نفسه لبلوغ هذه الذروة من صفاء القلب ورقة الروح شاق وعسير، ولكن بلوغ الهدف في الذروة أيضاً حظ عظيم وسعادة كبرى.
انظروا إلى أبى حنيفة النعمان، إنه يرفض وظيفة القضاء حفاظاً على صفاء قلبه ورقة روحه، ويُعذّب أيما تعذيب تحت سياط الظلمة، ولكن لا يقبل ما عدّه فخاً وشِباكاً لروحه.( )
وكذا الإمام الشافعي قد بذل قصارى جهده لئلا يكلّف بمثل هذا الأمر.( ) بل رضي بأن يعيش عيش الكفاف كسائر الناس، رافضاً كل ما كلّف به من مقام ومنصب تحت ضغوط قوية من قبل الدولة، ففضّل ذلك العيش على أن يقبل وظيفة للدولة، وآثر ألاّ يعرف موضعه وحاول ألاّ يتعرض إلى ما تعرض إليه أبو حنيفة النعمان.
وجهاد الإمام أحمد بن حنبل في سبيل القرآن لم ولن يُمسح من ذهن التاريخ. إذ قال “القرآن غير مخلوق” وأصرّ على كلامه هذا طوال عمره.( ) وكان يمكنه بسهولة أن يتجاوز ذلك بالتعريض ولكن كان يأباه قطعاً.
و”روى البيهقي عن الربيع قال: بعثني الشافعي بكتاب من مصر إلى أحمد بن حنبل فأتيته وقد انفتل من صلاة الفجر فدفعت إليه الكتاب. فقال: أقرأته؟ فقلت: لا. فأخذه فقرأه فدمعت عيناه. فقلت: يا أبا عبد الله وما فيه؟ فقال: يذكر أنه رأى رسول الله في المنام فقال اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ السلام مني وقل له: إنك ستُمتحن وتُدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم: ويرفع الله لك عَلَمًا إلى يوم القيامة. قال الربيع: فقلت حلاوة البشارة فخلع قميصه الذي يلي جلده فأعطانيه. فلما رجعت إلى الشافعي أخبرته. فقال: إني لست أفجعك فيه ولكن بلّه بالماء وأعطينيه حتى أتبرك به”.