المبلّغ صاحب عالم روحي عميق أيضاً، ذلك لأن قوله ينعكس على الآخرين بنسبة عمق عالمه الروحي، فكلما اقترب إلى المولى العزيز قرّبه المولى إليه حتى يكون بصره التي يبصر بها، وأذنه التي يسمع بها، ويده التي يبطش بها، فيكون الله سبحانه وتعالى أساس كل حركة ونأمة له. بمعنى أن حركاته كلها تجري في ظل تأييد الله سبحانه. فكلما عمل بما عَلِم علّمه الله ما لم يعلم وسدد خطاه. حتى يغدو حلاّلاً لأصعب المعضلات المستعصية على الآخرين وبكل سهولة ويسر. فيتميز في المجتمع لاستمراره عليها. ويصبح ممثلاً عن الصراط المستقيم. ومن كان شأنه هذا، ترده فيوضات مقدسة من الله سبحانه، فيديم إرشاده بجاذبة قوية للمجال المغناطيسي المتولد من تلك الفيوضات، حتى يصبح محيطه كأنه ظل إلهي يتفيأ إليه الألوف بل مئات الألوف من الناس، وهكذا فالجاذبية القوية لدى المرشدين العظام نابعة من هذا العمق الداخلي، إذ قد حصل المرشد الذي بلغ هذه الحالة على اليقين التام وامتلك زمام القوة الساحرة لليقين. وما بلوغ اليقين إلاّ بلوغ الكمال في الإيمان، حيث يقول الرسول r: “اليقين كله إيمان”.( )
واليقين يعني تجهيزعقل المؤمن بالبراهين، وإعمار ذهنه بالتفكر، وإشعاع الأفكار بالإلهام، وذوبان النفس بالعبادة والطاعة، وتحول القلب إلى مرآة مجلوة ناظرة إلى الحق تعالى بدوام المراقبة والمشاهدة.
اليقين وصول إلى التوحيد، مَن بلغه فلا يخاف أحداً، ولا يرجو من شيء، إلاّ الله سبحانه وتعالى، إذ كل شيء عنده من الله تعالى، لأنه آمن بأن الخير والشر كله من الله تعالى.
فالذي بلغ اليقين من هذا الجانب، لا يفتر، لا يخاف، يستقبل الموت متبسماً، يعيش في الآخرة ولماّ يغادر الدنيا، إذ يؤمن أن براق الموت سيوصله إلى مشاهدة من يشتاق إليه، لذا فهو في بهجة وسرور دائمين، وفي الحديث الشريف: «خيار أمّتي فيما أنبأني الملأ الأعلى قومٌ يَضحكون جهراً في سَعَةِ رحمةِ ربّهم ويبكون سرّاً “ليلا” من خوف عذاب ربهم… قلوبُهم في الدّنيا وأرواحُهم في الآخرة».( )
نعم، لقد غدا غاية المنى لكل مرشد أن يبلغ أهل اليقين الذين يشاهدون الدنيا والآخرة معاً فيستشعرون الوحدة. وهذا هو ما ننتظره من أنموذج المرشد ونترقبه، والذي لا يملك أدني ميل إلى الدنيا من حيث إنها دنيا، ولا يفكر بالبقاء فيها لولا وظيفة الإرشاد، فأمثال هؤلاء هم المرشدون المتخلقون بالأخلاق المحمدية. وعلى كل مرشد أن يكون على هذا النمط.
يذكر السيد طاهر المولوي الذي شرح المثنوي لجلال الدين الرومي، يقول: كنت مع الشيخ عاطف في الزنـزانة، والشيخ من أرباب الأقلام واستيعابٍ لثقافة عصره. وقد أعدّ دفاعا قويا للجلسة الأخيرة لمحاكمته التي ستعقد صباح غد. ولكن الشيخ عاطف بعد أدائه لصلاة الفجر مزق دفاعه الذي كتبه أمس ورماه في سلة المهملات. سألته ما الذي حدث؟ لِمَ مزقت الدفاع؟ أجابني بالآتي:
لقد سعدتُ هذه الليلة برؤية سيد الكونين r؛ كنت جالساً ومنهمكاً بكتابة الدفاع، فخاطبني قائلاً: يا عاطف ما هذا التهالك؟ ألا تريد المجيء إلينا؟ قلت: وكيف لا أريد يا رسول الله؟ وهذا يعني أن وقت لقائه قد حان. فهل من داع للدفاع؟
وهكذا حكمت عليه المحكمة بالإعدام، فاستقبل قرار الحكم متبسماً وباطمئنان بالغ عميق؛ لأن هذا الحكم سيحقق اللقاء مع رسول الله r. وكيف لا يفرح من يركب مثل هذا البراق؟! وكيف لا يغرق في الاطمئنان والسكينة من سار في هذا الطريق باستقامة، وراقب رِضَى الله في كل منـزل من منازله، وآمن بتوفيقه إلى توجّه الله ورسوله إليه في كل خطوة يخطوها. نعم مثل هذا الرجل قد يُقتل ويُعدم ولكن لا يُغلب قط.
نعم إن الذي يوصل المبلّغ إلى التوفيق في النتيجة هو حفاظه على صفاء الروح ورقتها على الدوام. لأن الذي نذر نفسه لله وسعى لكسب رضاه وحده سبحانه سيبلغ مراده ومطلبه قطعاً، إن لم يكن اليوم فغداً في الآخرة. فماذا فقَدَ من وجَدَ الله وماذا كسب مَن لم يجده، حتى لو كانت الدنيا كلها ملكه.
أليس الأمر كله لقاء الله بقلب سليم حي؟ ولِمَ نهتم بما بعده من أعمال فارغة وقضايا نحن في غنى عنها؟ نسأل الله تعالى القدير أن يحفظ قلوبنا برقتها وصفائها إلى يوم لقائه جل وعلا، فهو ربنا… آمنا بأن رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه. فلا نسأل غير رضاه ورحمته.