المبلّغ -في الوقت نفسه- إنسان منطقي، سواء في تقييمه الأحداث أو في تفهيمه مخاطبيه؛ فهو دائماً ينـزل منازلهم ومستوى مداركهم، ومن ثم يقنعهم بما يريد، حيث إن كلامه يكون مقبولاً لا يلام عليه بنسبة مطابقة أقواله وأحواله للمنطق والواقعية. ولا يظنن أننا نحث المبلغ ليكون فيه جفاف المناطقة، وإنما نريد منه أن تكون أطواره وتصرفاته منطقية وضمن حدود المعقول والواقع، علاوة على ما ذكرناه سابقاً. ودونكم مثالا ملفتا للأنظار من رسول الله :
جاء شاب إلى رسول الله، والصحابة لا يذكرون اسم هذا الشاب، ولكن إن قمنا بجمع هذه الروايات وتوحيدها نعلم أنه جليبيب ..
فعن أبي أمامة: “أنَّ فتىً من قريشٍ أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأقبل القوم عليه وزجروه فقالوا: مه مه، فقال: “ادنه”، فدنا منه قريباً فقال: “أتحبُّه لأمك؟” قال: لا والله جعلني الله فداك! قال: “ولا الناس يحبُّونه لأمَّهاتهم” قال: “أفتحبُّه لابنتك؟” قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك! قال: “ولا الناس يحبُّونه لبناتهم” قال: “أفتحبُّه لأختك؟” قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك! قال: “ولا الناس يحبُّونه لأخواتهم” قال: “أتحبُّه لعمَّتك؟” قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك! قال: “ولا الناس يحبُّونه لعمَّاتهم” قال: “أتحبُّه لخالتك؟” قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك! قال: “ولا الناس يحبُّونه لخالاتهم” قال: فوضع يده عليه وقال: “اللهم اغفر ذنبه وطهِّر قلبه وحصِّن فرجه”، قال أبو أمامة: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.”( ) فأصبح جُليبيب من أعف الشباب في المدينة.
وبعد مدة وجيزة خرج رسول الله في غزوة له. فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه: “هل تفقدون من أحد؟” قالوا: نفقد فلانا ونفقد فلانا. قال: “انظروا هل تفقدون من أحد؟” قالوا: لا. قال: لكني أفقد جُليبيباً” قال: “فاطلبوه في القتلى”. فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فقالوا: يا رسول الله هاهو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتاه النبي فقام عليه فقال: “قتل سبعة، ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه” مرتين أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله على ساعديه وحفر له، ما له سرير إلا ساعدا رسول الله، ثم وضعه في قبره.( ) وهكذا أصبح جليبيب بجناحي المنطق والدعاء طائرا من طيور العالم الآخر.