أ- معرفة المخاطب
إن المبلّغ يتفقد أحوال مخاطبه عن كثب، ويتصرف تجاه أخطائه برحابة صدر، فيتخذ تجاه المؤمن طور المروءة. أما تجاه أهل الكفر والإلحاد فيتصرف بالدراية والكياسة. وبهذه الأساليب يتمكن أن يتقرب إلى قلب مخاطبه ومنطقه من جهة، محبباً إليه ما يريد تبليغه ويسوقه إلى القبول من جهة أخرى.
نعم، المبلّغ يعرف جيداً أوضاع مخاطبه، فيبتعد كلياً عن كل ما ينفّره من أسلوب أو تصرف، فما يبلّغ إلاّ أموراً سامية طاهرة. ولاشك أن من يبلغ عن الله ورسوله r وكتابه واليوم الأخر ويحبب ذلك إلى قلب مخاطبه، يقدر مدى أهمية عمله فيقوّم أحواله وأطواره وتصرفاته وفق تلك الأهمية؛ لأن أيّ امتعاض يستشعره المخاطب من أطواره، ربما يكون سبباً لتنفيره مما هو مكلّف أن يحببه إليه. فهل من خسارة أفدح من هذا؟ وسـنتحمل جميع المسؤوليات في الآخرة إن كانت نابعة من أحوالنا وسلوكنا.
تأملوا! كيف كان الرسول r يبلّغ بأسلوب لا يشعر معه المخاطب أنه غارق في الإثم؛ فلم يك يخاطب الكافر ولا المجرم كمدان أمامه، بل كان يوجه كلامه بصورة عامة، دون تشخيص وتحديد، وكان يصعد المنبر ويرشد إلى أمر من الأمور الفرعية التي رأى تقصيراً فيها داخل الجماعة.
كان صحابي t يدعو ربه ممداً يده إلى السماء رافعاً صوته، وهو قريب من مجلس الرسول r. فهذا الوضع يخالف آداب الدعاء، ولكن الرسول r بدلاً من أن يخاطبه ويبين خطأه، خاطب الجميع قائلاً: “اربَعوا على أنفسكم إنّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا إنّكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم”.( )
و”جاء رجل إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله إنّي وَالله لأتأخّر عن صلاة الغداة من أجل فلان ممّا يطيل بنا فيها”. فاشتد غضب الرسول r من هذا الكلام وهو أعلم بالإمام، ومع هذا لم يستدعه ليحاسبه بل خطب بالناس مرشداً لهم وقال: “يا أيّها النّاس إنّ منكم مُنَفِّرِينَ فأيّكم ما صلّى بالنّاس فليُوجزْ فإنّ فِيهم الكبيرَ والضّعيفَ وذا الحاجة”.( )
هكذا كان أسلوبه تجاه أخطاء الآخرين، حيث كان يسعى لإنقاذهم، لذا قدم لهم كل مسألة من المسائل بأبسط أشكالها وأكثرها عملياً.
فقد قال رسول الله: “أيّها النَّاس قولوا لا إله إلاّ الله تُفلِحُوا”.( ) ومن هنا نرى أنه خطأ جسيم أن تجعل المخاطب في حالة الشعور بالإثم، بل يقال ما يراد قوله دون تشخيص أحد من الناس، وعلى المبلغ أن يستفيد من هذا الكلام كلٌ حسب استعداده، كاستفادة الأشياء من أشعة الشمس، وبخلاف هذا الأمر يصعب التئام الجروح.
بـ- الحذر من النقاش والمراء
إن المبلّغ حذر جداً من أن يؤول الكلام في الحوار إلى جدال ونقاش، إذ المتكلم في المجادلة والمناقشة هو “الأنانية”. فهذا الجو الذي لا يراد به الوصول إلى الحق، يسلّم زمامه إلى الشيطان. ولهذا فمهما كان الكلام الذي نريد أن نبسطه للمخاطب مقنعاً ومؤدباً، لا يؤثر فيه ولا يجد القبول الحسن لديه. وإذا ما نظر إلى المسألة من زاوية نفسية المتحاورين يظهر أمامنا أن المراء لا خير فيه، لأنه مثلما نتهيأ للظهور على خصمنا كذلك المخاطب يتهيأ مثلنا في الأقل، ولا شك أن الأدلة التي نسردها لإثبات مقولتنا قد استعد هو لتفنيدها بأدلة أخرى. وهكذا يتحول الحوار في المراء إلى كلام عقيم ولو طال ليالي وأياماً.
لقد دخل الرسول الكريم r مرة أو مرتين مناظرة وحاول إقناع مخاطبيه( ) إلاّ أن أمراً لا بد أن يُنبّه إليه هو أن الطلب كان يأتي من الجهة المقابلة، وفي مثل هذا الموقف لا يظل الرسول r ساكتاً، لما يؤثر في القوة المعنوية لمستمعيه. ومع هذا فالذين أتوا لأجل المجادلة والنقاش أكثرهم لم يقتنعوا قناعة تامة وإنما أُلزموا إلزاماً، والإلزام لا يعني أن المخاطب قد اهتدى.
ولقد قابل الرسول الكريم r علماء بني إسرائيل طوال سنين، ولكن لم يحدث أن اهتدى واحد منهم في مثل هذاه اللقاآت، علماً أنه رسول عظيم ينـزل الإلهام من العرش الإلهي إلى قلبه الطاهر كالشلالات، وخلقت الكائنات لأجله، وتزخر سيرته العطرة بالمعجزات. ومع هذا فكل من دخل ضمن نطاق المجادلة والمناقشة لم يعرج إلى عرش الهداية وإنما ظل في نطاق الإلزام.
كان عبد الله بن سلام الذي يهودياً، فأتى الرسول لقبول الحقيقة، فقال في نفسه: إن كان هذا هو الذي شمائله مذكورة في التوراة، أؤمن به، قال: “فجئت في النّاس لأنظر إليه فلمّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رسول الله عرفت أنّ وجهه ليس بوجهِ كذّاب”.( )
وفي المراء أيضاً لا يخطر بالبال دائماً رِضىَ اللهِ سبحانه، لأن المبلِّغ والمبلًّغ له، يكونان في حالة متوترة ومشدودة بالأنانية، ففي مثل هذا الجو الذي ليس فيه رِضىَ اللهِ سبحانه مهما كان الكلام جيداً لا يحصل منه الهداية والتأثير حيث الهداية بيد الله وحده، ولا ترد في مواضع ليس فيها رضاه سبحانه.
جـ- الانخلاع من الأنانية
الأنانية عامل يعيق الهداية، ويزيل بركتها، سواءً للمبلّغ أو المخاطب. لذا فالمرشد والمبلّغ ينخلع من هذا الحس المضر، بل يقول ما يريد قوله ضمن تواضع وإنكار ذات. وبهذا ينقذ مخاطبه أيضاً من فكر مسبق ومن العناد. وفي الحقيقة لا يحق لأحد كائناً من كان أن يتشبث بالأنانية. ومن الواضح أن كثيراً جداً من الكلام الذي يستعمل فيه المبلّغ أنواعأً من العقل والمنطق والبلاغة والفصاحة مع ما ينساب من لسانه من البيان إلاّ أنه لا يؤثر على أحد قط. بينما من لا يكاد يبين ولكن فؤاده منسحق، إذا بكلامه يكون مؤثراً، ويجعله الله سبحانه وسيلة لهداية قسم من الناس.
د- معرفة البناء الفكري للمخاطب
سأتطرق إلى مسألة ربما تعدّ من الأمور الفرعية ولكن لا يمكن تجاوزها:
على المرشـدين والمبلّغين أن يهتموا اهتماماً جـاداً بالبناء الفكري لمخاطبيهم. وإذا ما حصرنا المسألة في دائرة ضيقة خاصة نقول:
إن وجود الجماعات الإسلامية في يومنا هذا حقيقة واقعة، والاعتراف بوجودها شيء وتصويب عملها شيء آخر. وإن التعامي والتغاضي عن شيء موجودٍ فعلاً ورفضَه لا يأتي بشيء؛ لذا فالمرشدون والمبلِّغون عليهم أن يتذكروا كل حين أن أيّ شخص في محيطهم أو ممن يستمع إليهم ربما هو منتسب إلى مشرب معين أو إلى إحدى الجماعات، فيوردوا كلامهم وفق ذلك، ولا يذكروا ما يومئ إلى تهوين جماعةٍ أو انتقادها والأدهى من ذلك اغتيابها. فكل مشرب أو جماعة -فضلاً عن قبولها أن مشربها ومسلكها حق وجميل- عليها أن تكون على خُلق التسامح مع الآخرين، ومعترفة بحق الحياة لهم، ذلك لأن الله سبحانه لا يرضى خلاف هذا الطور الذي يقطع البركة ويزيل اليُمن. وليعلم كل مرشد أنّ عليه احترام الجماعات جميعها، ومسايرة عرفان مخاطبه، ليكون كلامه مقبولاً لدى الجماعات كلها، إذ لا يرضى الله عمن يتعامل بسوء مع مَن يذكُره، ولا ممن ينتقد المؤمنين، ويقطع الصلة مع الذين ارتبطوا به، ولو بكلمة التوحيد وحدها.
والحقيقة أن مدى ارتباط المبلّغ بالله سبحانه يتبين مما يمدّه من عرى العلاقة مع كل من له ارتباط بالله؛ فمقياس علاقتنا مع مخاطبينا هو بنسبة علاقتهم بالله سبحانه. والمرشدون والمبلّغون يراعون هذا الأمر أكثر من غيرهم، فيدعون الناس لا إلى مشربهم بل إلى الإسلام مباشرة. ولعل انبساط هذا الشعور هو أهم عامل في دفع الجماعات والمشارب المختلفة إلى الاتحاد وجعلهم كالجسد الواحد.
إن معرفة المخاطب هي بالإحاطة بمستواه الاجتماعي وبناه الثقافي. هذه حالة مهمة جداً من حيث فن التبليغ، فكما أن التبليغ والإرشاد وظيفة، فإن معرفة فن التبليغ وظيفة أخرى. فمثلاً: إذا واجهك عدو مسلح بالمدفع والبندقية، وأردت صدّه بالعصا. فهذا عمل بلا شك، ولكن تصبح به سبباً لفشل ذريع، لأنك لم تراع فن التبليغ، ولا سيما إن كان هذا الطور في نطاق عمل إسلاميّ فإنه يضر كثيراً.. ولقد ذكرنا سابقاً وأكّدنا عليه: أن معرفة فن التبليغ أحد الشروط التي لا يمكن أن نتجاوزها، بل هي في مقدمة شروط التبليغ. فبمقدار إيماننا بضرورة التبليغ نعتقد أنه ضروري أيضاُ فن التبليغ. فالكلام الصادر منا إن كان فوق المستوى الثقافي للمخاطب بكثير أو دونه بكثير، فعملنا هذا لا يوافق فن التبليغ وقد لا يجدي شيئاً. فالمسألة التي تشرحها ابتداءاً للغارق في الإلحاد، المضطرب في الكفر، ليست بفضائل قيام الليل والتهجد بلاشك، بل تفهّم له الأسس الإيمانية فهماً ملائماً لمنطقه العقلي وبأسلوب علمي حيث إن الكفر يرد في الوقت الحاضر من جانب العلم. ولكن ويا للأسف كم من أخطاء ترتكب نحو الملحدين البائسين هي نابعة من التشخيص الخطأ وأسلوب العلاج الخطأ. نعم، إن الانشغال بمظاهر الجيل الحاضر وبملابسه بدلاً من الانهماك بتعمير قلبه وضماد جروحه، دفَعه إلى النفور والهروب.. فمثل هذا الخطأ في فن التبليغ مسألة جديرة بالاهتمام حيث يؤدي إلى ضياع حياة الإنسان الأبدية.
نعم، إن كان الذي تخاطبه يتكلم باسم العلم والفن فلا يعقل أن تقرأ عليه من كتب الفقه الأولية. وهذا لا يعني قطعاً التهوين من شأن هذه الكتب الفقهية، وإنما المقصود إفهام أن هذا العمل ليس في موضعه. وكذا إن كان المخاطب ينكر الآخرة، فأنت لا يمكن أن تتقرب إليه بذكر مناقب الأولياء؛ فالإنسان ليس مخلوقاً من مشاعر وحواس فحسب كي تؤثر فيه هذه المناقب، فهو علاوة على تلك المشاعر يحمل منطقاً في عقله، ولا بد أن يقتنع من حيث المنطق أيضاً؛ يقول سعد الدين التفتازاني لدى شرحه الإيمانَ: إن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده، أي بعد صرف الجزء الإختياري، فعليك أن تشرح الإيمان بالأدلة، والله سبحانه ينوّر قلبه بالإيمان. والحقيقة أن هذا الإيمان يَسُوق الإنسان إلى العمل الصالح وإحلال الدين كُلاً لا يتجزأ في الحياة المعيشة. بينما الإنسان الذي دخل الدين بمشاعره وأحاسيسه، ربما يتركه عند غلبة تلك المشاعر والأحاسيس بشكل آخر.
يشير القرآن الكريم في مئات من آياته الكريمة إلى مسائل العلم والتكنولوجيا، ولكنه ليس كتاباً للفيزياء أوالكيمياء، وإنما القرآن يحث المؤمنين ويرشدهم بإشارات وإيماءات لأجل الإرشاد العام وللحاجة إلى هذه الفروع العلمية. والذي لم يطلع ولو قليلاً على علم الفلك، ولم يقرأ علوم الحياة ولو قراءة عابرة، لا يمكن أن يفهم كثيراً من آيات القرآن الفهم المطلوب؛ لأن فهم آيات كثيرة جداً مرتبط بالاطلاع على هذه العلوم. وهنا نذكر الآتي من دون أن نطيل الكلام في فروع العلم المختلفة، فنقول: إن مرشدي ومبلغي يومنا الحاضر بحاجة ماسة إلى متابعة ما وصل إليه العصر من علوم وفنون وتكنولوجيا ولو بشكل معلومات أولية،وبخلافه يظل إرشادهم إرشاداً خاصاً لا يشمل الناس عامة.
هـ- معرفة ثقافة العصر
إن أحوالنا الحاضرة تدمي القلوب شباباً وشيباً. وهذه الحالة المؤلمة نابعة -إلى حد ما- من ضحالة ثقافة مَن يتقدم إلى الإرشاد والتبليغ. إذ لا يمكن من يجهل ثقافة عصره ومدى فهمه وأسلوب خطابه أن يفهّم إنسان عصره شيئاً. ويجب ألاّ يخطر بالبال: إن كان مضراً تفهيم شيء للآخرين من دون الإطلاع إلى ما ينبغي الإطلاع والتعرف عليه من علوم العصر، فهل يسقط عنا وظيفة “الأمر بالمعروف”؟ كلا!! بل لئن استدعى الذهاب إلى النجوم لأجل الإرشاد واستوجب جلب ما ينبغي تبليغه من هناك، لكان من أفرض الفروض الذهاب إلى هنـاك وجلب ما يجب لتقديمه إلى المحتاجين. فلقد صرعوا جيلنا بالفيزياء، وأركعوهم بالكيمياء، وأنـزلوا على رؤوسهم الشهب بالفلك. فيجب عليك أمام هذا الموقف ألاّ تقف مكتوف اليدين. بل هو دَين عليك أن تأخذ بيد هذا الجيل مستعملاً الوسائل نفسها لترفعه من كبوته وتضمد جراحاته المادية والمعنوية وتسمو به إلى الأعالي من جديد. وتعلوا معاً كيلا يتردى مرة أخرى وينسحق تحت الأقدام.
إن كل شيء في الكون وكل ما يحدث فيه لسان وغصن، فالمؤمنون عليهم أن يتعلموا هذا اللسان ويستمسكوا بهذه الأغصان، وإلاّ عجزوا عن فهم الآيات التكوينية. وكل فرد أو أمة لا يفهم الآيات التكوينية يُضرب عليه الذل والمسكنة. علماً أن القرآن الكريم يشرح هذه الآيات التكوينية ضمن آياته البينات. ولا يُعدّ تالياً للقرآن الكريم حق تلاوته مَن كان يسد أذنه عن هذه الآيات التكوينية ولو ختم القرآن يومياً. فلقد أرسل الله القرآن ليتدبّر الإنسان ويفكر في آياته، وكل من ينصر القرآن عليه أن يفهم هذا الأمر.
إن الحقائق التي نبلّغها مهما كانت مباركة وسامية، مشكوك أمر تأثيرها إن لم تُبلّغ وفق إدراك العصر وفهمه وأسلوبه. وتقديم الدين والقرآن على صورة موضوعات غامضة ملفعة بالأسرار والتي لا يمكن أن تمر من مصفاة المحاكمات العقلية، لا يعدو عن كونها غير تكدير لأذهان الجيل وزيادة كفر الكفار. ونحن منذ سنين نرى بوضوح هذه اللوحات المؤلمة ونملأ صدورنا هماً وكمداً.
كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فوق مستوى ثقافة عصرهم بكثير. وكانوا يبلّغون مسائل الدين بمستوى ذلك العصر الثقافي. والذين تبعوهم كانوا أيضاً مثلهم في التبليغ. فمثلاً ما كان يفهمه الإمام الغزالي وهو مجدد عصره يجعل المخاطبين في ذلك العصر في حيرة وإعجاب. ودامت هذه الحيرة والإعجاب إلى مدى العصور. ومما يجلب الانتباه رأي مفكري الغرب من أمثال “جب” و”رينان” عن الإمام الغزالي، إذ قالوا: لم نر أحداً متمكناً من ثقافة عصره كالغزالي. وهكذا كان جميع الأئمة الأعلام من المجددين كالإمام الرباني، ومولانا خالد، وأمثالهم من العظام الذين سبقوا عصورهم علماً وثقافة. وكانوا يبلغّون الدين وفق مستواهم الرفيع ويتنفسون أنفاسه. ولهذا وقع كلامهم في قلوب مخاطبيهم موقعاً حسناً ووجد قبولاً عاماً عندهم.
و- المرشد مرِن
نعم، يكون مرناً ويحافظ على مرونته هذه، لأنه أحيانا ينـزل في أعماق الوديان العميقة، وأحياناً يصعد أعالي المنابر؛ إذ بين مخاطبيه من هو في كلتا النقطتين، وهذا يقتضي أن تكون مساحة ثقافته واسعة جداً. وإلاّ فلا يكون مرشداً حقاً، بل من قطاع طريق الإرشاد من الأشقياء.. وما عليهم إلاّ أن يتنحوا من أمام الأمة، وأَلاَّ يكونوا ظلاً قاتماً عليها، وأن يفتحوا الطريق لكي يأتي المرشدون الحقيقيون ويمدّوا أيديهم إلى هذا الجيل المنكوب.
يقول أحد كبار المرشدين، الذي يخفق قلبه بآلام الأمة: “إن قلب المؤمن يتفجر ألماً بعدد ذرات وجوده حيال جحود شاب”. نعم هذا هو القلب المضطرب. ومن لا يشعر بهذا القلق لزوال الإيمان من الجيـل ليس جديراً بالإرشاد. فالمرشد هو البطل الذي يدرك عصره ويستهين بزخارف الدنيا كلها. بل ينسى -ولو موقتاً- نعيم الجنة، ساعياً لأداء مهمته، حسبةً لله وكسباً لرضاه وحده. نعم هكذا يجب أن يكون ليحظى بتوفيق الله وليطمئن إليه مَن حوله.
سبق وأن ذكرنا ما يلزم أن يعرفه المرشد عن مخاطبيه؛ فكما أن إعطاء الدواء قبل تشخيص المرض خطأ بيّن، كذلك القيام بالتداوي قبل تشخيص ما يعاني منه المخاطب خطأ مثله، بل أدهى وأمر. وهذا هو إحدى وظائف المبلّغ. ولا أرى داعياً لأذكر أنه لا يلائم كل مرض أي دواء كان.
أناس أعرفهم، يجدون خلاص الإنسانية في العمل في سـاحة الاقتصاد والصناعة الثقيلة فيُكثرون الكلام حول أهميتها. فمثل هذه الأفكار على الرغم من أنها تدور في الأوسـاط باسم الإسلام إلاّ أنها لا تعدو أكثر من تقليد بسيط لماركس وأنجلز. فقد أفلست هذه الأفكار وتفرق منتسبوها ولم يتمكنوا من الحفاظ على حيويتهم، فكيف بالأفكار التي هي تقليد ساذج لها يمكنها منح الإنسانية الحياة المطلوبة؟ وكيف يعقل هذا فضلاً عن أن يسوق من يتبعه إلى مثل هذه المغامرة؟ إن تصديق مثل هذه الخدمة أمر ثقيل عليّ.
كلا.. ثم كلا.. فو الله إن لم تتكفلوا بالجيل الحاضر وتربوه في ميدان الروح، وتنفخوا فيه الروح، ولم تعمرّوا فيهم الشعور الأخروي، فلن تنفع تنشئته بالتمشدق بالحضارة ولا المصانع التي تقيمونها أو أقمتموها.
إن هذا الجيل السائب الخاوي من الروح لا يشبعه أي فكر مزخرف مزركش ما لم يرعوه رعاية منظمة. والظن بأنه يمكن علاج اضطراب الجيل بالحلول الاقتصادية هو الغفلة بعينها.
ولما كان العالم الإسلامي في الوقت الحاضر قد فقد القدرة على الكلام وفق فنون العصر، فقد أُسـقط من موقع الخطاب للعالم. فهو في موضع الاستماع والاستماع فقط لا غير. ولو تمكن من تركيب ما سمعه وتحليله، فلعل يوماً من الأيـام يتمكن من الارتقاء إلى موقع القائد فيُسمِع الآخرين كلامه. ولكن وآأسـفاه لم يستطع أن يكون بعدُ حتى مخاطباً جيداً، وانعكست هذه الحالة المزرية نفسها على الدعوات الخاصة أو المؤسسات الخاصة. وأصحاب هذه الدعوات أصبحوا عاجزين أمام مخاطبيهم بنفس القياس. علماً أن في أيدينا القرآن الكريم الذي يتحدى عقل العالم بأسره ويخاطب الإنسانية كافة. وكذا في أيدينا السنة النبوية الخالدة التي توضح القرآن أجمل توضيح. وكم هو مؤلم أننا لم نعرف لحد الآن كيفية الاستفادة الحقة من هذين المصدرين. فلم نغص في البحر المحيط القرآني باتحاد العقل والقلب معاً. ولهذا صمت القرآن والسنة ولم يحدثانا بمكنونات نفسيهما، فلئن مضينا على هذه الحالة فإن صمتهما سيدوم. فلا نجاة لمسلمي اليوم من هذا الكابوس المخيم عليهم.
نعم، الدنيا في تحول وتغير. والعلم والتكنولوجيا يتوسعان وينتشران بسرعة مذهلة ولكن ما يقوله بعضنا لا يتفق ومقاييس الدنيا المتوسعة، بل يتعلق بما قيل قبل ثلاثة عصور ويظل هناك لا يغادره، فنكون بعيدين جداً عن جيلنا الحاضر. فلا يعير سمعه لكلامنا.
ز- النظر من زاوية العصر
المرشد والمبلّغ في الوقت الحاضر لا بدّ أن ينظر من زاوية عصره المعيش، قبل أن يتطرق إلى المسائل. وهو بادئ ذي بدء يجب أن يكون خبيراً بالبناء الروحي للمخاطب. ويجب أن يعلم أيضاً ما هي المسائل التي انغرست في ذهنه انغراس السهم المسموم. ثم يتكلم بما يريد أن يتكلم ضمن هذه المعرفة. وذلك كي يلقى القبول الحسن، وينعكس في قلب المخاطب ويستقر في ذهنه؛ حيث إن جيلنا الحاضر يفقد دمه، ونحن لا نعطيه إلاّ مضادات حيوية.
إن المسائل التي تطرقنا إليها إلى هذا الحد، ليست ادعاءات مجردة، وإنما ركائز في الإرشاد تستند إلى الكتاب والسنة. فالقرآن الكريم في أول آية نـزلت ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾(العلق:1) يلفت النظر إلى الآيات التكوينية لدى ذكر الخلق.. فجميع الفلاسفة بدءاً من أبيقور وديموقريط ومنه إلى سقراط وإلى أفلاطون وحتى الذين عاصروا الرسول r انهمكوا كلهم بموضوع الخلق وسعوا في تحليله وتدقيقه. بمعنى أن الناس -في ذلك الوقت- كانوا على شيء من المعلومات عن الخلق. فكانوا على علم بأن بدء الإنسان من قطرة ماء وأن الجنين يمر بأطوار مختلفة في رحم الأم؛ ولكن القرآن الكريم تناول المسألة من زاوية واسعة جداً وخاطب الناس: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾(العنكبوت:20).
هكذا يقول القرآن، والعلم البشري والفكر البشري لم يوضحا لحد الآن، كيف بدأ الخلق، ولن يوضحاه؛ إذ لا يمكن ذلك إلاّ بإسناد الأمر إلى الله جل جلاله.
بينما القرآن الكريم يستهل دعوته بإيضاح هذه المسألة المعضلة المحيّرة، وفي الوقت نفسه يلفت الأنظار إلى الآيات التكوينية، والتي قلّدتها القدرة الإلهية والإرادة الربانية كقلادة مزينة في عنق الكون، وجعلتها كمعرض عجيب أُشهر للأنظار ككتاب مفتوح أمامنا لقراءته. فنحن إذن في موقف تدقيق ما في هذا الكتاب والمعرض والقلادة، لأجل تقويم الحوادث الجارية وفهمها، ولا عدول لنا عنه.
فالمرشدون والمبلّغون الذين يسعون لإدامة حيوية جماعتهم بمجرد إثارة العواطف والأحاسيس، يخالفون الآيات التكوينية، ولا يَعِد سعيُهم شيئاً للمستقبل. لأن الخطوات المبنية على حُسن الظن فحسب ملتوية ومنحرفة لا تستقيم، لذا تدع صاحبها في قارعة الطريق بعد فترة قصيرة. ولكن لو تمكنوا أن يشعلوا جذوة حماسهم باتحاد العقل والقلب معاً وهيأوا جماعتهم لمواكبة شروط الزمان، فإن هذه الرابطة لا تنفصم قطعاً، لأن مرور الزمان لا يؤثر فيها، والحوادث المثيرة تقويها وتشحذ الهمم والإرادة.
أريد أن أنتقل إلى أمر آخر استطراداً: إن هذه اللوحة مثيرة جداً أمامنا جميعاً وهي:
إن كثيراً من أبناء أناس متدينين يتمرغون في الإلحاد والكفر، سواء في خارج البلاد أو داخلها. وبالمقابل هناك الكثيرون من أبناء أناس لا نصيب لهم من الدين ينعمون بالإيمان. حتى إن بعضهم هربوا من ضغوط عوائلهم بحثاً عن مواضع ليديموا حياتهم الدينية. ولن أذكر ما شاهدته من الوقائع حيث لا تغني المسألة شيئا، ولكن لنعلم أن مثل هذه الحوادث قد وقعت وستقع أمثالها في المستقبل؛ فالعائلة التي ترفل بالدين ولم تعلّم ولم تقْدِر على تعليم الدين بقدر عقول أولادها وبمستواهم الروحي، يحصل فراغ في أذهان أطفالها، والشبهات التي تتعلق بهم تسبّب إنحرافهم عن الدين وخروجهم عنه؛ إذ من الطبيعي ألاّ يسأل هؤلاء أحداً من خارج العائلة عن المسائل التي تدور في أذهانهم، لأنهم تربّوا في جوّ ديني في كنف العائلة. ولكن التربية الدينية التي تلقوها في البيت لا توصلهم إلاّ إلى حدّ معين.
فقد كنت ضيفاً على عائلة كهذه وكنا نتباحث مع رب البيت، الذي كان متديناً خالصاً ذا قلب رقيق سليم حتى استحييت من نفسي أمام هذا الطهر والنقاء. وبعد برهة دخل علينا ابنه الطالب الجامعي، وفهمت من كلامه أنه ملحد، وكأن البيت قد انهدّ عليّ وجمدتُ في مكاني، فقلت في نفسي قاصداً ذلك الرجل الطيب: يا ليتك لم تنشئ ابنك ملحداً بدل أن تظل نقياً تقياً إلى هذا الحد.
ومقابل هذا فالطفل الذي يتربي في أسرة لا دينية يجد دافعاً في نفسه للاستفسار عما لم يتمكن من حله من المسائل، فأية يد تمتد إليه من الخارج وتتمكن من حل معضلاته فسيرضى بالإسلام ويحبه لأن الإسلام قد فهّم له وفق شروط زمانه. بينما تدين الطفل الآخر الذي تربى في عائلة دينية لم يتجاوز التقليد، وقد بلغ به الأمر حداً لم يعد ينفعه هذا الإيمان التقليدي. والآن نرجع إلى صدد الموضوع.
حـ- النـزول بمنازل المخاطب
يقتضي مستوى المخاطبين النـزول إلى مستواهم، فالمرشد والمبلّغ في هذه الحالة عليه أن يكلّمهم بقدر عقولهم. ويمكن أن نوضح هذه الملاحظة بالآتي:
إن النـزول بمنازل المخاطب خلق إلهيّ، والرسول r يدعونا إلى التخلق بأخلاق الله، والقرآن الكريم بكامله كلام إلهي تنـزل على عقول البشر. تُرى كيف كان حالنا لو لم ينـزل القرآن منسجماً مع استعداداتنا وعقولنا وطاقاتنا.
نعم، لو كان الله سبحانه تكلم في قرآنه المجيد بمثل ما تكلم به مع موسى u في جبل الطور لما كنا نطيق كلامه. وأيضاً لو كان القرآن قد نـزل بأسلوب يفهمه ذوو القرائح الداهية لما كان يستفيد منه تسعة وتسعون بالمائة من الناس. والحال أن الأمر ليس هكذا؛ فالله سبحانه وتعالى ينظر إلى وضع مخاطبيه فيخاطبهم وفق ذلك بما يلائم إرادته وعظمته وربوبيته. ومن المعلوم أن كلامه جل وعلا لا يقتصر على القرآن وحده، إذ لكلامه الللائق بعظمته كيفيات كثيرة من كلامه المنسجم مع عظمته ولكن نحن لا نعلمها. والذي نعلمه هو: أنه جل وعلا خاطب الإنسان بمستوى إدراكه وفهمه بسر الأحدية.
أجل، نحن نجد فهمنا ومستوى إدراكنا في القرآن الكريم، وكأن القرآن يخاطب كل إنسان بمستواه، فمهما كان المستوى الفكري للقارئ يجد القرآن يخاطبه. حتى يشعر الإنسان في القرآن أن أحداً قريباً منه يعرّفه بأدق تفاصيل أسراره وخباياه.
وكون القرآن على هذا الأسلوب طبيعي جداً، ذلك لأن القرآن كلام الله ذلكم الرب الجليل الذي خلق الإنسان من العدم وأنشأه في عالم المادة (الجسماني) وهو أعلم بما في قلبه كل آن، ثم نفث فيه الروح من عالم الأمر، فلا الروح تعرف معرفة تامة ما الجسد الذي دخلت فيه، ولا الجسد يعرف تماماً ما الروح التي تديم حياته، والأعلم بهما مَن خلَقَهما ومَن جمعهما، والقرآن كلام هذا الرب الجليل.
فهذا الكلام الإلهي من حيث مضمونه هدىً للناس وضمان استقامتهم، ومنبع إرشاد الأنبياء والمرشدين من حيث أسلوب الخطاب، لذا يسددون نظرهم فيه ويستلهمون منه العلم والمعرفة.
إنه لحقيقة واقعة أن القرآن يخاطب مستويات مختلفة، ذلك لأنه كلام الله الذي خلق الإنسان وأنشأه بجميع مظاهره المختلفة؛ فالألوف من العلماء الأعلام قد بينوا اختلاف مستوى فهم وتمايز بعضهم عن بعض لدى طرح ملاحظاتهم وفكرهم حول القرآن. وحتى في خير القرون، كان الأمر أيضاً على هذا النمط، بمعنى أن فهم الصحابة الكرام y للقرآن وإدراكهم له لم يكن كله بمستوى واحد. واختلاف المستويات هذه لا يحجب الاستفادة من القرآن.
تاملوا أن بدوياً يأتي -في عهد الرسول r- ويستمع إلى القرآن، ويستفيد منه، وفي الوقت نفسه يستفيد منه شعراء أعلام عُلّقت قصائدهم على جدار الكعبة، ولبيد واحد منهم، وهو الذي لم يقرض شعراً بعد سماعه القرآن. والخنساء عملاقة الشعراء في ذلك العصر أصبحت لا تترنم إلاّ بالقرآن. نعم هؤلاء كانوا مخاطبي القرآن وينـزل إلى عقولهم وقلوبهم زلالاً. وقد أصبح أفذاذ العقلاء من مخاطبيه حيث تتلمذوا عليه من أمثال إبن سينا، وإبن رشد، والفارابي، والإمام الغزالي، وفخر الدين الرازين، وكذا أبو حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام مالك، ومن لا يمكن حصر أسمائهم. بمعنى أن القرآن كان يخاطبهم أيضاً بالأسلوب نفسه، أي بمستواهم. فلقد خاطب القرآن وفق إدراك الإنسان آخذاً بنظر الاعتبار مستواه الفكري. إن هذا الجانب من القرآن عجيب إلى حد أن كل من يستمع إليه بقلب شهيد يعتقد أنه هو المقصود الوحيد في الخطاب. وإن علماء عباقرة بزّوا في ميادين العلم والتقنية التي تسجل يومياً خطوات واسعة متقدمة، حتى غدت موضع انبهار العقول. فهؤلاء العلماء يجدون أفضل من يحثهم ويعينهم على تنمية ما أودعه الله سبحانه فيهم من قابليات كامنة، وفي أثناء اكتساباتهم في ممارساتهم القوانين الفطرية التي وضعها الله سبحانه أيضاً في الكون، هو الكلام الأزلي للخالق الكريم، وهو القرآن الكريم.
نعم، إن ألوفاً من أرباب العلم -رغم اختلاف مستوياتهم- ينهلون من زلال القرآن الكريم ويتفيأون بظلاله. فالكيمائي يستطيع أن يسمع القرآن كأنه يخاطبه وحده. أهو وحده هكذا؟ بل والفيزيائي أيضاً والفلكي أيضاً وكذا البيولوجي حتى الرياضي والهندسي، كل منهم يستطيع أن يستمع للقرآن وكأنه يخاطبه وحده. والزراعي يعتقد أن القرآن يبحث من البداية إلى النهاية عن الزراعة. وبالنسبة لطبيب ماهر يجد القرآن كمركز صحي نوراني رائق، يتكلم وينور ويهدي ويفتح آفاقاً جديدة للأمراض ويقوم بضمادهم أكمل من أي مركز دراسات وأبحاث. ويمكن إيراد الكلام نفسه لفروع العلم الأخرى. بمعنى أن الفلاح الذي يحرث الأرض في القرية والعالم الذي يفتح آفاق السموات بمجرد لمسه زراً صغيراً، هما من مخاطبي القرآن معاً.
فهذا القرآن العظيم الذي يغور في أعماق الأعماق يعلّمنا الدروس وفق أحوال وظروف كل إنسان. مع أنه يبحث عن كل علم من العلوم بأسلوب مقتضب فليس هو موسوعة علمية قط؛ لأن هدفه الوحيد هو الإنسان، ليأخذ بيده ويُصعده إلى السماء ومن هناك إلى سمو الأبدية ورفعتها. وهو في أثناء عمله هذا يعلّم أصول الإرشاد أيضاً. فالمرشد أو المبلّغ عندما يرى هذه الألوان المختلفة من الخطابات للقرآن ويعيش بها حياته، لا شك أنه يضع حالة المخاطب ومستواه نصب عينه دائماً ويجعل كلامه وفق ذلك، ومع أن هذا يتطلب جهداً منه إلاّ أنه مفيد جداً بل ضروري أيضاً.
فالذين اعتادوا أن يستعملوا الجمل المبهمة والمغلقة والمحمّلة بالتعابير الفلسفية لأجل إظهار الوقار والفخامة في كلامهم، على خطأ عظيم؛ لأن المهم في الإرشاد هو حسن فهم المخاطبين للبلاغ، وهذا يقتضي أن يكون البلاغ واضحاً بيّناً دون إشكال مهما أمكن، فالخطاب لا بد أن يكون بأسلوب يفهمه كل مستوى من المستويات بكل سهولة ويسر.
فالشباب في الوقت الحاضر، غريب عليهم التعابير والاصطلاحات الدينية، فمن الضروري التكلم معهم بلغة يفهمونها. ويمكن أن نشبه هذا بكلامنا مع الأطفال، فكما أننا نساير خطوات طفل في الثالثة من عمره وقد أخذنا بيده، ونماشي كلامه ونضحك مثله ونراعي حالاته كلها، كذلك من الضروري أن نأخذ بنظر الاعتبار مستوى فهم المخاطبين في الإرشاد، فالكلام المفخم تجاه الأطفال، لا يثير فيهم إلاّ الضحك من دون أن يضيف شيئاً إلى جعبة معلوماتهم.
فعندما نشرح الإسلام لجيلنا الحاضر، فلابد لنا من الاقتداء بأسلوب تبليغ الرسول r وإرشـاده وليس إلى الأسلوب الفلسفي لبرجسون وباسكال وأفلاطون وديكارت. فالرسـول r كان يخاطب دوماً بمستوى فهم الآخرين، فكان خطابه يسع جميع الناس، كل في موضعه، فكالطفل مع الطفل وكالشاب مع الشباب وكالعجوز مع العجوز. فهذا الأسلوب وهذه الأخلاق الإلهية هو أسلوب الأنبياء وأخلاقهم. ويروى عن سيد الأنبياء r أنه قال: “إنّا معاشرَ الأنبياء أُمرْنا أن نُكلّم الناسَ على قَدر عُقُولهم”( ). وفي حديث آخر: “أَنـزلُوا الناسَ مَنازِلَهم”( ) وهذا يبين قاعدة جليلة في الإرشاد لا يمكن تجاوزها.