لابد أن ينظم المبلّغ قلبه وضميره وفق القرآن الكريم ويجعله متناغماً معه. ويعبّر القرآن الكريم عن هذا بالآية الكريمة الآتية: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(ق:37).
نعم، إن القرآن الكريم كتاب وعظ وإرشاد وذكر وتذكير، ولكن الشرط الأساس للاستفادة من القرآن من هذه الجهة هو انفتاح القلوب نحوه. ولأجل ذلك على القارئ أن يسدد نظره ويلقى سمعه نحو القرآن. وأن يتوجه إلى القرآن الكريم بكيانه كله، إذ من المحال الاستفادة من القرآن على الوجه المطلوب باتباع سبيل آخر. حيث إن من لا ينظم أطواره وفق هذا النسق لا يستطيع أن يرى الجهة المعجزة المنورة للقرآن، فلا يميز كلام الله عن كلام إنسانٍ ما. ومن هبط إلى هذا الدرك لا يرجى منه أن يؤدي عملاً ما باسم القرآن، لأن القرآن يعقب بعد قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ بقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾. أي إنه كلام رب العالمين، لا ريب فيه، ولكن لا يستفيد منه على الوجه المطلوب إلاّ المتقون. والمتقون هم أفضل الناس معرفة بالشريعة الفطرية؛ فكما لا يكون المهمل متقياً، لا يستفيد من القرآن أيضاً، حيث إن قلبه قد مات، والآية الكريمة تبين ذلك: ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ﴾(محمد:20).
ترى ماذا سيفهم من القرآن ومن كلام الرسول الكريم r من ينظر إليه نظر المغشي عليه من الموت؟ لا شيء قطعاً. ولكن الذي يسدد قلبه نحو القرآن يستشعر بالحوادث التي تجري في الكائنات كنبضات قلبه. لماذا؟ لأنه أوجد وحدة بينه وبين الكائنات؛ فالذين لا يملكون القدرة على جس نبض الحوادث لا يقال عنهم إنهم يعملون شيئاً كثيراً للإرشاد؛ إذ إن هذا الأمر ذو علاقة بكيفية النظر إلى القرآن ككل.
وإذا ما اقتربنا إلى المسألة نفسها من زاوية أخرى نقول: إن أول شرط لا يستغنى عنه المبلّغ قط هو تطبيقه الآيات الكونية الظاهرة في الآفاق والأنفسي على الآيات القرآنية المتلوّة، ومن ثم صياغة مركب منهما. وبمقدار نجاحه في هذا الميدان يوفَّق في تبليغه وإرشاده. وبخلافه لا شيء إلاّ الإسراف له ولمخاطبيه.
نعم، إن المبلّغ يتصف بكامل كيانه بالصفات الإسلامية، وجميعُ أطواره وأحواله تدل على حيازته لها. وإن القدرة على تحليل الآيات الآفاقية والأنفسية وصياغة تركيب منهما لا تفارق المبلّغ، فضلاً عن الاتصاف باللطف والنـزاهة والشفقة والنظام وأمثالها من الصفات التي تجعل المؤمن مؤمناً حقاً.
وبتعبير آخر: كما أن كل صفة من صفات الكافر ليست بكافرة فكل صفة من صفات المؤمن أيضاً ليست بمؤمنة، وربما تكمن صفاتٌ مؤمنةٌ في تقدم الكفار في الوقت الحاضر في كثير من النواحي في أرجاء الدنيا، وان تلوثنا بصفاتهم الكافرة سبب انهزامنا. والحال ينبغي على المؤمن أن يتصف ويتشبث بكل صفة من صفات المؤمن، ولاسيما المبلّغون عليهم أن يسبقوا المؤمنين في التحلي بهذه الصفات بخطوات. فالمؤمن إنسان اللطف، وإنسان النـزاهة، ومثال للشفقة والرحمة… وهو بهذه الصفات يرى الكائنات أنها مهد الرحمة، موطن الأخوة.. والمؤمن حياته منظمة بكاملها، لا يمر عليه آن إلاّ وهو منوّر، لا يعرف الإسراف في الوقت. وليس له قضاء الوقت في المقاهي، لأنه لم يرد شيء من هذا القبيل في السيرة المطهرة، بل موقعه خارج مسكنه المساجد والمعابد ومواضع تبليغ دعوته إلى المحتاجين، فهو محمّل بالمعرفة ومشحون بالعرفان وأبعد من يكون عن الأمور الاعتباطية، إذ هو رجـل منهج وخطة دوماً، وهو الخبير بالعلاقة بين السبب والمسبب وهو النافذ نفوذاً تاماً إلى روح الأشياء.
نعم، مثلما ذكرنا أعلاه، إن سبب تفوق الغرب في الوقت الحاضر هو ما أخذوه من صفات المسلمين، لذا تراهم يجولون في الذرى. بينما تحوّل العالم الإسلامي إلى حمّال رذائل صفاتهم، فهو عندما يأتي إلى المسجد يلقي صفاتهم كالمعطف على كتفه، والآخر يسعى إلى الكنيسة بالصفات التي تخص المسلمين. بمعنى أن الغالب في الوقت الحاضر ليس الغرب نفسه، وإنما الصفات الإسلامية التي فيهم. وكذا المغلوبون ليسوا هم المسلمين بل الصفات الكافرة التي قلّدوها. فلا نجاة لنا حقاً إلاّ باعتصامنا القوىّ بالقرآن الكريم.