إن مهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إما أن تؤدّى لوجه الله، أو تؤدّى بما شرعه الله سبحانه من إحقاق الحقوق بين الناس.
إن مسؤولية التبليغ والإرشاد مسؤولية كل فرد تجاه ربه. فكل فرد عليه أن يعتقد بأنه مكلّف بهذه الوظيفة، ويسعى لها سعيه للصلاة. ولا سيما وقد أُهملت هذه الوظيفة، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى استولت المنكرات على المرافق كافة. وهذه المهمة الجليلة تحوز أهمية أكثر من الفرائض الشخصية، إذ لا يمكن الكلام حول الصلاة والزكاة والحج إن لم تُنجز هذه المهمة. وبخاصة في العهود المظلمة التي تُروّج فيها المنكرات ويُمنع المعروف، فالأمة قاطبة تكون مسؤولة في هذه الحالة.
ولا أعلم مهمة أجلّ من هذه المهمة في يومنا هذا، ولهذا أعتقد أن من نذر حياته لهذه المهمة فإن دنياه وآخرته ستكونان عامرتين بإذن الله. فكل شخص مضطر لأداء هذه المهمة الملقاة عليه سواء بالإفهام أو بالكتابة أو بالتأليف. وليؤدّها بأي طريقة كانت إلاّ أن عليه أن يؤديها حسبةً لله، ومنـزهة عن أغراض سياسية. ومن المعلوم أن تأثير هذا العمل ودوامه يكون بنسبة ما فيه من الإخلاص، وبمقدار ترفّعه عن الأغراض السياسية. ولا يمكن أن يعطى هذا العمل السامي ثماره من دون الإخلاص. فضلاً عن أنه سيكون وبالاً على صاحبه في الآخرة لحرمانه من الإخلاص. ولهذا فعلى القائم بهذه المهمة، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أن يعمله حسب فحوى الحديث: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ”.( ) أي لا بد أن يكون كل جهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ولا يداخله شيء آخر، سواء أكان القائم يقوم ببناء سكن أو مدرسة أو مبيت للطلبة أو أية مؤسسة أخرى تمليها ظروف تلك الحالات في المستقبل، فالغاية الأساس في كل ذلك يجب أن تكون بمستوى يليق بتحقيق هذه المهمة المقدسة.
إن إنشاء مؤسسة وإحداث وحدة دَعَوية لابد أن تملأ الفراغ الروحي لدى الشباب وتعيد بناءهم المعنوي إلى هويته الأصلية وصفائه الأصيل، ليحول دون تسلل الإلحاد والفوضى والإرهاب وانتشارها في صفوفنا. فكل حملة من الحملات التي تنهض بها الأمة في سبيل الله هي في الحقيقة كسر لشوكة الملحدين والفوضويين وتفتيت لعزمهم. فهي الحل الوحيد لصدهم فكراً وعلماً ونشاطاً، بل لإزالتهم كلياً بإذن الله.
ولننتبه إلى هذا أيضاً: أننا إن لم نملأ هذا الفراغ ولم نصدع بالحق بوجه الإلحاد والإرهاب والفوضى بأعلى صوتنا ولم نقل لهم: “هذا الطريق مسدود لا يمكنكم عبوره”، فلا يبقى أيّ معنى للجهاد الذي بذله أجدادُنا لصد الروس واليونان والفرنسيين والإنكليز وأمثالهم من فرق الصليبيين عن حدود البلاد. فقد جعلوا أنفسهم وصدورهم هدفاً لطلقات الأعداء ومدافعهم وحرابهم، ودفعوا مئات الألوف من الشهداء. أي لا يبقى أي معنى لهذه التضحيات المعنوية. وأقول هذا من حيث عاقبتنا نحن، وإلاّ فسيجازيهم الله سبحانه وتعالى بالحسنى ولا يضيع مثقال ذرة من أعمالهم.
نعم، إن فتحنا أبواب الأخلاق السيئة والفكر الهدام وما شـاكلها من الفساد على مصاريعها، فماذا يعنى إذن جهاد أجدادنا وتضحياتهم؟ ألا يعنى سلوكنا هذا هدر دماء أولئك الشهداء الأبرار هباءً؟
ولن يُهدر هباءً دم الثلاثمائة ألف شـهيد ممن ضحوا رجالاً ونساءً بأموالهم وأنفسهم في “جَنَقْ قَلْعَة”. فالروس الذين خرّبوا البلاد وأهلكوا العباد في “بالان دوكن”،( ) والأرمن الذين خانوا العهد وطعنوا من الخلف، فذهب بسببهم أكثر من مائتي ألف شهيد سـطروا التوحيد بدمائهم في الثلوج التي تغطي الجبال الشاهقة.. نعم، لن تضيّع دماء أولئك المضحين! وإلاّ ستعاتبنا بشدة “نَهْ نَهْ خاتون”،( ) و”صُوتْجُو إمام”( ) وآلاف من أمثالهم من الأبطال، فكيف ننجي أنفسنا من هذه المسؤولية الجسيمة؟. إذن نحن مضطرون أن نظهر تضحية مماثلة في سبيل دعوة أولئك الذين صدّوا هجمات الأجانب وضحوا بأنفسهم راغبين راضين مرضيين لئلا تداس أرض البلاد بأقدام الأجانب.
ولكن الفرق بين تضحياتهم وجهادهم أمس وما نحن بصدده هو فرق من حيث النوعية. فأجدادنا استعملوا في الجهاد السلاح مقابل السلاح، فكان هذا ما يجب أن يعملوه. أما نحن اليـوم فعلينا أن نجابه الأعداء بالطرق والمناهج التي يستعملونها.. وهو الطريق الأسلم الأوحد للحفاظ على دماء أجدادنا من الضياع والهدر.
فعليك أيها المسلم -من حيث الظروف وطرق النضال والكفاح الحالي- ولأجل إنماء الفكر الإسلامي وإنعاش نشوة العبادة، أن تبنى بجنب التكايا والزوايا مؤسسات تتمكن من أن تؤدي المهمات نفسها التي كانت تؤديها في سابق العهود. فتهرع لإمداد الجيل الناشئ في تلك المؤسسات لملء عالمه الداخلي بروح الإسلام والشعور به. وليُعلم أن الجيل المحروم من المعنويات لا يمكنه أن ينهض بأداء أي عمل إيجابي بنّاء. لأن تربية شخصيات ذوى فعالية ونشاط عظيمين منوطة بهمّتك هذه وبجهودك هذه. فإذا ما سعيت سعياً حثيثاً بمنهج معين وطريقة محددة منسقة يمكن أن يظهر في جيلك أنت: أمثال الإمام الرباني والإمام الغزالي والشاه النقشبند ومحمد الفاتح وياووز سليم من العظماء وأمثال الفارابي وابن سينا ومحي الدين بن عربي ومولانا جلال الدين الرومي من نجوم الفكر وأقطاب الأولياء.
فلا يحول شيء من أن تزدهر في حدائقنا أمثال هذه الأزاهير الفواحة. ويكفي أن يتقن البستاني عمله ويبذل أقصى جهده.
ووجه آخر أيضاً للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو أنـه يجب أداؤه باسم الحقوق المشتركة بين الناس، وهو في الوقت نفسه مسؤولية نابعة من الحياة الاجتماعية. فإن تحقيق الأخلاق الإسلامية والفكر الإسـلامي كي يُستشعر بها ويُعاش بها هو في ضمن هـذا القسم من المسؤولية الاجتماعية. فكما تعد من القواعد التي لا تتبدل بالنسبة للمسلم لمعاملاته اليومية في السوق وغيرها ضمن هذه المسؤولية كذلك الحقوق التي يجب أن تصان بين الأفراد، هي ضمن هذه المسؤولية أيضاً. والآن لنوضح الأمر:
إن للإسلام أخلاقاً خاصة بـه في التجارة والاقتصاد. والمسلم مضطر لإقامة حياته التجارية والاقتصادية ضمن إطار هذه الأخلاق. فلا يمكنه أن يتعامل بالربا ولا أن يحتكر ولا يدخل في المضاربات التجارية المحرمة. فهو مضطر لأن يبقى خارج كل ما هو غير أخلاقي كحماية زمر معينة وإزالة الطبقة الوسطى. وعليه أن يقيم الميزان والتوازن في جميع معاملاته التجارية. فكل ما هو خارج عما يقبله الإسلام لا يعد متاعاً للمسلم، وعليه أيضاً أن يسعى لتكون حياته التجارية مستقرة ومعاشـة. بل مضطر إلى هذا السعي. وهكذا فللأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هذه الجهة أيضاً.
وبهذا يكون المسلم قد ضرب ضربة قاصمة المراباةَ والاحتكار والسوق السوداء، وغيرها من المنكرات التجارية حتى لا يجد ما يحظره الدين المناخ الذي يتنامى فيه في ذلك المجتمع.
نعم إن للإسلام -كأي نظام آخر- قواعده في مناحي الحياة كلها: في التجارة، في العائلة، في العلاقات الاجتماعية…الخ. فمثلاً: في العائلة يشترط الإسلام النكاح، وبه يتكاثر الإنسان. فلا موضع للزنا والفحشاء في المحيط الذي يعيش فيه الإسلام. لأنهما من الأمراض الخطرة والمدمرة لكيان المجتمع بينما الإسلام يصد أي عامل يحاول تدمير حياة المجتمع.
وفي داخل العائلة حُددت العلاقات التي تربط بين أفراد العائلة، بين الأب والأم والأولاد بحدود قواعد الإسلام. والإسلام دقيق جداً في المحافظة على العائلة وعشها. ولهذا فإن أي فكر يحاول هدم هذا العش العائلى يجد الإسلام يصدّه. ومن المعلوم أن هذه العناية شرط أساس للحفاظ على كيان العائلة والحيلولة دون ضياع النسل.
فالمؤمن -كما يُرى هنا- حينما يسعى من جهة لتحقيق أوامر الإسلام في حياته الخاصة وفيمن حوله من الناس، يحاول من جهة أخرى أن يبعد ما يحظره الإسلام ويحرمه من حياته الخاصة ومن حياة المجتمع. وهذه إحدى طرق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أيضاً.
فالمؤمن إذن -ضمن هذه الطرق المتعددة- في الوقت الذي ينفّذ ما هو الواجب عليه من مهام ليملأ حياته بالفضائل، يحاول أن يملأ مجتمعه الذي يعيش فيه بها كذلك. وعندها يمكن التحدث عن الإنسان الفاضل بمعنى الإنسان الكامل والمجتمع الفاضل الناشئ من هؤلاء الأفاضل والأمة الفاضلة… ومرحلة أخرى، الدنيا الفاضلة التي تتركب وتنسج من هذه المجتمعات والأمم. وهكذا. ينتظر العالم ما يحيكه المؤمن من الدنيا من خمائل مطرزة، وبناء مثل هذه الدنيا منوط بالعمل، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالأفراد في هذه الدنيا التي نرغب في إنشائها ونطمع أن نراها يسعى كلٌ منهم ليفيد الآخرين، وتحاول الأمة أن تجعل الدنيـا جنة نعيم لها وللأمم الأخرى. والمنافسة في الفضائل هي الأسـاس في هذه الدنيـا. والمجتمع والعالم الذي تتسابق فيه الفضائل، يسيطر فيه “نحن” بدلاً من “أنا” فتُقتل فيها الأنانية التي يعبر عنها الشاعر “إذا متّ ظمآن فلا نـزل القطر” و تُدفن هذه الأنانية المحضة إلى غير بعث. وتنشأ وتزهر فيها “إذا مات أحدهم ظمآن فلأكن أنا”. هذا المجتمع هو الذي يرى النمو والإنبات. وليسعد كل الناس وسأكون سعيداً بسعادتهم، ولكن لأكن أنا آخر مَن يسعد. هذه الفكرة هي التي تعم الجميع وتربط أفراده الواحد بالآخر. والشعور بالصداقة والمحبة يعم الجميع ويعيش الكل في هذا الجو ويُنسى العداء والبغضاء.
والحقيقة أن كل هذا الكلام المذكور موجود في الفكر الإسلامي الأقدس الذي يشكل بناءنا الروحي. وحينما يفهم الناس هذا النظام ويعمل في أرواحهم إذا بعالم الفضيلة يظهر إلى الوجود بنسبة معايشتهم له.
والشرط الأساس في هذا: لا بد أن تدرك الدنيا كلها هذه النتيجة وتعيها وتشاهدها في الواقع، وهذا سيحدث كذلك بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وتنتظر هذه الوظيفة -في مستوى الفرد والعائلة والمجتمع- حالياً تلك الأيدي المباركة التي ستمتد إليها.