إن الفرد في فترات التغيّر والتحوّل تعتريه حال مغايرة لحاله في أيامه الطبيعية. إذ ينسلخ من حالته الفردية انسلاخًا تامًّا، ويتقمّص بقميص “سيكولوجية الجماهير”.. يتحوّل إلى كيان جماهيري.. يصير جزءًا لا يتجزأ من الحشود التي تندفع سيلا هادرا نحو اتجاه واحد تبتغي الوصول إليه ولا ترضى عنه بديلاً.. وفي سبيلها تلك تجرف كل ما حولها، وتدفع كل ما يعترض سبيلها بغية الوصول إلى هدفها المنشود.
إن الأفراد الذين تعرضوا لتحوّل ذهني كهذا، لا يستطيعون أن يعملوا بعقلية الفرد المتثبّت الممحّص البصير، بل يندفعون مأخوذين بـ”سيكولوجية الجماهير” وعقليتها، منقادين لتوجيهاتها، منصاعين لأوامرها.
إن الأفعال التي تصدر عن أبناء “الوعي الجمعي” تنسجم فيها العاطفة الجياشة مع السلوك الواعي المنتظم، والحيوية المتدفقة مع الإقدام المتبصر المتزن.
وإن هذا النمط من العقلية “السيكولوجية” ومفرزاتِها يختلف تمام الاختلاف عن نمط عقلية “الوعي الجمعي” ويتناقض معه تمام التناقض في مقاصده ومآلاته. إذ إن نمط “الوعي الجمعي” ينبني في أصله على التعقّل والتمحيص والتثبّت والتروي، وملاحظةِ الحاضر والمستقبل معًا في التقدير والتدبير، ومعاينةِ الجزء مع الكل جنبًا إلى جنب في آن واحد.
ومن ثَمَّ كنا وما زلنا نحضّ على هذا النمط من الوعي وننصح به باستمرار. فبينما تطغى على النمط الأول عواطف غير منضبطة وحماس غير متزن وانفعالات غير منتظمة، يتألق في النمط الثاني تعقّل وتبصّر وانضباط وانتظام وحذر وتثبّت.
وقد يبدو كلا النمطين من التفكير والسلوك متشابهين للوهلة الأولى من حيث الصورة الحركية والوعود المستقبلية التي يبشران بها، إلا أنه في النمط الأول يستحيل تجنُّبُ وقوع عواقب تتناقض مع جوهر الحركة وأهدافها، في حين أنه في النمط الثاني لا مكان للتعثّر والانتكاس والفشل بالقدر نفسه على الإطلاق.
إن الأفعال التي تصدر عن حشود مندفعة بـ”سيكولوجية الجماهير” لا تخلو من أخطاء كبيرة واضطرابات مدمرة.
إن “الوعي الجمعي” يحمل في أعماقه أسباب وجودنا وأسرار بقائنا أمة، إذ يستقي مادة حياته من منبع ثقافتنا الدينية وهويتنا الذاتية، وبفضله تتناغم مكارم الأخلاق مع الحياة الاجتماعية.
إن الأفعال التي تصدر عن أبناء “الوعي الجمعي” تنسجم فيها العاطفة الجياشة مع السلوك الواعي المنتظم، والحيوية المتدفقة مع الإقدام المتبصر المتزن.
وإذا ما تم تثمين هذه الأفعال في “فترات التحوّل” فإنك لن تجد ميزانًا يستطيع أن يوفيها قدرها، لأنها تبلغ قيمة ما بعدها قيمة بالدور العظيم الذي تقوم به. وشتان بين قيمتها في الظروف الحرجة وقيمتها في الظروف العادية.
أما الأفعال التي تصدر عن حشود مندفعة بـ”سيكولوجية الجماهير” فإنها لا تخلو من أخطاء كبيرة واضطرابات مدمرة.
المصدر: مجلة حراء، العدد ٤٢، المقال الرئيس
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف محرر الموقع