سؤال: أطلقوا على السلطان عبد الحميد الثاني لقَب “السلطان الأحمر” فهل كان كذلك؟
الجواب: عندما ارتقى عبد الحميد الثاني العرش كانت جميع أنحاء الدولة تفورُ بالمشاكل فورًا، من هذا الجانب كان يُشْبِهُ كثيرًا عليّ بن أبي طالب الكرّار t، كما كان عهدُه يُشبِه عهده، يقول مفكّر القرن العشرين بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله: “كان ينبغي وجود شخصية قويّة فذّة، مهيبة الجانب، ذات شجاعةٍ فائقةٍ وفراسةٍ نافذةٍ ونسب عريقٍ أصيلٍ من أهل البيت كعليّ t، كي يَثْبُت أمام هذه الفتن” .
إنّ الموقفَ المتصلِّبَ للأمويّين والفتنَ التي سبَّبَها الخوارجُ أدَّتْ إلى اضطراباتٍ كبيرةٍ في المجتمع، لذا كان من الضروري أن يتصدى لهذه المشاكل رجلٌ عملاق وشهمٌ في ذروة الإخلاص والتضحية، رجل زاهد لا يقيم للدنيا وزنًا… رجل مثل علي بن أبي طالب t، لذا نَدَبَ القدر عليًّا t لهذا العهد المضطرب، وكان الأمر نفسه بالنسبة لعبد الحميد الثاني، فهو أيضًا أتى في عهد فتنة وفساد، وكان رجل دهاءٍ وذكاءٍ وتدبيرٍ باتّفاق الجميع، وهناك مؤرّخون حسبوا أن التدابير التي اتَّخذها دون داعٍ كانت نتيجة أوهام منه، وعدّوا السلطان عبد الحميد رجل أوهام وتخيّلات، أما الذين أفرَطوا وأساؤوا الأدَب فقد وصموه بالجُـبْـنِ والتقاعسِ.
وعندما ارتقى العرشَ كانت الدولة العثمانية غير واضحة المعالم؛ فتونس مضطربةٌ وتغلي كالقِدْرِ، والفرنسيّون والإيطاليون يصولون ويجولون في المغرب ويوقدون نار الفتنة فيها، ومصر تترقَّبُ أحداثًا جسامًا، وكان الاضطراب سائدًا بين العرب، أي كانت الظروف مهيَّأةً لهزيمة الدولة العثمانية في أيِّ حربٍ دولية تدخلها.
لم تكن ظروف جزيرة “كِرِيت” مختلفة، فالولاة المعيّنون فيها لم يكونوا يستطيعون إنجازَ أي شيء، فالجَيش كان معقود اليدين، لأن الغرب كان جاثمًا هناك ككابوسٍ مخيفٍ، ولم تكن لدَيه نيّةٌ في مغادرة الجزيرة، وفي البَلْقان كانت المداخلات الروسية وقيامها بإثارة الفتن في غاية الوضوح، فـ”السلاف (Slavs)” كانوا دعاة الأمم البلقانية للانفصالِ عن الدولة العثمانية، وكانوا يستعملون البلغاريين للوصول إلى هذا الهدف.
وفي الأناضول كانت جماعة “الدُّونْمَة”( ) تعيشُ نشاطًا غير مسبوق، فلقد غيَّروا أسماءهم إلى “محمد” و”علي” ولكن نفوسَهم وقلوبهم لم تتغيّر قطّ، ولم تهدأْ أحقادُهم، وكان هذا الحقد والغيظ كافيًا لإشعال نار الفتنة في كل مكان، وكما كان اليهودُ أعدى أعداء الرسول r في المدينة، وكان ابنُ سبإٍ وجماعتُه أعدى أعداء الإسلام في عهد عليِّ بن أبي طالب t؛ كذلك كان الدونمة أعدى أعداء السلطان عبد الحميد الثاني، كان مِدْحَتْ بَاشا من هؤلاء الدونمة، وكانت أوروبا وراءه وهو يقوم بإنجاز مهمَّتِهِ في إيقادِ نارِ الفتنة.
كان الأرمن قد أسَّسُوا جبهةً معاديةً في الداخل وفي الخارج، وكان “السُّريان” يجدونَ مَن يحركهم للثورة، وبدأت بعض القوميّات والعناصر التي حاربَتْ معنا ووقفنا إلى جانبِها صفًّا واحدًا في خندقٍ واحدٍ طوال عصور عديدة تتهيَّأُ لضربِنا من الخلف، لم يكن من السهل أبدًا اتِّخاذُ تدابيرَ ناجعة لكلِّ هذه المشاكل، لذا فإن نجاح عبد الحميد في إبقاءِ الدولةِ واقفةً على قدمَيها طوال ثلاثة وثلاثين عامًا يُعدُّ بحدِّ ذاته أمرًا مهمًّا، فلَو لم يقدِّم أيّ خدمات أخرى لكان نجاحه هذا فقط كافيًا لبيان مدى كفاءته، كان أعداؤه قساةً لا يرحمون، ولم يكن حواليه صديق أو رجل دولة كفء، لم يكن مستبدًّا، بل كان يريد تطبيقَ النظام والدقّة -اللّذَين كانا سمة من سماته الشخصية- على المجتمع، وحاول بذلك أن يُكْسِبَ كلَّ وحدة من وحدات الحياة الاجتماعية التي بدأت بالتسيّب والتحلُّلِ نظامًا يَقِيها من الاستمرار في الهبوط والتردّي إلى الحضيض، أي إن لم يُفضِ هذا في ترقية المجتمع فإنه على الأقلّ يمنع ويُخفِّفُ من انحِدارِهِ نحو الأسوإ، وكان هذا يقتضي منه أن يكون ملتزمًا بالنظام، ومع ذلك رأَيْنا بعضًا ممن نحبّهم ونحترمهم من الكتّاب والشعراء قد قيّموا عبدَ الحميد تقيِيمًا خاطئًا، فكتبوا مقالات وأشعارًا في نقده، ولكنهم بعد أن رأَوا تردّي الدولة وسقوطها وضياعهَا من بعده عرفوا خطأهم واعترفوا به واعتذروا عنه.
ليس هناك من سلاطين آل عثمان -إن استثنينا السلطان محمد الفاتح- من خدم العلم والمعرفة مثل السلطان عبد الحميد الثاني؛ فهو شخصية نادرة من زاوية خدمتِهِ للعِلْمِ والمعارفِ، فلأول مرّة فُتحت في عهده المدارس على النمَط الحديث؛ فمدرسة “قَبَه طَاشْ” و”كُولَلِي” مدرستان فقط من المدارس التي فتحَها في إسطنبول( )، وكان عبد الحميد أول من اتَّصل عن قرب مع العالم الإسلامي، إذ أنشأ سكّة حديد الحجاز حتى المدينة المنورة، لذا يعد محقّقًا لحلم السلطان سليم في الواقع العمَلي. لأن ثمرات الفتوحات التي أنجزها السلطان سليم ما كانت لتقطف إلا بمثل محاولات التقارب والحوار العملي مع العالم الإسلامي، ولكن الشروط لم تكن ملائمة في عهد سليم، لذا كان هذا من نصيب عبد الحميد، ذلك لأن نتائج فتوحات سليم وثمراتها ما كانت لتؤتي أكُلها إلا بهذا الحوار والتقارب، ولكن سكّة الحديد التي لم يتم تحقيقها في عهد سليم نتيجة للظروف والشروط السائدة آنذاك تحققت -وإن كانت متأخرة- في عهد عبد الحميد.
وفي أيَّامِنا الحاليّة التي نعيشُها ونرى فيها الثناءَ والمدائحَ الجمّة التي تُكالُ لِلْجِسْرِ المُنْشَإِ على البوسفور( ) حتى عَدَّهُ البعضُ العجيبةَ الثامنة بعد عجائب الدنيا السبعة؛ إلا أنَّ كثيرًا منّا يجهلُ أنَّ تصميم هذا الجسر كان قد تم في عهد عبد الحميد؛ أي إنّه كان سلطانًا بهذا الأفُق الواسع والنظرة السديدة، ولكن الظروف لم تساعده ليتمِّم إنشاءَ هذا الجسر في عصرِه، بل بقيت تصاميمه الكاملة محفوظة في الأرشيف، وانتقل خبَرها إلى الصحف قبل أيام من قِبل أحد المؤرّخين الباحثين، مما أكّد مدى قوة فراسة السلطان عبد الحميد.
لم يستطع أحد ممن كان حول السلطان فهمَ قيمةِ أفكارِهِ المستقبليّة، لذا ظهر الكثير من المشاكل وعدم التفاهم، إذ كانت خَطَواته محسوبة لخمسين سنة قادمة، ولكن رجال الدولة المحيطين به كانوا قصِيري النظر ولم يستوعبوا تلك المشاريع، ولم يتغيّر هذا الأمر في أيامنا الحالية، فهناك الآن رجال دولة يقدّمون اقتراحات وأفكارًا للسنواتِ العشرة القادمة، ولكن جهودهم تتعرقلُ من قِبَل رفقائهم.
يقولون عنه “السلطان الأحمر”، وهذا اللقب اختلقه الفرنسيون وبعض يهود الدونمة الذين لم يكونوا أصدقاء لنا بالمعنى الحقيقي، وتصرفاتهم العدائية اليوم لا تختلف عما كانت عليه بالأمس، ورغم أن هذا اللقب كان من المفترض أن يشكّل لدينا انطباعًا إيجابيّا عنه فقد تُرجم إلى لُغتنا من قِبَل بعض التعساء عندنا من الذين حسبوا سبّ الأجداد وشتْمهم مَفخرة لهم، ولكن التاريخ هو الذي سيقرّر عما إذا كان عبد الحميد شعلة من الذكاء والدّهاء أو أنه كان فعلًا سلطانًا أحمر؛ إذ إنَّ التاريخَ قد بدأ بإظهارِ الحقائق، التي تنصُّ على تبرئة ساحة السلطانِ عبد الحميد من هذا اللقب.
قُتِلَ عمّه السلطان عبد العزيز وأرادوا إخفاء هذه الجريمة فزعموا أنه انتحرَ، قام مِدْحَتْ باشا وبعض مِن أعوانه بقتلِ السلطان عبد العزيز، وكانت محاولة إظهار الجريمة وكأنها انتحار من السذاجة بحيث أنها ما كانت لتخدعَ صبيًّا صغيرًا، فعندما قُتل عبد العزيز قُصَّتْ شرايين رسغيهِ ثمّ قيل إنه انتحر هكذا، ولكن إن قصَّ شريانَ رسغِه الأيسر بيده اليمنى فكيفَ استطاعَ أن يقصَّ شريان رسغِهِ الأيمن، وكذلك العكسُ، ثم إنّ بعضَ شرايين عنقِهِ كانت أيضًا مقصوصة، فكيف يمكن أن يكون هذا انتحارًا؟! ثم ما السبب الذي دعاه إلى الانتحار؟ كلُّ ما قيل في هذا الخصوص عبارةٌ عن أكاذيب وعن افتراءات.
ثم شُكِّلت هيئةٌ للتحقيق في هذا الموضوع، وبعد قيامِ هذه الهيئة بفحصِ التقارير المقدّمة لها أصدرت قرارها بإدانة مِدْحَت باشا وأعوانه وأصدرت حكم الإعدام بحقّهم، فكيف يكون عبد الحميد سلطانًا أحمر وهو الذي استعمل صَلاحيته فخفَّفَ أحكامَ الإعدام هذه عن قاتلِ عمِّهِ الذي كان في الوقت نفسه أعدى أعدائه، وخفَّفَ هذه الأحكام إلى سجن مؤبّد ونفاه إلى الطائف، وهنا هبّت الاستخبارات السرّية الدولية في محاولة لأنقاذ مِدْحَت باشا الذي كان من “الدُّونْمة” وتهريبه من السجن، عند ذلك أصدر عبد الحميد أمرًا مشددًا إلى والي الطائف بأنه إن تم تهريب مدحت باشا من السجن فسيكون هو مسؤولًا مسؤولية كاملة عن مثل هذا الإهمال الخطير.
وبدأ الوالي كل يوم يتلقَّى أخبارًا عن محاولات التهريبِ هذه حتى سَئِمَ من ازديادها، لذا يحتمل أنه لكي يخلص نفسه من عقابٍ منتظَرٍ قامَ بِخَنْقِ مِدْحَت باشا في السجن، فالمسألة غير متعلِّقة بعبدِ الحميد من قريب أو بعيد، ثم كان يستطيع تنفيذَ حكمِ الإعدام عليه، ولا سيما أن مِدحَت باشا حاول اللجوء إلى دولة أجنبية، وهو عمل يرقى إلى مرتبة الخيانة، لقد كانت الرحمة لدى عبد الحميد واسعةً جدًا إلى درجةِ أنها أصبحت حالةً مرضيَّةً عنده، فلم يرغب أبدًا في إراقة دمِ أيِّ شخصٍ، وهذه الرحمة والشفقةُ هي التي منَعتْه من مجابهة “جَيش الحرَكة”( ).
كان محمود باشا( ) شخصًا ساذجًا يكاد لا يفهم شيئًا، ولم يكن يعرفُ أصولَ إدارة الدولة أكثر مما يعرفه أيُّ فلّاحٍ في الحقل، وعندما دخل المجلسَ النيابيَّ (مجلس المبعوثان) فيما بعد كان يغطّ في النوم أثناءَ الجلسة، وكان رئيس المجلس النيابي يحاول أحيانًا إيقاظه من النوم هربًا من الحرج أمام الضيوف الأجانب، مثل هذا الشخص الخالي من الشعور بالمسؤولية تجاه مشاكل البلد وشؤونه إلى درجة الغطيطِ في النوم أثناء جلسة المجلس النيابي؛ كان قد جمع حواليه مجموعةً من شُذَّاذِ الآفاق( ) جاء بهم من مدينة “سَلَانِيك” إلى إسطنبول، وعندما سمع قائدُ حامية قصرِ “يِلْدِزْ” بهذا النبإ هرع إلى السلطان وطلب منه السماح له بتشتيت هذا الجيش، كان السلطان على علم بهذا الأمر منذ البداية، ولكنه لم يقبل طلبَ قائد حرسه وردَّ طلبَهُ قائلًا بأنه لن يسمحَ بإراقةِ دماءِ أمّتِهِ، وكما يُفهم من قيادة “محمود باشا” لجيشِ الحركة فإنّ هذا الجيش أبعد ما يكون عن النظم العسكرية المعروفة، حتى إن أكثرية جنودِ هذا الجيشِ لم يكونوا يعرفون سببَ مجيئِهم إلى إسطنبول، وكان قسمٌ منهم يحسبون أنهم جاؤوا لحماية السلطان.
أجل، لم يكن السلطان ضحيّةَ أحدٍ.. بل ضحيّة رحمتِهِ وشفقتِه، ولو لم يقابل التصرّفات الهوجاء لـ”جمعية الاتّحاد والترقّي” بمثل هذا التصرف الإنساني الرحيم لكان له معهم تصرُّفٌ آخر.
ثم إنه لم يكن يتوقَّع أو يفكِّر بأن الاتّحاديّين سيتسبَّبون في فواجع ومآسٍ كبيرة إلى هذا الحدّ، فقيَّمَهم من منطَلَقِ تفكيرِه الإنسانيِّ؛ أي إنّه لم يتوقّعْ أبدًا من هذه الجماعة التي تصدَّتْ لقيادةِ الأمّة صدورَ ما صدرَ منهم بعد ذلك، وكان يتوقّع أن أخاه السلطان رشاد سيستمرُّ في نفسِ طريقِهِ، لذا نرى أن جانبَ التوكُّلِ عنده تغلَّبَ على جانبِ التدبير، وهكذا ذهبَ ضحيّة مُروءَتِهِ.
ويوجد للسلطان عبد الحميد الثاني جانب معنويّ وروحيّ، وكان في هذا الجانبِ كبيرًا، تمامًا مثلما كان كبيرًا في الجانب السياسيِّ كرجلِ دولةٍ من الطرازِ الرفيعِ، ومن النادر لمن يتبوَّأُ مثل هذا المنصب النجاح في تحقيق مثل هذا التوازن بين الدين والدنيا، والسلطان عبد الحميد الثاني من هؤلاء الأفذاذ، وإننا عندما ذهبنا إلى الحج كان هناك شخصٌ مسنٌّ يقومُ بخدمتِنا، وعندما سمعَ منّا اسمَ السلطان ارتجفَ من شدَّةِ توقيرِه له، وأخبرَنا بأن السلطان حجَّ عدَّةَ مرّات وذكر أسماء المواضع والأماكن التي أقام فيها، بينما لم يحجّ السلطان -في ظاهر الأمرِ- طوالَ حياته.
روى لي مَن أثقُ فيه نقلًا عن محمد عاكف: أن محمد عاكف توجّه في الصباح الباكر إلى مسجد أيا صوفيا لصلاة الفجر، وإذا به يرى هنالك رجلًا يسكبُ العبرات دون توقُّف، وفي اليوم التالي رأى الرجلَ عينَهُ على نفس الحال، فلم يتحمّل عاكف واقتربَ من الرجل قائلًا: يا أخي، لا تقنطْ من رحمة الله؛ لأنه لا يقنطُ من رحمة ربه إلا القومُ الكافرون”، ولما كان الرجلُ غيرَ قادرٍ على الكلام أشارَ إلى عاكف بيده قائلًا: “إليك عني، لا تشغَلْني”، لكن عاكف ألحّ عليه حتى يحدثه عن سبب بكائه، فأخذ الرجل يحكي ما ألمّ به وما جعله يبكي سنين عددًا على هذا الحال:
كنتُ قائدًا لكتبيةٍ في جيشِ السلطانِ عبد الحميد الثاني، وذات يوم تلقَّيتُ خبرًا بوفاةِ أبي، وكان أبي ثريًّا ذا أملاكٍ كثيرة، يملك الحدائقَ والبساتين، ولما توفّي أصبحتُ أنا صاحب كلّ هذه الثروة، فقرَّرْتُ الانفصالَ عن الجيشِ والاشتغالَ بأعمالي، وقدّمتُ عريضةً أشرحُ فيها موقفي وأُعبِّرُ فيها عن رغبتي في الاستقالة من مهمّتي في الجيشِ، لكن بعد بضعة أيام جاءَ الردُّ على العريضة بالرفضِ، فقدمتُ العريضة للمرة الثانية إلى مقام الصدارة فجاءني نفسُ الردِّ، فلمّا لم يعدْ أمامي طريق آخر كتبْتُ خطابًا إلى السلطان مباشرةً مكرِّرًا طلب الاستقالة، فرُفِضَ طلبي مرةً أخرى، فطلبتُ مقابلةَ السلطان شخصيًّا، فأُذِنَ لي، فلما مثلتُ بين يدي السلطان كرّرت عليه طلبي، فلم يُجب، وصمتُّ فترةً، فلمّا أصررتُ عليه قال: “حسن، لقد قبلنا إصرارك”، وأشار بظهر يده أن اخرج، كان واضحًا من جميع الوجوه أنه قد قَبِلَ استقالَتي مكرَهًا بناءً على شِدَّةِ إلحاحي.
فخرجتُ من عنده، وأنا في غاية السعادة، فها أنا قد أصبحتُ حرًّا، وبإمكاني الآن الرجوع إلى أرضي وأملاكي، لكنني لما نمتُ تلك الليلة رأيت عجبًا؛ وكأنّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يتفقّد جيش السلطان ومعه الخلفاء الراشدون ووراءهم بخطوة السلطان عبد الحميد منكسًا رأسه في أدب وتواضع، وكانت الجنود تمرُّ عليه كتيبةً كتيبةً وسريّةً سريّة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يستعرض الجند وقد تهلَّلَ وجهُهُ، وإذا بكتيبةٍ غيرِ منتظِمةٍ تـَمُـرّ من أمامه، ولم يكن على رأسها قائدٌ، دقّقْتُ النظرَ فإذا هي كتيبتي! كانت تمضي فوضويّةً على غيرِ نظام، فالتفتَ النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه المبارك إلى السلطان عبد الحميد قائلًا: “أين قائد هذه الكتيبة؟ فقال له السلطان منكِّسًا رأسه: “لقد ألحّ على الاستقالة يا رسول الله فأقلتُه”، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم بظهرِ يدِه قائلًا: “ونحن قد أَقَلْنَا من أَقَلْتَ”، فشعَرْتُ حينَها وكأنَّ الدنيا قد انهارت فوق رأسي، ومنذ ذلك اليوم وأنا على الحال الذي ترى، والآن قل لي، من عساه أن يبكي إن لم أبكِ أنا على نفسي؟!
قد لا تبدو هذه الحادثةُ موضوعية للبعض، ولكنني أصدِّقُ كلّ ما جاء فيها، فكم من إنسان جاءني وذكر لي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يراجع ويتفقَّدُ بنفسِهِ حتى أدنى الخدمات، ولذا فإنني لا أرى داعيًا لعدم التصديقِ.
وكما ذكرنا في بداية الموضوع كان الفرنْسيُّون أوَّل من أطلقوا عليه لقب “السلطان الأحمر (Le Sultan Rouge)” فقام الأرمن بنشر هذا اللقَب في صحفهم، لذا كان على من يستعمل هذا اللقب أن يفكّر بالفم الذي تُلُقِّفَ عنه هذا اللقب وقام يكرِّرُهُ دون إدراكٍ أو تثبُّتٍ… عليه أن يفكر بهذا وأن يخجل. أجل، إنه كان سلطانًا أحمر بالنسبة للخفافيشِ المصابةِ بِداءِ عمى الألوان، بينما هو بالنسبةِ إلينا سلطانٌ عِملاق… أسكنَه الله فسيحَ جنَّاتِهِ.