سؤال: جاء في الأثر “تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من عبادة سَنَة”، فما طريق التفكر وأصوله وطريقته؟ وهل هناك وِرد أو ذكر خاص به؟ وأي الآيات أكثر دعوةً للتفكر؟ وهل يحل الدعاء الصامت محل التفكر؟
الجواب: أعتقد أنه عندما تم توجيه السؤال تم إعطاء الجواب عليه أيضًا، صحيح أن هناك حديثًا ضعيفًا يذكر أن تفكُّرَ ساعة خير من عبادة نافلة لمدة سنة، وفي رواية ثمانين سنة، قال عليه الصلاة والسلام: “تفكُّرُ سَاعَة فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار خيرٌ من عبَادَة ثَمَانِينَ سنة”[1]، ولكن هناك آيات عديدة في القرآن الكريم تؤيِّدُ هذه المسألة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/190).
أجل، إن في النظام المذْهِلِ الذي تجري ضمنه حركاتُ الشموسِ والأقمار وشروقها وغروبها لآيات لأولي الألباب، ففي هذه الآية دعوة صريحة للتفكُّرِ والتأمل.
وعن أمنا عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: “لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ: “يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي”، قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالُ يُؤَذِّنه بِالصَّلَاةِ فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: “أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ الآية كلها (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/190)”([2]).
إن هذه الآية ومثيلاتها تُعَدُّ رائدةً ومرشدةً وفاتحة لطريق الفكر والتأمل، ولها دلالات خاصة في إيضاح أبعاد التفكر في الإسلام، ولكن يجب معرفة معنى التفكر، أولًا يجب أن يستند التفكُّرُ إلى معلومات أوَّليّة، وإلا فالتفكر الجاهل والأعمى لا يؤدي إلى شيء، ومثل هذا التفكر المنغلق لا يؤدي بعد حين إلا إلى الملل، ثم يدع الإنسانُ التفكر، لذا فمن الضروري للإنسان أن يعرف الموضوع الذي يتأمله ويتفكر فيه معرفةً جيدة، فيستحضره ويُجهِّزُه في ذهنه دائمًا، أي يجب أن يملك معلومات مُسبَقةً حولها لكي يستطيع أن يفكِّر تفكيرًا منظَّمًا ومَنهجيًّا.
فإذا كان يعرف ولو شيئًا معقولًا حول الأقمار والنجوم وحركاتها وعلاقاتها بالإنسان، ويعرف شيئًا عن الفعاليات المدهشة للذَّرَّات التي تُشَكِّلُ الإنسان، وعن حركاتها؛ عند ذلك يُمكِنُ أن نُطلِقَ على عمليّةِ تفكيرِهِ بها عمليَّةَ تفكُّرٍ وتأمُّل، ولا نستطيع أن نقولَ لمن يذكرُ شيئًا عاطفيًّا أو شعريًّا حول حركة الشمس أو القمر إنه شخصٌ مفكِّرٌ، بل نقول عنه إنه شخصٌ ذو خيال، كذلك لا يمكن إطلاق صفة التفكير على بعض الطبيعيين، أي الذين يُرجعون كل شيء إلى الطبيعة، أما العديد من الكتّاب والشعراء المشهورين في عهد الجمهورية فلا يستحق منهم إلا عدد ضئيل لا يتجاوزُ أصابعَ اليد الواحدة صفة المفكّر، أما هذا العدد الضئيلُ فقد حُوربوا وطوردوا ولم يسمح للمجتمع أن يعرفهم ولا أن يشتهروا.
في هذا العهد هناك عددٌ قليلٌ من الذين حاوَلُوا أن يبحثوا في ماهية الوجود والأشياء، ولكنهم لم يستطيعوا أبدًا الوصولَ إلى حقيقتهما، صحيح أن الإنسان عندما يقرأُ شِعْرَ شعراء الطبيعة ووصفَهم لخرير الماء ولقطرات الأمطار وهمهمة الأشجار وتغريد الطيور يُحِسُّ كأنه في الجنة؛ ولكن لكونهم محرومين من حِسِّ الآخرة ولكونهم أعداء الماضي وجهلاء الحاضر فإنهم لن يصلوا إلى أيِّ نتيجةٍ، بل يبقون ضمن نطاقِ هذا العالم الظاهريِّ، ولا يستطيعونَ النفاذَ إلى خلفِ أستارِ هذا العالم وحُجُبِهِ، لأنهم يشبهون مسافرًا بقاربٍ صغيرٍ ذي مجدافٍ واحدٍ يدور حول نفسه في محيطٍ شاسعٍ لا نهاية له، وترى انسدادًا وانغلاقًا في كلِّ ناحية من نواحي تفكير هؤلاء، وما يُطلِقُهُ هؤلاء على أنفسهم من صفة التفكيرِ لا يعدو عن كونِه شعورًا منهم باليأس والألم أمام هذا الانسداد والانغلاق، ومن الطبيعي ألا تكون هناك أيُّ فائدة من مثل هذا النمطِ من التفكر.
من أجل التأمل والتفكر يجب أوَّلًا توفُّرُ معلومات أوليّة، ومعرفة لحقيقة الوضع الحالي، وإجراء تراكيب فكرية متلائمة مع الذات، أي “غير مقلّدة”، وتوفر مخزونٍ فكريٍّ ورغبةٌ ومعاناة للألم في سبيل البحث عن الحقيقة، والشخص الذي يستطيع التفكُّر على هذا النحو وبشكل مستمرٍّ، يستطيع الوصولَ إلى أشياء وآفاق جديدة، وعندما يجعل هذه الآفاق الجديدة بداية لحملةٍ فكريةٍ أخرى يستطيع الوصول إلى نتائج جديدة وإلى عمقٍ فكريٍّ أبعد، ثم يستطيع تحويل فكرِهِ ذي البُعدِ الواحدِ أو ذي البُعدين إلى فكرٍ ذي ثلاثة أبعاد أو أكثر، أي يصبح بمرور الوقت “ذا الجناحين” في عالم الفكر، فيصل إلى مستوى الإنسان الكامل.
إذًا فالأساس الأول للتفكُّر هو التعوُّدُ على القراءة وعلى مطالعةِ كتاب الكون، ثم فتحُ صدره وقلبِهِ للإلهامات الإلهية، وعقلِهِ لمبادئِ الشريعةِ الفطريةِ، والنظرُ إلى الوجود بعدَسة القرآن الذي يُعَدُّ الكتابَ المقروءَ للكون، هذه هي شروط التفكُّرِ، وإلا فإنَّ النظرَ السطحيَّ إلى الأشياء، ومعرفةَ أن هذا النجمَ هو الزُّهرة، وأن مغيب الشمس سيكون هكذا، وأن المرّيخ في الموضع الفلاني… إلخ، مثل هذا الجمعِ العشوائي للمعلومات الذي لا غاية له ولا هدف لا يمكن أن يكون تفكُّرًا ولا يمكن أن يؤدِّي إلى نتيجة أو إلى غاية، ومن المشكوك فيه استحقاقُهُ لأيِّ ثواب.
والسببُ في كونِ ساعةٍ من التفكُّرِ والتأمُّلِ تُعادِلُ كذا سنة من العبادة، هو أن الإنسانَ يستطيعُ في ساعةٍ واحدةٍ من التفكُّرِ الصحيح المثمِرِ تغذيةَ أُسُسِ إيمانه وتقويتَهُ، فتبرقُ في نفسه أنوار المعرفة وتومضُ في قلبهِ المحبَّة الإلهيَّة، فيصل إلى الأشواق الروحية ويطير في أجوائها.
وهكذا فإن أي إنسان يسلك هذا الطريق من التفكر يستطيع الوصول إلى مرتبة لا يصل إليها شخص آخر -محروم من هذا الأسلوب في التفكُّر- في ألف شهر، أي يحصل هذا المتفكر على مكاسب كبيرة، أما من لم يستطع التوجُّهَ إلى ربه بهذا الشعور والفهم فإنه إن ولّى وجهه قِبَلَ المشرق والمغرب مائة سنة لا يستطيع تسجيل خطوة واحدة إلى الأمام، ولا يعادلُ ما فعلَهُ ساعةَ تفكُّرٍ واحدة، ولكن هذا لا يعني أن قيامه بالعبادة مائة سنة ذهب سدًى، فلن يُضيع الله أجرَ ركعةٍ واحدةٍ ولا سجدةٍ واحدة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ $ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ: 99/7-8)، أي إنَّ كلَّ شخصٍ سيلاقي جزاء ما عمله، وعلى هذا الأساس فإن هذا الشخص أدّى وظيفةَ عبوديته وأسَّسَ نوعًا من العلاقة بينه وبين ربه، ولكنه لم يصل إلى المرتبة التي يتمُّ التوصل إليها بالتفكُّر. أجل، إن مثل هذا المستوى من التفكر قد يقابل مائة عام من العبادة.
هناك سؤال آخر مطروح وهو “أيوجد هناك وِرد أو ذكرٌ خاصّ يشكل أساسًا أو وسيلة للتفكُّر؟ وهل يستطيع وِردٌ أو ذِكرٌ معيّنٌ توسيعَ تفكُّر الإنسان؟”.
يتعلَّق هذا أيضًا بمقدار الشعور والفهم والإحساس الذي يتمُّ به هذا الورد أو الذكر، مثله في ذلك مثل مطالعة كتاب الكون، فالدعاء الذي يتمُّ بشعورٍ وإحساسٍ والمناجاةُ الضارعة المملوءة عاطفةً ووجدًا تستطيع فتحَ أكثرِ المفاتيح صدأً داخل الإنسان، غير أنني لا أستطيع ذكر من أين وكيفَ يتمُّ اختيار مثل هذا الورد أو الذكر، ذلك لأن هذا الأمر يختلف حسب القابليات وحسب الاستعدادات، كذلك حسب إيمان الأشخاص وقناعاتهم، لذا فمَن أراد قرَأ “الأوراد القدسية” أو “المأثورات” أو الأوراد التي كان يقرؤها الشيخ الشاذلي أو أوراد الشيخ الجيلاني أو أحمد الرفاعي أو أوراد أحمد البدوي قدس الله أسرارهم، وعندما يقرأُ الإنسانُ أوراد هؤلاء السادة العظام يحسُّ وكأنهم في جانبه وبالقرب منه، فلا يشبع من لذَّةِ الأشواق التي تغمرُ قلبه، كم أتمنى لو أن الجميعَ قرؤوا هذه الأوراد واستفادوا منها، لأنهم يُجَدِّدُون بذلك أنفسَهم ويقوُّون صلتهم بالله تعالى.
وأمرٌ آخر في هذا الخصوص: أتَحلُّ الآياتُ الداعيةُ إلى التفكُّر والمقروءةُ بشكلٍ صامتٍ مكانَ التفكُّرِ؟
إن لم يستطع الإنسانُ فهمَ ما يقرؤُهُ ويُرَدِّدُهُ فلا يستطيع الانسجام معه والتعمُّقَ فيه، يتحقَّقُ له الثواب، ولكن لا تتحقَّقُ ناحية التفكُّر هنا، والتفكُّرُ يأتي من كلمة “الفكر”، أي عملية ضمِّ الوقائع بعضها مع البعض الآخر وإجراء تركيب بينها، صحيح أن وضع علاقة بين السبب وبين النتيجة أي بين العلّة والمعلول وتقوية العلاقة بين العبد والخالق يُعَدُّ تفكُّرًا، إلا أن الأوراد التي لا توصل إلى مثل هذه العلاقة المقدَّسَةِ وإن كانت هذه الأوراد تعود إلى رجال كبار وعظام إلا أنها لا تُعَدُّ تفكُّرًا ولكنها تَعِدُ بالثواب، ولكي تُعدّ تفكّرًا فإنها متعلِّقة بدرجة قيامها بإثارة الروح والقلب وبدرجة تعميقِ علاقتنا مع ربنا وتقويتها.
نسألُ الله التوفيق، ولا ننسى أن نذكر بأن التفكُّرَ هو من أندَرِ الأمورِ في أيامنا الحالية، فإن قلنا بأن إنساننا الحالي مقصِّرٌ جدًّا في هذا الأمر فلا نكون مبالغين أبدًا.
الديلمي: الفردوس بمأثور الخطاب: 2/70.[1]
[2] صحيح ابن حبان، 2/386؛ ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 2/166؛ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 4/310.