سؤال: من هم أولو الأمر الذين أمرَ القرآن الكريم بطاعتهم؟ وما حدودُ طاعتنا لهم؟
الجواب: أجل، يأمر رب العزَّة جلَّ جلاله بإطاعةِ أولي الأمر فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/59)، فالله تعالى يأمرنا بالانقياد إلى أوامر الله تعالى وإطاعته وعدم عصيانه وأن نطيعَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت كلمة “الرسول” مُـحَلَّاةً بالألف واللام، أي أطيعوا الرسول المعلوم لديكم وهو محمد r، وهذا لا يمنعُ أو يُؤثِّرُ على حقيقةِ حبِّنا لباقي الأنبياءِ والرسل؛ إذ إننا قد تعلَّمنا الإيمان بهم وحبَّهم من رسولنا، وعرفنا منازلهم الرفيعة بالمقياس الذي قدَّمهُ لنا رسولنا r.
لقد عرفنا منه المنـزلة الرفيعة والعالية للسيد المسيح مع أن عقيدة التثليث والكنيسة شوَّهَتْ صورتَهُ إلى درجةٍ لم يعُدْ بعدها معروفًا بهويّته الحقيقية الناصعة، لقد عرفنا جميع الأنبياء منذ عهد آدم وحتى عيسى u بوساطته، إذًا فلكي نعرف الآخرين علينا أن نعرفه هو أولًا وأن نطيعه وأن ندور في فلكه المنير، عند ذلك ستتوضح كل الأمور وتنجلي.
يا أيها المعصوم يا من فضله***عم الورى باليُمْن بالإعطاءِ
كل العوالم قد أتتك مدينةً *** وتقر أنك منقذُ الغبراءِ
يارب فاجمعنا به يوم اللقا*** وأجبْ بما نتلوه كل دعاءِ
﴿وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ أي أطيعوا أولي الأمر منكم الذين يسيرون على النهج المضيء للرسول، واتبعوا جميع القادة والزعماء؛ سواء أكانوا قادة وأمراء على بضعة أشخاص أم على الآلاف والملايين؛ شريطةَ سيرهم على الصراط الذي بيَّنَهُ الله تعالى ودلّ عليه الرسول، وعَزْمِهِم على المضيِّ في هذا الطريق بكلِّ جدٍّ وإخلاص، ومع أنَّ الطاعةَ مقيَّدةٌ بأُطُرٍ ومقاييس معينة؛ إلا أن الطاعةَ المطلقةَ هي للذين يمشون على طريق الرسول r وسنَّتِهِ الشريفة.
تتحدَّث الآية عن إطاعة الله ورسوله وأولي الأمر أي عن ثلاث طاعات متصلة بعضها مع البعض الآخر، وما اكتسب النبي كل عظمته ومنـزلته الرفيعة إلا لكونه رسولًا لله تعالى. نعم إنه إنسان، ولكنه في سبيل وصولنا إلى الله تعالى يُعدّ وسيلة في مستوى الغاية، ونحن متعلقون بهذه الوسيلة عندما نمضي في طريقنا، وهذه الوسيلة الموجودة في يدِ الرسول هي حبل الله المتين الذي إن تمسكنا به وصَلْنا إلى الله تعالى، لأن الطرفَ الآخر من الحبل في يدِ الله تعالى، والرسول r يقول وهو يَصِفُ لنا القرآن: “هُوَ حَبْلُ اللَّهِ المَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ العُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا $ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ (سُورَةُ الْجِنِّ: 72/1-2)، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم”([1]).
هذا هو النبي الذي امتزجت روحه بأوامر الله تعالى وتعلمنا بفضله واجباتنا تجاه الله تعالى، فالنبي ليس إلهًا -حاشا لله- ولا يقعد على يمين الله تعالى -سبحانه- مثلما يقول النصارى، ولكنه مرآة مصقولة تنعكس عليها تجليات الله تعالى، أي إنك لن تستطيع مشاهدة الطريق الموصل إلى الله تعالى إن لم تشاهد هذه المرآة، كما يقول الشاعر التركي الصوفي سليمان شلبي:
جعلتُ ذاتَك مرآةً لذاتي *** وقرنتُ اسمك باسمي
وكما أن هذا الطريق ناصِعُ البياضِ حتى الآن؛ فسيكونُ واضحًا مُنَوَّرًا فيما بعد أيضًا.
“وأولي الأمر منكم”؛ يعني كما أن الرسول يحكم بحكم الله ويطلب من المؤمنين إطاعته على هذا الأساس كذلك يجب أن يكون من نُطْلِقُ صفةَ “أولي الأمر” عليهم في أثر الرسول متبعًا طريقه ومنهجه.
فهذا هو الصديق الأكبر وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي الكرار رضوان الله عليهم.. هؤلاء لم يخالفوا الرسول r طرفةَ عين، وكانوا يُفضِّلون أن تنخَسِفَ بهم الأرض ولا يعصون الرسول أدنى معصية أو يحيدون عن طريقه قيد أنملة، والمؤمنون مأمورون بإطاعة أمثال هؤلاء الأمراء والانقياد لهم، وبِقَدْرِ ما يُخالفُ أولي الأمر تعاليمَ الرسول بقدرِ ما يفقدون حقَّ طاعةِ الناس لهم مهما كانت خدماتهم كبيرة، لذا لا تستوجب الإمارةُ الطاعةَ بشكلٍ مطلَقٍ، فإن كان الأمير -بجانبِ إمارَتِهِ- متبعًا للرسول منقادًا له وَجَبَتْ طاعتُهُ، وكانت هذه الطاعة عبادة، فإن لم يتبع الأمراءُ هذه المقاييس المذكورة أعلاه، وكانت المصلحةُ الشرعيّة لخدمة الدينِ وإعلاءِ كلمة الله تستوجبُ الصلح والانقياد والحركة الإيجابية؛ كان على المؤمنين اجتنابُ أيِّ حركةٍ سلبيّة مهما كانت ضئيلةً وإن اجتمعت الدنيا عليهم.
وهناك أمر آخر: إن دائرةَ الطاعةِ واسعةٌ جدًّا ومتداخلة، فالرسول يقول: “إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ”([2])، أي يكون أحدُ الثلاثة أميرًا ويسمع الاثنان الباقيان توجيهاته ويطيعانه، فإن كانوا في سفرٍ فإنه يُسألُ عن جميعِ نشاطات السفر من قيامٍ وقعود ونوم وجلوسٍ ونشاطٍ ونـزهة… إلخٍ، فدائرةُ الطاعة تبدأُ من هنا.
والصلاة تُعلِّمنا الطاعةَ لأن الإمام يركعُ فنركع، ويسجدُ فنسجدُ وراءَهُ، كما يتعلَّم الجنديُّ النظامَ كذلك تُعلِّمُنا الصلاةُ -إلى جانب غايتها الأساسية- النظامَ، ونحن نتعوَّدُ على الاستماع والإنصاتِ عندما نُصلِّي مع الجماعة.
إن المؤمنين الذين ارتبطت قلوبهم وعقولهم بالدعوة لا يمكن أن يتصرَّفوا في أيِّ شيءٍ يتعلَّق بالإسلام تصرُّفًا فرديًّا، بل يتمُّ تناولُهُ تناوُلًا جماعيًّا من زاوية المشورة، وإذا استوجبَ الأمرُ فإنَّ الموضوعَ يُنقَلُ إلى من يَثِقُون برجاحةِ عقلِهِ وتجربتِه، ثم يجري التصرُّفُ حسبما اتُّفِقَ عليه، والطاعةُ والانقيادُ واجبٌ هنا، والحقيقةُ أن إطاعةَ المؤمنين لأولي الأمرِ الذين يقومون بتحقيقِ الشورى إنما هي إطاعةٌ لله تعالى.
أجل، فمن أجل الحقِّ ومكانته يجب أن نسمع ونطيعَ حتى لو كان الأميرُ عبدًا حبشيًّا: “اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ”([3])، ولم يكن آنذاك وحسب التقاليد والأعراف السائدة أن يقوم سيد قرشي بإطاعة عبد أسود، ولكن رسول الله كان قد جاء ليهدم جميع العادات الجاهلية، وهذا الحديث وضع في الوقت نفسه السؤال الآتي: هل يجب أن يكون الإمام من قريش؟ أم يجوز تنصيبُ عبدٍ حبشيٍّ إمامًا؟ إذًا فهذا الحديث يدلُّ على جواز تولية عبدٍ حبشيٍّ وكونه إمامًا للمسلمين.
إذًا فعلى المؤمنين أن يتشاوروا في كلِّ ما يتعلَّقُ بالخدمة الإيمانية والإسلامية وأن يَصِلوا في النهاية إلى حكم ونتيجةٍ ما، أو يرضوا بِـحُكمِ شخصٍ موثوق بعقلِهِ وتجارُبِهِ وإخلاصهِ، ثم يبدأُ فصلُ الطاعة والانقياد، فإن كان العكسُ وتصرّف كلُّ فردٍ حسب رأيِهِ الشخصيّ فالنتيجةُ النهائيّةُ هي الفوضى، وبما أن القلوبَ لم تتَّحِدْ ولم تتَّفِقْ فإن الله تعالى سيحرم هؤلاء من الفضل الذي يُسبغه على الجماعة.
إن الفرد قد يستهدفُ أشياء معيّنة بِفَضْلِ كفاءاتِهِ ومزاياه، وقد يُحَقِّقُ اللهُ هدفَهُ ويعطيه ما يصبو إليه، ولكن هناك أفضال لا يُعطيها الله إلا للجماعة، فإذا كان الناس قد أفسدوا بِنْية الجماعة وشتَّتُوها، وبدأ كلُّ واحدٍ منهم يتصرَّفُ تصرُّفًا فرديًّا فإنهم سيُحْرَمون من النِّعَمِ والألطاف التي يرسلها الله تعالى للجماعة، فصلاةُ الاستسقاءِ، وصلاة الخسوف والكسوف وصلاة العيد والوقوف على جبل عرفات… كلُّ هذه فعاليات جماعية لا تتم إلا بجماعة، ولم تفرض هذه الفعاليات إلا بعد وصول المسلمين إلى مستوى تشكيلِ الجماعة.
ومع أن الصلاة فُرضت في مكة؛ إلا أن صلاة الجمعة فُرِضَتْ في المدينة، لأنه لم تتشكل في مكة جماعة، وبعد أن شكَّل المسلمون بِهجرتهم جماعةً؛ أصبحت صلاة الجمعة فريضةً.
ولقد وصلت المدينةُ إلى هذه المرحلة قبل مكة، صحيحٌ أن صلاةَ الجمعة لم تكن بعدُ فرضًا، ولكن أسعدَ بن زرارة رضي الله عنه كان يجمعُ مسلمي المدينة يوم الجمعة ويُصلِّي بهم صلاة الجمعة، ذلك لأن الجوَّ في المدينة كان أكثر تلاؤمًا لنشاطات الجماعة من مكة.
وربما لم يشأ القدرُ أن يحرم أسعدَ بن زرارة من هذا الفضل؛ لأنه لن يستطيع أن يُصلي الجمعة خلفَ سيدنا رسول الله الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان أسعد بن زرارة قد ارتحل إلى الدار الآخرة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وسمع من قبره تلك الأناشيد التي قيلت في ثنية الوداع عند قدومه صلى الله عليه وسلم، وكان البراء بن عازب رضي الله عنه إذا ما ذُكر أسعد بن زرارة يبكي، وإذا ما سُئل عن ذلك كان يحكي هذا.
الطاعةُ أمرٌ خاص بأحوال الجماعة، فما إن يبدأ الناس بالتصرُّف بشكلٍ جماعيٍّ حتى تكتسب الطاعة والانقياد أهمية كبيرة في كلّ ساحة صغيرةً كانت أو كبيرة.
يجب على المؤمن معرفة معنى الطاعة وتنفيذها، وقد اهتمّ الرسول بهذا الأمر اهتمامًا كبيرًا وعمل كلَّ ما في وسعِهِ لتطويرِ هذا الإحساسِ وتنميتِهِ وسنكتفي هنا بإيراد بعض الأمثلة:
وفي مرة أخرى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا، فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا: “لَوْ دَخَلُوهَا لَمْ يَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ”، وَقَالَ لِلْآخَرِينَ: “لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ”([4]). ذلك لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، إذًا فالقاعدة هنا أن الطاعة للأمير واجبة باستثناء معصية الخالق.
ولكي يقوي الرسول مفهوم الطاعة جعل على رأس الجيش الذي هيأه للمسير إلى “مؤتة” زيد بن حارثة وهو طليقُ إحدى زوجاتِهِ وابنُهُ بالتبنِّي([5])، بينما كان في الجيش أصحاب كبار من أمثال جعفر بن أبي طالب t الذي ضنَّ الزمانُ بأمثالِهِ، لقد كان يكبرُ أخاه علي بن أبي طالب بثماني سنوات، وكان من أوائل المسلمين، هاجر إلى الحبشة وقرأ القرآن أمام النجاشي فكان تأثيره عليه كبيرًا.
لقد كان مؤثرًا في حديثه وكلامه وقد آن أوان استعمال سيفه، فهو مبُرّزٌ في هذا المجال أيضًا، وعلى الرغم من كل هذه المزايا فقد نصَّبَ الرسول زيدَ بن حارثة أميرًا عليه، وتذكر كتبُ المغازي أنَّ جيشَ الأعداء في معركة مؤتة كان يزيدُ على مائتي ألف مقاتل، وما كان أمام هذا الجيش العرمرمِ سوى ثلاثة آلاف من المسلمين، إذًا فاحسبوا عدد الجنود الكفار الذين كان على كل جنديٍّ مسلم أن يُقاتلهم، يَصِفُ الذين كانوا حول جعفر في أثناء القتال أنه لم يُحوِّلْ وجهَهُ والسيوفُ تنهالُ عليه من كلِّ جانب وتبترُ في كلِّ مرة عضوًا منه، ولقد كان الرسول r جالسًا في مسجد المدينة يشرح لأصحابه ما يحدث لجيش المسلمين بكل التفاصيلِ الدقيقةِ وكأنه يشاهد ما يحدث على شاشة معنوية، ثم أخبرهم أنه رأى جعفرًا في الجنة وقد أثابه الله جناحين يطير بهما حيث يشاء، وقال رسول الله r بعد استشهاد القادة الثلاثة: “لَقَدْ رُفِعُوا لِي فِي الْجَنَّةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ عَلَى سُرَرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَأَيْتُ فِي سَرِيرِ عَبْدِ اللهِ بنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا عَنْ سَرِيرِ صَاحِبَيْهِ، فَقُلْتُ: بِمَ هَذَا، فَقِيلَ لِي: مَضَيَا، وَتَرَدَّدَ عَبْدُ اللهِ بَعْضَ التَّرَدُّدِ وَمَضَى”([6])، إذًا فهذا هو جعفر ومع ذلك لم يكن على رأس الجيش، بل كان الأمير عليه زيد بن حارثة، الذي كان في السابق عبدًا ثم حرره الإسلام، وكان الجميع يطيعونه دون تردد.
وعندما شاهد المسلمون ضخامة جيش العدو قال بعضهم: “نَكْتُبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوّنَا، فَإِمَّا أَنْ يَمُدَّنَا بِالرِّجَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ، فَنَمْضِيَ لَهُ، قَالَ: فَشَجَّعَ النَّاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَالَ: يَا قَوْمِ، وَاللَّهِ إِنَّ التي تَكْرَهُونَ لَلَّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا كَثرةٍ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إِلا بِهَذَا الدِّينِ الذي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَانْطَلِقُوا فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا ظُهُورٌ وَإِمَّا شَهَادَةٌ، قَالَ فَقَالَ النَّاس: قَدْ وَاللَّهِ صَدَقَ ابْنُ رَوَاحَةَ، فَمَضَى النَّاسُ”([7]).
استشهد في مؤتة القواد الثلاثة حتى جاء دور خالد بن الوليد، الذي آلمه هذا السيل من دماء المسلمين، جاء دور هذا القائد الذي سيفتخر به المسلمون أبدَ الدهر، لم يكن قد مضى على إسلامه سوى بضعة أشهر حتى وجد نفسَه في حومة هذا الوغى، لأنه كان يتحرّق شوقًا للاشتراك في هذه المعركة والذودِ عن حياض الإسلامِ، ويذكر بعض كتب المغازي أن الرسول لم يرضَ أول الأمر باشتراكه في هذه الحرب، ثم سمح له بذلك، والآن نحن نتساءل: ماذا استطاع خالد أن يتعلم من القرآن خلال هذه المدة القصيرة؟ وإلى أيِّ مدى تعرَّفَ على رسولنا؟ إذًا فقد عرفه إلى درجة استطاع أن يضحي بمكانته الاجتماعية ويكون تحت إمرة شخصٍ كان عبدًا في السابق، ثم انجلى القدر فإذا هو في الصف الأول، فما إن استشهدَ القائد الأول حتى جاءَ إلى قيادة الجيش جعفرُ بن أبي طالب ثم الصحابي عبد الله بن رواحة الذي كان مضاءُ لسانه كمضاءِ سيفِهِ، ثم استشهدَ عبدُ الله بن رواحة ليأتي الدور إلى خالد بن الوليد الذي كان القدرُ الإلهي يمهِّدُ لظهورِهِ كقائدٍ كبيرٍ في المستقبل.
والآن لننظر إلى الموضوع من زاوية الروح الجماعية والطاعة:
قام الرسول بتعليم الطاعة والانقياد عندما قام بتنصيب عتيقٍ أميرًا على الجيش ولا شكَّ أننا يجب ألا نقيم هذا الأمر بالمقاييس السائدة حاليًّا، ذلك لأن العبد آنذاك كان يُعامل معاملة الحيوان، إذ لا يستطيع أن يجلسَ ويأكلَ مع سيِّده، لأنهم كانوا يعتبرونه أدنى مرتبة من أن يفعلَ ذلك.
وعندما يُنصِّبُ الرسول شخصًا كان عبدًا في السابق على رأسِ جيشِ المسلمين فهو يُعلِّمهم بذلك أصولَ الطاعةِ والانقياد، وكان الرسولُ يَمنحُ هذا الموضوع اهتمامًا كبيرًا إلى درجة أنه قام قُبيلَ وفاته بتنصيبِ الحِبِّ بن الحِبِّ أسامة بن زيد بن حارثة على رأسِ جيشٍ تقرَّرَ إرساله إلى البيزنطيين ليردعهم ويُقلّمَ أظافرهم ويأخذَ بثأر أبيه زيد، لقد حدثَ هذا الأمرُ مع أن أسامة كان آنذاك شابًّا في العشرين من عمره، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما كانا مجرد جنديين في هذا الجيش، وكان النبي يريد بعمله هذا هدمَ عادة أخرى من عادات الجاهلية ونشرَ روحِ الطاعة والانقياد، لأن أسامة كان ابنَ شخص مُعتَقٍ، “أي عبد سابق” وكان من الفقراء، وعندما أرادَ الرسول تعليمَ صحابتِهِ طاعة مثل هذا الشاب الفقير وابن عبد إنما كان يرسخ مفهوم الطاعة الحقيقية ويوجه إليها الأنظار، فقد اهتمّ الرسول الكريم طوال حياته السنية بموضوع الطاعة اهتمامًا كبيرًا.
ونحن نأمل من الكوادر التي جعلت الدعوةَ وخدمة الإسلام هدفها الوحيد في الحياة وتهيَّأت لِفَتْحِ عهدِ بعثٍ جديدٍ أن ينشَأ أربابُها في الجوِّ نفسه ويستوعبوا مفهومَ الطاعة جيّدًا، وإلا فالتشرذمُ والتفتُّتُ بالمرصاد، وأنواعٌ من البؤسِ والشقاءِ والخلافِ بالانتظارِ، وعدم الطاعة هو المصيرُ المحتوم.
هذا مع العلم أنه لم يبقَ في طوقِ إنسانِنا الحاليّ مجالٌ كبيرٌ للتحمُّلِ والصبر والانتظار، لذا كان لزامًا على هذا الكادر أن يستقيمَ على الحق ويعبرَ نفقَ هذه الأزمة بأقصرِ وقتٍ ممكن لكي يستطيعَ -بالانقيادِ والطاعة- أن يبعثَ الأملَ في النفوسِ التي قاست الكثير حتى الآن.
[1] سنن الترمذي، فضائل القرآن، 14؛ الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 1/741.
[2] سنن أبي داود، الجهاد، 80.
[3] صحيح البخاري، الأحكام، 4؛ سنن ابن ماجه، الجهاد، 39.
[4] صحيح البخاري، أخبار الآحاد، 1؛ صحيح مسلم، الإمارة، 40.
[5] كما هو معلوم فقد حرم الإسلام بعد ذلك التبني. (المترجم)
[6] الطبراني: المعجم الكبير، 13/182؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 4/280.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية، 4/277.