سؤال: ماذا يكون وضع من وُلد في أحد البلدان الأجنبية يوم القيامة ؟
الجواب: هذا السؤال هو أحد الأسئلة التي طرحت في السابق ولا تزال تطرح الآن، وأعتقد أنه يطرح لإثارة الجدال، أي يقولون إننا سندخل الجنة لأننا نؤمن بالله وبرسوله، ولكن أيدخل الآخرون الذين ولدوا في بلدان بعيدة عن العالم الإسلامي كباريس ولندن وموسْكو، ولم تتيسر لهم الإمكانيات التي تيسرت لنا ولم يصلهم النور الذي وصل إلينا؟ أيدخل كل هؤلاء إلى جهنم؟
مثل هذا السؤال يحمل أمرين: الأول إظهار رحمة أكثر من الرحمة الإلهية. والثاني، عرض نقد خفي ضد الإسلام.
نقول أولًا إنه -خلافًا للعقيدة الشائعة- لا يصح تعميم الحكم على هؤلاء بأنهم سيذهبون جميعًا إلى جهنم، ولكن القاعدة الأصلية هي كما يأتي: إن الذين سمعوا بدعوة رسولنا وشاهدوا النور الذي جاء به، ولكنهم أبَوا وعاندوا وسدوا آذانهم دون هذه الدعوة.. مثل هؤلاء سيذهبون إلى جهنم دون شك. ومن الحماقة هنا التظاهر برحمة أكثر من الرحمة الإلهية. ولا ينطبق هذا على الذين يعيشون في البلدان الأجنبية، بل ينطبق هذا الأمر على الذين يعيشون في بلادنا، فمن لم يتبع النور الذي أتى به الرسول r بل أدار ظهره له وخالفه فإن مصيره أيضًا إلى جهنم وعاقبته هي الخسران المبين. وإننا لنرجو الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء أن تجعلنا من أتباعه r ومن السائرين خلفه في هذا العصر الذي كثر فيه الجاحدون.
لقد تناول هذا الموضوع علماء الكلام الذين صرفوا جهودهم لإيضاح ما جاء في القرآن وفي السنة النبوية إيضاحًا عقليًّا ومنطقيًّا وفلسفيًّا وتأييِده وتقويته عن طريق الفكر، وشرحوه مفصّلًا. أجل، فهل سيكون مصير الذين لم يجدوا فرصة الاستجابة للرسول r، مثل مصير الذين سمعوا به ورفضوه وعاندوه؟ أم أن هناك فرقًا بين هاتين الفئتين؟
ويخطر على البال أيضًا أسئلة عديدة: فهل تستحق مثل هذه الأسئلة اهتمامًا منا بجانب المسائل والمشكلات المهمة التي نعانيها الآن؟ وهل العثور على أجوبة لمثل هذه الأسئلة سيفيدنا في حياتنا الأخروية؟ وهل هناك فائدة حقيقية في حياتنا العملية؟ ولماذا صرف أئمة المذاهب جهودًا كبيرةً حول هذه المسائل وهذه الأسئلة؟
والآن لنتناول قبل كل شيء وجهات نظر علماء العقائد حول هذا الموضوع الذي يثير معه كثيرًا من الأسئلة:
يقول الأشاعرة بأن من عاش ولم يسمع شيئًا عن الله تعالى ولم يبلغه شيء عنه فإنه يُلحق بأهل “الفترة” أي يُعدّ من أهل النجاة أينما عاش وفي أي زمن عاش وكيفما عاش. فإن لم تبلغوا دعوة الرسول وتحملوها إلى أقاصي الأرض المظلمة، فإن الأشاعرة يقولون إن أهل هذه البلاد الذين يعيشون في ظلام سيكونون من أهل النجاة وإن الله تعالى سيدخلهم جنته.
أما الماتريدية فنراهم في خط موازٍ للمعتزلة حيث يقولون إن الإنسان إن توصل بفكره وعقله إلى الله تعالى –أيًّا كان الاسم الذي أطلقه عليه- سينجو يوم القيامة. ولكن إن لم يصل بعقله إلى الله تعالى ولم يصدّق بوجوده فلن يكون من أهل النجاة.
ومع أن هاتين النظرتين ليستا متطابقتين، إلا أن الفرق بينهما قليل لأن الماتريدية يرون أن الإنسان حيثما كان سواء في الجبل أو في السهل أو في الصحراء يرى حواليه آياتٍ ودلائلَ عديدةً تشير إلى الخالق اعتبارًا من طلوع الشمس والقمر وغروبهما، ومن لَمَعان النجوم في السماء، والأرض المزينة بأنواع الزينة، والجبال وهيبتها، والسهول والوديان التي تجري فيها جداول المياه، ومنظر الأشجار والأعشاب، وبسمة الأزهار والورود… كل هذه المناظر آيات تشير وتدل على الخالق تعالى بلسان بليغ. وكل من به مسكة من عقل سيرى وراء مظاهر هذا الجمال يدًا خفيةً، لذا سيتوصل إلى أنه لا بد من وجود خالق. ومثل هذا الشخص يكون من أهل النجاة وإن لم يعرف صفات الله تعالى ورسله وأنبياءه.
لذا ليس من الصحيح أن نبادر بالقول دون تثبت حال الناس الذين يعيشون في البلاد الأخرى “إنهم لم يؤمنوا، لذا فهم من أصحاب النار”. ذلك لأن وجهات نظر أئمة المذاهب لا تسمح بهذا، وهي تدعونا إلى السكوت والصمت في أقل تقدير.
أما الإمام الأشعري فينطلق في وجهة نظره من الآية: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 17/15) وآيات أخرى مثلها. أجل، فالقرآن يقول بأن الله Y لا يعذّب أمة لم ترَ رسولًا، إذًا فالذين لم يروا نبيًّا ولم يسمعوا به، لا يُعذبون([1]).
ويرى الإمام الماتريدي أن العقل يستطيع التمييز بين الحسن والقبيح وهو مقياس مهم في هذا الأمر. ويستطيع الإنسان أن يقول -اعتمادًا على عقله- إن هذا حسن وهذا قبيح. صحيح أن الزعم بأن العقل يستطيع الوصول إلى حدس وإدراك كل شيء زعم باطل، ولهذا أمَر الله تعالى بالخير ونَهَى عن الشر، ولم يدع هذا الأمر المهم إلى العقل الذي يحتمل سَهْوه وقصوره، بل نظم هذا الأمر بالوحي وبينه ووضحه بوساطة أنبيائه ورسله ولم يدع أي شيء مبهَمًا أو غامضًا.
إن العقل -حسب الماتريدية- يستطيع حدس قبح الزنا، لأنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب وضياعها. فمن يرث من؟ فإذا لم تحافِظ المرأة على عفّتها، وإذا كان أطفالها مجهولي النسب فمن يأخذ ميراث من؟ إذًا يستطيع العقل الوصول إلى أن الزنا قبيح. كذلك يستطيع العقل التوصل إلى أن السرقة شيء قبيح أيضًا، لأن من القبح قيام شخص بأخذ مال شخص تعب وشقي في سبيل الحصول عليه. ويستطيع العقل حدس قبح الخمر والمسكرات، لأنها تزيل العقل وتسبب نتائج ضارةً سلبيةً في النسل وتؤدي إلى أمراض وعلل مختلفة. ويمكن ذكر الشيء نفسه بالنسبة لأمور أخرى كذلك.
والأمر نفسه وارد بالنسبة للأشياء الحسنة. فالعدالة حسنة والإحسان إلى الآخرين ومساعدتهم شيء حسن وجميل، ويمكن للعقل أن يحدس هذه الأمور. والقرآن والسنة النبوية أوضحتْ هذه الأمور وأمرت بها وبينتها وأنقذتنا من الزلل والخطأ في مثل هذه المواضيع.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإيمان بالله فهو شيء حسن، لأن الإنسان يصل به إلى الاطمئنان النفسي فيعيش حياته في سعادة ويذوق جزءًا من سعادة الآخرة وهو في الدنيا. كما يمكن حدس الطريق الموصل إلى الإيمان بالعقل والمنطق، لذا نرى أن بدَويًّا في الصحراء أحس بذلك، وعندما حضر إلى مجلس النبي r وسُئل كيف عرف ربَّه قال: “البعرة تدل على البعير والروث يدل على الحمير وآثار الأقدام تدل على المسير… فسماء ذات أبراج وبحار ذات أمواج أما يدل على العليم القدير؟!”([2]).
فحتى بدويّ بسيط وراعي إبل استطاع بعقله التوصل إلى وجود ذاتٍ يملك جميع الأشياء في قبضته ويعلم كل شيء، فلا يمكن إذًا إهمالُ دور العقل في موضوع الإيمان إهمالًا كليًّا.
وانطلاقًا من هذه النقطة قال الماتريدي: إن الإنسان يستطيع بعقله الوصول إلى ربه. والدليل على هذا هو أن الكثيرين أحسّوا بهذا في العهد الجاهلي وفي عهد “الفترة”. فمِن هؤلاء “ورقة بن نَوفل” الذي كان ابن عم والدتنا خديجة الكبرى رضي الله عنها. وحينما شاهد رسول الله r جبرائيل u على صورته الحقيقية وهو يسدّ المشرق والمغرب جفل وأسرع إلى أمّنا خديجة يخبرها بما رأى، فذهبت به أمّنا إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي كان قد ترك عبادة الأوثان والأصنام، لأنه أحس بأنها لا تضر ولا تنفع وتوصّل بعقله إلى الله تعالى.
ومن هؤلاء “زيد بن عمرو بن نفيل” عمّ عمر بن الخطاب. كان زيد قد ترك عبادة الأوثان وفارق دينهم، ويروى عنه بأنه قال في عبادة الأوثان: “فَلَا العُزَّى أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَمْرٍو أَزُورُ”([3]). لم يكن النبي r قد أعلن نبوته بعد، ولكن زيد بن عمرو كان يحدس قرب مجيء نبي جديد ودين جديد. عن عامر بن ربيعة قال: “سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيًّا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه وأنا أُومن به وأصدّقه وأشهد أنه نبيّ… فإن طالتْ بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام”([4]). وكان يؤمن بخالق لا يستطيع معرفته، وكان يقول: “اللهم إني لو أعلم أحبّ الوجوه إليك عبدتُك به، ولكني لا أعلم”([5]).
فحتى بمثل هذا التفكير البسيط كان باستطاعة الجميع تقريبًا التوصل إلى وجود خالق مالك للسموات والأرض. كان زيد بن عمرو وورقة بن نوفل قد فتحا كوة صغيرة في قلوب أقربائهما، لذا نرى أن سيد الأنبياء عندما بدأ بدعوته اختار من هؤلاء أفضل المؤيدين والمؤمنين به، وأحال العقلَ والمنطق إلى الوحي لينطلق نحو آفاق لا يحدها البصر.
والآن لنعد ونكرر السؤال من جديد: أيذهب إلى جهنم حالًا كل من ولد خارج الديار الإسلامية؟ أجل، من سمع بالقرآن وشاهد نبوة رسولنا r ولم يحس بحاجة للبحث عن صحة هذه النبوة ولم يبذل أي جهد في هذا السبيل مصيره هو النار. ولكن الذين لم تتيسر لهم حتى مثل هذه الفرصة ونشؤوا في الظلام وبقوا في الظلام طوال حياتهم، فإننا نأمل أن يستفيدوا من رحمة الله الواسعة فلا يلاموا ولا يؤاخَذوا بشيء.
واسمحوا لي بتناول جانب آخر من المسألة لكونه متعلقًا بنا. لقد قام المسلمون الأوائل الذين مثّلوا الإسلام خير تمثيل بتبليغ رسالة رسولنا r إلى جميع أنحاء الأرض وإلى أقاصي العالم، فأضاؤوا القلوب بنور الإسلام. وعندما نقرأ الآن مناقبهم نشعر بالروح العالية التي كانوا يتحلون بها وهم ينقلون رسالة النبوة إلى العالم أجمع. ولم يكن من المتوقع بقاء الإنسانية في حالة تفرج ولا مبالاة، فهؤلاء الأبطال الذين لم يكونوا يخشون أحدًا استطاعوا فتح قلوب الناس جميعًا، لقد صاحوا صيحةً مدويةً بحيث لم يبق هناك في أرجاء العالم من لم يسمع هذه الصيحة.
أجل، لقد مثلوا الإسلام أفضل تمثيل وأناروا العالم بنور الإسلام فلم تبق هناك بقعة مظلمة لم يصلها هذا النور. ثم إن الإنسان ليذهل من سرعة أدائهم لهذه المهمة، ومن سرعة حركتهم ومن مستواهم الرفيع في تمثيل الإسلام وتمثيل رسالة القرآن التي نشروها من مضيق جبل طارق إلى بحيرة آرال، ومن الأناضول إلى سد الصين.
أجل، لقد وصل الإسلام في عهد عثمان بن عفان t إلى الصين، وفي عهد معاوية بن أبي سفيان t استطاع القائد عقبة بن نافع الوصول حتى برج هرقل، ودخل البرابرة جميعًا تحت ظل الإسلام وإمرته. لقد تم هذا في ظرف ثلاثين سنةً تقريبًا. ففي ظرف هذه السنوات الثلاثين أضاؤوا بنور الإسلام أنحاء العالم جميعًا، لأنهم كانوا يمثلون الإسلام أفضل تمثيل، لذا كسبوا قلوب جميع الشعوب إلى درجة أن النصارى واليهود كانوا يفضلونهم على أبناء دينهم.
وعندما ذهب عمر بن الخطاب t إلى مدينة القدس وذهب أبو عبيدة بن الجراح t إلى الشام استُقبلا بكل مودة إلى درجة أن المسلمين عندما اضطروا للانسحاب من مدينة دمشق لجأ النصارى ورهبانهم إلى الكنائس داعين الله Y برجوع المسلمين إليهم، وقالوا للمسلمين: “ندعو الله أن ترجعوا إلينا، نحن راضون بأداء الجزية والبقاء في حمايتكم”. وبسبب هذه المحبة التي حظي بها المسلمون بين الشعوب بدأت أفواج الناس بالإقبال على الإسلام والدخول فيه؛ فكل مسلم كان بمثابة عمر بن الخطاب t، لذا فلم يكن من الممكن ألا تقبل الجماهير على الإسلام مثل هذا الإقبال. كان هؤلاء الأبطال رهبانًا بالليل فرسانًا بالنهار. لقد فتحوا القلوب أولًا حتى اعتقد الناس أن المسلمين سيفتحون العالم كله في مستقبل قريب.
أما الآن فنحن عاجزون عن فرض إرادتنا على جزيرة صغيرة([6]) ولا نستطيع تأمين سيادة الأمن في المناطق التي نحكمها. بينما كان المسلمون الأوائل مثال الدراية والكياسة والأمن، وكانت مفاتيح القلاع والمدن تُسلَّم لهم ويُدعون لكي يكونوا رؤساء وحُكّامًا فيها لا لاستلام المفاتيح الرمزية والمواطنة الرمزية.
عندما فتح المسلمون فلسطين وسوريا الحالية طلب القادة مفاتيح بيت المقدس فرفض رئيس الأساقفة قائلًا: “إننا نعرف أوصاف من يحق له تسلم هذه المفاتيح وشمائله ولن نعطيها لأحد سواه…” فتوجه عمر بن الخطاب t إلى بيت المقدس مع خادمه. لم يكن أحد يدري كيف سيأتي، ولكنه كان يأتي بالطريقة التي يعرفها ذلك الأسقف.. استعار من بيت المال بعيرًا للسفر… لم تكن آنذاك سيارة، ولكن كان من الممكن أن يأخذ الخليفة جوادًا للسفر، ولكنه لم يفعل وفضّل أن يتعاقب هو وخادمه ذلك البعير طوال السفر.
عندما اقتربا من بيت المقدس كان قادة الجيش الإسلامي يتمنون أن يكون دور الركوب للخليفة بعد اجتياز نهر الأردن، لأنهم كانوا يعتقدون أن الشعب الذي تعود على مظاهر الفخامة والزينة سيعيب حتمًا منظر رئيس الدولة وهو يجر البعير الذي يركبه خادمه وقد رفع أطراف ثيابه حتى ركبتيه بعد اجتياز النهر.. ولكن العيب في نظر عمر بن الخطاب t كان في عمل شيء غير عادل، لذا كان يحاول الابتعاد عن اقتراف شيء كهذا. وقضى القدَر الإلهي بأن تكون قيادة البعير وإمساك زمامه عند اجتياز النهر كان من نصيب الخليفة عمر بن الخطاب t. نـزل عمر عن البعير وركب الخادم وأمسك عمر بزمام البعير يقود ويجتاز النهر. كانت ملابسه قد تمزقت في مواضع عديدة نتيجة احتكاكها بظهر البعير. جلس عمر وبدأ يرتق ملابسه… كان فيها أربع عشرة رقعة… عفوًا المفروض أن نقول كان فيها أربعة عشر وسامًا. قال رئيس الأساقفة الذي شاهد وضع عمر t: “أجل، هذا هو الرجل الذي وردت صفاته في كتبنا”، ثم قال: “لن نعطي مفاتيحنا إلا لهذا الرجل”.
وصار تسليم مفاتيح بيت المقدس وتسليم المسجد الأقصى للمسلمين وسيلةً لإقبال الناس على الإسلام أفواجًا أفواجًا. لم تكن غايتي هي إثارة مشاعركم بعرض مناقب عملاق الإسلام عمر t بل التساؤل هل نستطيع اليوم تمثيل الإسلام بالمستوى السامي اللائق به؟ لقد فتحوا قسمًا كبيرًا من إفريقيا وطشقند وسمرقند وبخارى في ظرف 25-30 سنة؛ ثم تشرفت الدنيا بظهور البخاري ومسلم والترمذي وابن سينا والفارابي والبيروني وغيرهم؛ وامتد حكمهم إلى القوقاز والعراق وإيران… وترددت أصداء “لا إله إلا الله محمد رسول الله” في أرجاء المعمورة، فسمع الجميع رسالة الإسلام.
أما الآن فإننا لا نستطيع الزعم بأننا نبلّغ رسالة الإسلام إلى شعوبنا دع عنك تبليغها للشعوب وللأقطار الأخرى. ونحن نحاول دعوة الآخرين من الذين يستمعون إلينا إلى الإيمان وإقناعهم، ولكنهم لا يؤمنون. فكأن كلماتنا تصطدم بجدران من الجليد، ثم ترتد وتنعكس على وجوهنا بكل برودة… نحاول أن نبلّغ ولكننا لا نستطيع النفوذ إلى أرواحهم. ولا نقول هذا إنكارًا للنعم الإلهية التي لا تُعدّ ولا تحصى.. لا نقول هذا، بل لا نستطيع قول هذا، وإنما نقول هذا للمقارنة بين الصحابة الكرام وبيننا لإيضاح هذا الفرق الشاسع.
مِن هؤلاء الذين فتحوا أقطار الأرض وكانوا كالنسور في الجو وأوصلوا رسالة الإسلام إلى كل بقاع العالم: القائد الكبير عُقْبةُ بن نافع الفهري الذي كان نصيبه التوغل في قارة إفريقيا وفتحها. وقد تلاحقت انتصاراته التي ملأت قلوب المسلمين فرَحًا، غير أنه تعرض لمكيدة فعزله أمير ذلك العهد وسجن. كان أكثر ما يحزنه في سنوات سجنه التي بلغت خمس سنوات هو أنه حيل بينه وبين تبليغ الإسلام. كان يريد أن ينشر الإسلام من أقصى إفريقيا إلى أقصاها. وعندما تولى الحكم يزيد بن معاوية قَدِم عُقبةُ على يزيد، فرَدَّه واليًا على المغرب سنة اثنتَين وستّين، فكُتبت بذلك حسنة كبيرة في صحيفة أعماله المملوءة بالآثام والسيئات. وعاود عقبة نشاطه في الفتوحات هناك. حتى بلغ شواطئ المحيط الأطلسي ودخل بجواده الشاطئ وقال: “يا ربّ! لولا هذا البحر لمضيتُ في البلاد مجاهدًا في سبيلك!”([7]) ولو أن شخصًا حدثه عن وجود قارة مثل أمريكا هناك لتساءل عن كيفية الوصول إليها لنشر الإسلام فيها.
أجل، كان المسلمون في تلك العهود يبلغون الإسلام لجميع الناس، ويحسون بتأنيب الضمير بالنسبة للبلدان التي لم يستطيعوا تبليغ دعوة الإسلام إليها. أما نحن فلم نستطع تمثيل الإسلام في أنفسنا ولا حمل الإسلام بسرعة البرق إلى أنحاء العالم، إذ لم نستطع ترك مشاغلنا وأعمالنا الخاصة ولا عدَّ العمل للإسلام الشاغلَ الأولَ لنا، وأعمالَنا الأخرى الشاغل الثاني والثالث والرابع. صحيح أننا ذهبنا لجلب المارك والدولار والشلن والفرنك. لم نذهب من أجل الله تعالى، لذا لم نستطع أن نُسمعهم الحقيقة السامية للإسلام. فإذا كانت تلك الشعوب لا تزال تعيش في ظلام الكفر والضلال فبسبب كسَلنا وعجزنا وفشَلنا نحن. فإن وُجّه إليهم سؤالٌ يوم القيامة فسيوجه إلينا أيضًا سؤال.
بالأمس شاهدتُ شريطًا لمحاضرة أُلقيت باللغة الألمانية، ومع أنني لا أعرف الألمانية إلا أن المنظر أمامي كان يقول ليَ الكثير. وكنت قبل مدة وجيزة في مقبرة في مدينة برلين… أحسست أنّ ركبتـيّ لا تحملانني، قلت متضرعًا: “رحماك يا رب! لم نستطع أن نوصل اسمك الجليل إلى هنا…” والآن عندما شاهدت شريط الفيديو هذا غمرتني مشاعر جياشة… المكان كنيسة في هولندا والمحاضر شاب مسلم، والقس جالس يستمع، والنساء الهولَنديات المسلمات المحجّبات جالسات يستمعن إليه ويسألنه بشوق وهو يجيب، ونساء لم يسلمن بعد يشاركن في السؤال. والحقيقة أنني عاجز عن وصف مشاعري، غير أنه يجب ألَّا ننسى أن كل هذه الأمور ليست إلَّا فعاليات تؤدَّى من قِبل هواة وهي لا تكفي أبدًا. هذه الجهود تعد خطوة في مضمار الخدمة الإسلامية، ولكنها ليست الخدمة ذاتها.
لا نـزال نتجول في أروقة هذا القصر.. قصر الخدمة الإيمانية والإسلامية، ولا نستطيع الادّعاء بأننا فعلنا الشيء الكثير. وهذا هو السبب في أن الكثيرين لا يزالون يعيشون في الضلال. صحيح أننا ذهبنا إلى تلك الأقطار في سبيل الخدمة الإسلامية أيضًا، ولكننا لم نملك أنفسنا من الدخول في نـزاعات عقيمة فيما بيننا. ولم نستطع أن نمثل الإسلام كما مثله السابقون من أمثال عمر بن الخطاب t وعقبة بن نافع وأبي عبيدة وأحنف بن قيس والمغيرة بن شعبة والقعقاع. فمن يدري كيف كانت قلوب الأعداء الذين شاهدوا مروءَة هؤلاء ورجولتهم وعدالتهم وإنسانيتهم وإيمانهم وعزمهم… كيف كانت قلوبهم ترتعش، وكم مرة مالت هذه القلوب إلى الإسلام عندما شاهدت هؤلاء الأبطال.
إذا نظرنا إلى هذا الموضوع من هذه الزاوية عند ذاك ننظر بنظرة متسامحة إلى الذين يعيشون في باريس ولندن ونيويورك. بل ربما ضربنا على صدورنا أسفًا لأننا لم نقم بواجب التبليغ -كما يجب- نحوهم. أريد أن أنقل هنا قصة واقعية سمعتها من الواعظ الشيخ “نجم الدين نور صَجان”:
ذهب أحد مواطنينا إلى إحدى الدول الأوروبية للعمل فيها، وسكن في بيت وتعرف على صاحب البيت وعائلته. وكان كثيرًا ما يجلس ويتسامر معهم. وتوثقت بينه وبينهم الصداقة. ولم يكن صاحبنا هذا يقصر في تمثيل الإسلام والحديث عنه والإجابة عن استفساراتهم عنه. وبعد مضيّ مدة أعلن صاحب البيت إسلامه. ولم تلبث زوجته أن أعلنت هي أيضًا إسلامها ونطقت بالشهادتين، ثم التحق الأبناء بهما، وخيمت السعادة على العائلة حتى انقلب البيت إلى دوحة من الجنة.
بعد مرور عدة أيام قال صاحب البيت لمرشده ما أدهشه: “أحيانًا أرغب أن أضمك إلى صدري وأشبعك تقبيلًا. ولكن أحيانًا أرغب أن أشبعك ضربًا، ذلك لأنك أتيت إلينا وأصبحت نـزيلًا عندنا، وبوساطتك جاءنا الرسول r وجاء القرآن الكريم وجاء الإيمان بالله تعالى، وبفضلك جاء الإيمان وأصبح بيتنا دوحة من الجنة، ولكن كان لي أبٌ طيّب طاهر الروح والنفس. وقد مات قبل أن تأتينا بمدة قصيرة، فلماذا… لماذا لم تأتنا قبل وفاته؟”.
وأنا أعتقد أن هذه الصرخة هي عقاب العالم المسيحي واليهودي للمسلمين. نحن لم نستطع أن نذهب إليهم بالإسلام، بل لم نستطع تمثيل الإسلام حتى في بلادنا، ولم نستطع أن نَحيا بالإسلام ولا قُمنا بشرحه ولا إيصاله إلى القلوب المحتاجة إليه.
واسمحوا لي بالتطرق إلى أمر آخر: فالذين أبعدونا عن الإسلام وعدونا بأنهم سيصلون بنا إلى حياة في مستوى المدنية الغربية. ولكن رغم مرور 150 عامًا على هذا الوعد لا نـزال نتسول على أبواب الغرب ولم يحدث أيّ تغير ولم نتقدم خطوة واحدة، واستمر الغرب في نظره إلينا خُدّامًا عند عتَبة بابه.. خدام جاؤوا إليه من أجل دراهم معدودة. والآن أريد أن أسألكم:
“إن المسيحيين واليهود لا يسلمون ولا يُقبلون على مبادئكم السامية، فهل فكّرتم لحظة في السبب الكامن من وراء هذا الأمر؟ السبب بسيط للغاية: لو جاءكم أحد بمبادئ وبرسالة سامية جدًّا، بل لو فتح السماء على مصراعيها وأراكم الطرق المؤدية إلى الجنة فهل تدخلون في دين هذا الشخص إن كان يعمل لدَيكم خادمًا ويقوم بأداء أحقر الأعمال في نظركم؟” لا شك أنكم لن تكونوا تابعين لخادمكم، ولن تسيروا خلف من ترونه متسولًا عندكم.
إن العالم الإسلامي لم يلم شمله ولم يرجع إلى نفسه بعد، ولم يمثل الإسلام في حياته، ولا يزال متسولًا على أعتاب الغرب. لذا فطالما كان هذا العالم الإسلامي مغلوبًا المرة تلو الأخرى بالضربة القاضية، وطالما بقي أسيرًا ومتسولًا ومتمسحًا بأعتاب الغرب وخائفًا من الغرب ومرتجفًا منه؛ فلن يكون هناك أي احتمال لأن يعيرك الغرب سمعه أو يهتم بالرسالة التي تحملها. ولكن إن كنا في مستوى شخصية أسلافنا وعزتهم ومثّلنا الإسلام بما يليق به من رفعة وطرَقْنا أبواب الغرب بهذه الهوية فإنه سينصت إلينا وسيهتم بنا وسيَقبَلنا. لا أقول إنهم محقون في عدم الإصغاء إلى الذين يعملون عمالًا وخدمًا عندهم، ولكن قد يكونون معذورين في هذا. وأيًّا كان مسؤوليتهم في عدم القبول، فإن مسؤوليتنا نحن في عدم تمثيل الإسلام بالمستوى اللائق أكبر.
أرى أن ننظر إلى هذا الأمر من هذه الزاوية وأن نعلم أن المسؤولية مشتركة بيننا، ويجب أن تكون أحكامنا عادلة ومنصفة. ونحن بعيدون جدًّا عن عقلية الذين يصدرون أحكامًا غير متوازنة، ويرون أن جميع من يعيش في البلدان الأجنبية هم حطَب جهنم. كما نحن بعيدون جدًّا عن عقلية الذين يتوقعون أنهم ما إن يعرضوا الإسلام بشكل ناقص وغير لائق حتى يقبل عليهم الجميع من كل حدب وصوب.. فهذا خيال ووهم. ولكننا نؤمن بأنه سيكون هناك تغيّر في التوازن الدولي الحالي وأن الجيل القادم في تركيا ومصر وبلدان تركستان وسائر البلاد الإسلامية سيعود إلى نفسه وإلى شخصيته وهويته الحقيقية، وسيعيش عقيدته ومبادئه، وسيأخذ هذا الجيلُ الطاهر والمضحِّي مكانه ضمن التوازن الدولي الجديد. عند ذاك سيُصغي الشرق والغرب إلينا.
ليس هذا مستحيلًا.. سيتحقق هذا بالتأكيد، بل لقد بدأ فعلًا بالتحقق.. فالمفكرون في الغرب الآن مذهولون من معجزة الإسلام وشبابه الدائم. ويبدو أن هذا سيكون سببًا في تغييرات كبيرة. وليس من المستبعد حدوث تغيرات اجتماعية كبيرة في المستقبل القريب. وستكون هناك تغيرات في خريطة العالم. ولكن لن يستطيع إنجاز هذا إلا الذين وجدوا أنفسهم وشخصيتهم وهويتهم الحقيقية، لا العاجزون والفاشلون الذين يؤجّلون العمل في هذا السبيل إلى أوقات فراغهم.
وكما قلت في مرة سابقة فالذين يرفعون هاماتهم من القبور ويطلون عليكم من بين أحجارها قائلين: “أجل، هؤلاء هم المنتظَرون” عند ذاك تكونون قد أدّيتم وظيفتكم في تمثيل الحق والحقيقة وتمّ الأمر وزهق الباطل وآن الأوان للتعبير عن أنفسكم أمام العالم.
انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري: ص: 127؛ أصول فخر الإسلام البزدوي: 4/1350-1351؛ التبصير في الدين للإسفراييني: ص: 170-171.
نفح الطيب لأحمد بن محمد المقري التلمساني: 5/289.
البداية والنهاية لابن كثير: 2/242.
البداية والنهاية لابن كثير: 2/240.
البداية والنهاية لابن كثير: 2/237.
المقصود هو جزيرة قبرص. (المترجم)
الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4/106.