سؤال: هل لكم أن تبيِّنوا لنا حِكمة تعدد أزواج الرسول ؟
الجواب: بدايةً إن من يلوكون هذا الموضوع بأفواههم ما اطّلعوا ولا تفكَّروا، فلو بذلوا بعض الجهد في قراءة شيء من “المغازي والسير” لَما أسَفُّوا بطرح سؤال كهذا.
سُئلتُ عن هذا مرارًا، وحاولت الإجابة بأشياء -لا أدري هل كانت إجابة تامة أو ناقصة- سأكرِّر هنا ما أتذكره منها:
لزواج سيد المرسلين وجوه عدّة، منها ما يتعلق بذاته الكريمة ، وأهدافٌ ومقاصد لوحظت في زواجه، وحاجات وضروريات، وأخيرًا أحوال خاصة تتعلق بأزواجه عليه الصلاة والسلام ويجب تنفيذها… وإليكم تحليلَ هذه الأمور واحدة تلو الأخرى:
نتناول أوَّلًا الموضوع وعلاقتَه بتلك الشخصية الزاكية، اعلم أولًا أنَّ صاحب المقام الرفيع r لم يتزوج حتى بلغ الخامسة والعشرين، فإذا لاحظت ظروف ذلك البلد الحار وأنَّه نَبت وشبَّ على العفة والطهر وأن الجميع سلّم بعفته في الماضي والحاضر، علمتَ أن العفة عنده سجية وخلق لا ينفكّ عنه، وتلك دلالة على قوة إرادته وتحكُّمه في نفسه. ولو أن لديه أدنى ميل في هذا لسارع أعداؤه قديمًا وحديثًا إلى إشاعة ذلك في العالم كله، لكن لا أحد منهم تجرَّأ على فرية كهذه رغم أنهم اتهموه بأكاذيبهم وافتروا عليه.
كان زواجه الأول في الخامسة والعشرين بسيدة لها منزلة كبيرة عند الله وعند رسوله، لكن عمرها أربعون سنة وتزوجت مرتين قبلَه، وكان عمر هذا العش السعيد ثلاثًا وعشرين سنة، ففي السنة الثامنة من البعثة توفِّيتْ رضي الله عنها، وتركَت وراءها حزنًا عميقًا، فرجع الرسول وحيدًا كما كان، أجل، فبعد ثلاث وعشرين سنة من حياة سعيدة مع أسرته عاد ليعيش عَزَبًا زمنًا وكان في الثالثة والخمسين؛ ثم تزوج الأُخريات في سنٍّ تضعف فيه الرغبة، فدعوى اتباع الشهوات بعدئذ لا سيما في ذلك البلد الحارّ تجافٍ لا منطق فيه ولا إنصاف.
مسألة أخرى ترِدُ هنا: ما علاقة النبوة بتعدُّد الزوجات؟ وأودُّ أن أشير بإيجاز إلى الآتي:
1- من يحاول استغلالَ هذا الأمر إمَّا ممن لا يلتزم بأيِّ دين وأي مبدإ أخلاقيّ، فلا حقَّ له في نقد أمرٍ كهذا أصلًا، إذ لا وزن لمبادئ الأخلاق عنده ولا يتحرج من العلاقات الآثمة وإن كثُرت؛ وإمَّا أنّه من أهل الكتاب لكن ديدنه النقد والهجوم الجائر بحقدٍ وبلا تأمل كافٍ؛ فيذكر في الكتب المقدسة التي يؤمن بها أن عدَّةَ أنبياء عظام تزوجوا عددًا من النساء، ومنهم سليمان وداود عليهما السلام، فعلى أتباع هؤلاء الأنبياء أن ينصفوا في هذا الأمر، فالرسول لم يكن أوَّلَهم في ذلك، وتعدُّد الزوجات ليس أمرًا منافيًا للنبوَّة وجوهرِها، فللتعدُّد إذا ما قُرِن بالنبوُّة فوائد عدَّة ستُذكَر.
أجل، فالأنبياء يبلّغون التشريع، ومنه أحكام الأسرة، وللأسرة وجوه عدّة يلفُّها الستر والخفاء، فلا تطّلع عليها إلا الزوجة، ولا بد من معرفة أحكام تلك الوجوه صراحةً دون لجوء إلى كنايات قد يعسر معها الفهم والاستنباط، فكان تعدُّد الزوجات ضروريًّا للأنبياء ليبلّغْن عنهم، وليحملْنَ عبء الإرشاد والتبليغ في قضايا المرأة، فقيامهن بهذه المهمة ضرورة تقتضيها النبوّة ووظيفة النبيّ والتشريع الخاصّ بالمرأة.
2- وفي هذا المقام حِكَم تخصّ أزواجه وحدهنّ:
لما تفاوتت أعمارهن، فكانت منهن الشابّة والكهلة والعجوز، ولكل مرحلة أحكامها، اتخذ الرسول منهن طريقًا إلى تطبيق الأحكام الخاصّة بكلّ مرحلة.
ب- لما كان أزواجه الطاهرات رضي الله عنهن من قبائل شتَّى، نشأت مودّة راسخة متينة بين تلك القبائل، ثم بينها وبينه r، فغدا الرسول r عندهم واحدًا منهم، فاجتمع له عندهم اتّباعه على دينه ومشاعر ذوي القربى الفطريّة.
ج- قامت كلٌّ منهنّ بتبليغ الرسالة إلى قبيلتها في حياته r ومِن بعده، فكلٌّ منهنّ حلقة في سلسلة تبليغ الرسالة الأحمديّة ما ظهر منها وما بطن إلى أفراد قبيلتها كافّة، فعنهنّ أخذت تلك القبائل القرآن وتفسيره والحديث واطّلعت على روح الدين.
د- بنى النبيُّ الأكمل بزواجِه منهنّ أواصرَ قُربى مع جمّ غفير من عرب الجزيرة، وغدا ضيفًا كريمًا في بيوتات القبائل، وكانت تلك بوابّة نفذوا منها إليه ليتعلموا منه أمور دينهم عن كثب، وبهذا كان كلّ من هذه القبائل يشعر ويفخر بقربه منه ، وهذا ما شعر به مثلًا بنو مخزوم قبيلة أُمِّنا أم سلمة رضي الله عنها وبنو أميّة قبيلة أمنا أم حبيبة رضي الله عنها.
3- ما سبق عامّ وبعضُه يشمل سائر الأنبياء، وإليكم ظروف زواجه بأمّهات المؤمنين واحدة واحدة:
أجل، سنرى هنا أنَّ منطق البشر سيهون كالتراب عند هذه الشخصية السامقة المؤيدة بالوحي، وأن عقل البشر سيركع أمام هذه الفطانة العظمى.
أ- السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها هي زوجته الأولى، أكبر منه بخمسة عشر عامًا، كان هذا مثالًا نادرًا وأسوةً لكل زواج، بقي وفيًّا صادقًا معها طوال حياتها، ولطالما كان يذكرها بالخير والمودّة بعد وفاتها.
ولما توفيت بقي بعدها زمنًا بلا زواج، رغم أن له منها أيتامًا، تحمل مؤونتهن ورعايتهن، وأصبح لهن الأب والأمّ، هب أنّا فرضنا المستحيل أَفهذا هو سلوك من هو مغرَمٌ بالنساء؟
ب- زوجته الثانية -ولا نلتزم بالتسلسل- هي السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق أقربِ مَن صحبه ونصرَه وكابد معه رضي الله عنهما. كان زواجه من بنته أثمن هدية منه إليه، فسيحظى بهذا الزواج شرفَ القرابة الباقية يوم ينقطع كل نسب وسبب وصِهر إلا نسبَه وسببَه وصِهرَه.
أجل، لقد أصبحت عائشة الصدِّيقة وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنهما وجهًا ناصعًا لقرابةٍ نبوية قرّبت بينهما وبين الرسول حسًّا ومعنًى.
أوتيت رضي الله عنها ذكاءً نادرًا وفطرةً خالصةً، فهي مهيَّأة فطريًّا لترث الدعوة النبوية، وقد برهنت حياتها بعد زواجها من الرسول ومسيرتها الدعويّة بعد وفاته أنها حقًّا أهلٌ لأن تكون زوجًا للرسول دون من سواه، فتجدها محدِّثةً عظيمة حينًا، ومفسرةً كبيرةً أو فقيهةً جليلة القدر حينًا آخر، فهي بفهمها وفقهها النادر تمثِّل الرسالة الأحمدية ظاهرًا وباطنًا، وهذا يفسِّر رؤيا زواجه بها، فما شعرت نفسها قبل أن يُعَكَّر صفو فطرتها إلا وهي في بيت النبوة.
نال أبو بكر الصديق بهذه المصاهرة منزلةً شريفةً رفيعةً، أمَّا هي رضي الله عنها فوجدتها فرصة للتدريب والتأهيل لتطوِّر قابلياتها واستعداداتها فتصبح في طليعة طلاب الرسول ، ثم تغدو في عالم النساء أكبر مرشدة مبلِّغة، فهي في بيت النبوة زوجة وطالبة.
ج- الزوجة الثالثة -ولا نلتزم بالتسلسل أيضًا- هي أم سلمة المخزوميّة رضي الله عنها، من أوائل من أسلم من النساء، ولما اشتدّ الأمر على المسلمين بمكة هاجرت إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وكانت في طليعة الصفوف آنذاك.
تحمَّلت مع زوجها أبي سلمة المشاقَّ في هذه الرحلات المٌضنية، وكان أبو سلمة ليس كمثله إنسان في عينها، كابد معها ما في مراحل الدعوة من آلام ومشاقّ، وتُوفِّي عنها في المدينة المنورة ولها منه خمسة أطفال، أشفق الشيخانِ على أرملة وحيدة تعيش الضيق والضَّنك مع أطفالها، فسارعا إلى خِطبتها، فأبَت؛ فما من أحدٍ يقوم عندها مقام زوجها أبي سلمة، ثم خطبها رسول الله، حيث إن امرأة فاضلة نسيبة من أشرف القبائل ضحَّت بكلِّ شيء في سبيل دينها بلا تردّد، ما كان لها أن تُترك بلا راعٍ، بل لا بُدَّ من الأخذ بيدها، فخطبته r لها عون وغَوث. أجل، فالرسولُ rمنذ شبابِه كان يساعد اليتيم وذا الفاقة والحاجة، فزواجه منها يحقق تلك الغاية وَفقًا لظروف ذلك العهد.
أمُّ سلمة كعائشة أوتيتْ ذكاءً وفطنة، وهي مؤهلة لمقام المرشدة المبلِّغة، فامتدَّت إليها يد الشفقة والرحمة لتعتني بها، وقُبِلتْ طالبةً في مدرسة العلم والإرشاد ليشكرها عالَم النساء، وإلا فما تفسير زواجه r في الستين من عمره بأرملة ولها خمسة أطفال أخذ على عاتقه عبء رعايتهم، فهيهات هيهات أن يجوز عقلًا تفسيرُه بالشهوة.
د- ومن أزواجه أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما، بنتُ رجل كان قبل أن يسلم رمزًا للكفر ضد الرسول ورسالته. وهي مِن أوائل مَنْ أسلم، وفي طليعة المسلمين، هاجرَتْ إلى الحبشة إِثْرَ الضيق والضَّنْك، فأغمَّها تنصّرُ زوجِها هناك ثم وفاته، فهي امرأة حلَّ بها ما حلّ من المصائب والنكبات، وكان الصحابة حينئذ قلّة فقراء ومعظمهم يعاني من شظف العيش، فماذا بوسع أمِّ حبيبة أن تفعل وتتصرّف؟ أفتتنصر ليغيثها النصارى أم تعود إلى وكر الكفر في بيت والدها أم تستجدي هذا وذاك؟ ما كان لسيدةٍ فاضلةٍ تقيّةٍ نسيبةٍ من أنبل البيوت وأغنى العوائل أن تسلُكَ أيًّا من تلك السبل، فلا شيء يسعف أمرها ويطبّب سِقامها سوى أن تمتدّ إليها يدُ الرسولِ ، فتزوّج أم حبيبة التي ضحّت أيّما تضحية في سبيل دينها، فاغتربت عن وطنها وباتت حائرة في أمرها بين الحبش ومفجوعة بردّة زوجها ثم وفاته؛ أفيُنتقد زواجٌ كهذا أم يُعزَّز وينتصَر له بوصفه رمزًا للشفقة ممن أُرسلَ رحمة للعالمين؟
وبالإضافة إلى هذا فهي -كغيرها من أمّهات المؤمنين- كان بوسعها تقديمُ شيء ٍكثيرٍ للمسلمين والمسلمات من العلم والعرفان، فقُبِلتْ زوجةً وطالبةً في بيت النبوة.
وأتاح هذا الزواجُ لأبي سفيان وعائلتِه زيارةَ بيت النبوّة بلا حَرَج، وتبدّلتْ نظرتُهم وخَفَّ غَلْواءُ عداوتهم للإسلام، بل إنّ الأمويين جميعًا تأثّروا بذلك، وكانت في تلك العائلة عصبية مقيتة وعنف على المسلمين وشدّة، فلانت عريكتها وغدت مهيَّأة لقبول كلِّ خير.
ه- زينب بنت جحش رضي الله عنها واحدة ممن آواهنّ إليه بيت النبوة السعيد، نسيبة شريفة مرهفة الحسّ والمشاعر جدًّا، تجمعها بسلطان الأنبياء قرابة، نشأت قرب رسول الله r، وعندما خطبها لزيد t تردّد أهلها بادئ الأمر، وعرَّضوا برغبتهم فيه r، فلمّا رأوا عزيمته rرضوا بزيد بن حارثة .
كان زيدٌ رقيقًا في يومٍ من الأيام أي كان في جملة العبيد فأعتقه الرسول، وكان إصرار الرسول على هذا الزواج لتأسيس المساواة بين الناس وترسيخها، واتَّخذ من أقاربه جسرًا لبلوغ هذا الأمر الشاقّ، ولكن سيدتنا زينب كانت ذات فطرة سامقة ولم يكن هذا الزواج عندها سوى طاعة أمر، فلم يكن يبدو أن هذا الزواج يعمر طويلًا، وما عاد على زيد بشيء سوى العذاب والألم.
وأخيرًا عرَضت مسألة الطلاق، وبينما الرسول يسعى ليدوم الزواج، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الزواج منها، إنّه ابتلاء عسير مرير، إذ إنَّ عليه أن يفعل ما لم يفعله الأقدمون، أي إنَّ عليه أن يعلن الحرب على العادات القديمة والتقاليد المستعصية، وهذا نضال عسير، ولولا أنه أمر الله لما كان له أن يتمّ، فقام تملؤه مشاعر الاستغراق في العبودية ليمتثل أمرًا ما أشقَّه على العفيف الطيّب، قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: “وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ (سُورَةُ الأَحْزَابِ: 33/37)”[1]، أجل، لقد شقّ عليه هذا الزواج كلّ تلك المشقّة.
أما الحكمة الإلهية فأرادت أن يُدخِل هذه السيدة الطاهرة الجليلة القدْر إلى بيت النبوة لتتسلح بالعلم والعرفان، وتؤدي وظيفتها في الإرشاد والتبليغ، وهذا ما كان، فبعدها تجلَّى في حياتها كلّها دقّ الأمور وجلّها مما ينبغي أن تكون عليه أمّهات المؤمنين.
كان أهل الجاهلية يعدّون الابن بالتبني ابنًا حقيقةً، وزوجتَه زوجةَ الابن؛ فلما أراد الله إبطال هذه العادة الجاهلية بدأ بنبيه أوَّلًا؛ فإذا قلتَ لشخصٍ: يا بُني، فليس معناه أنه ابنك حقيقةً ولا زوجته زوجة ابنك.
وزواجه بزينب رضي الله عنها فيه قضايا كثيرة يمكن ذكرها، ونكتفي بهذا لئلّا يتجاوز موضوع إجابة لسؤال حده، آملًا تناوله في شكل مستقل ومفصل.
و- من اللائي تشرفن بالانتساب إلى بيت النبوة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، أُسِرَت يوم أن غزا المسلمون قبيلتها المشركة، نال كبرياءَها وعزةَ نفسها ما نالهما، فهي نسيبة من أشراف قبيلتها، ويوم أن جيء بها إلى الرسول كانت قد امتلأت غيظًا وعداوةً للمسلمين، وحلَّ صاحبُ الفطنة العظمى تلك العقدة بأيسرَ من شرب كوب ماء بارد.
عقد الرسول على جويرية رضي الله عنها فحازت مقام أم المؤمنين، ومكانةً قدسيّة لدى الصحابة، وأُشرِب قلبها وأفئدة قبيلتها بحب الإسلام لما أرسل الصحابة ما في أيديهم من سبي قبيلتها فأعتقوهم بعد أن بلغهم زواج رسول الله r منها قائلين: “أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّه r”[2].
كان زواجه هذا وقد ناهز الستين عامًا حلًّا لمعضلات كثيرة برمية واحدة، فعمّت وسادت نسائم الصلح والسِّلم أجواء كانت مشحونةً بالقتال.
ز- السيدة صفية بنت حُيَيّ رضي الله عنها ممن حظينَ بهذا الشرف، كانت بنت رأس يهود خيبر، قُتِل أبوها وأخوها وزوجها في معركة خيبر وأُسرت قبيلتها، كاد قلبها يشتعل حقدًا طلبًا للثأر، فلما تزوجها الرسول إذا بها تغدو أمّ المؤمنين، وتسمع الصحابة ينادونها: يا أمَّنا… يا أمَّنا، فبخلقه العظيم صارت ترى فخرها الأعظم أنها زوجته، فانطفأت الأحقاد وتلاشت رغبة الثأر، وأصبحت جسرًا يصل كثيرًا من اليهود بالرسول ليعرفوه عن كَثَب، فلانت قلوبهم، فالله الذي يخلق من شيء واحد أشياء كثيرة، ولِفِعاله حِكَم لا تُحصَى، قد جعل في هذا الزواج خيرًا كثيرًا وبركة.
إنني أرى من الصواب أن نقول: بهذا الزواج لقّن رسول الله r أمّتَه درسًا في كشف سرائر الأعداء وخباياهم؛ أجل، ففي زواج نساء من الأمم الأخرى فائدة جليلة في النفوذ إلى سرائر هذه الأمم ومكاشفتها، بشرط صون أسرارنا لئلا تُفشَى للأعداء.
ح- أمّ المؤمنين سودة رضي الله عنها كانت ممن حظين بهذا الشرف أيضًا، وهي من طليعة المسلمين، ومن المهاجرين إلى الحبشة مع زوجها، فلما توفي وجدت نفسها وحيدةً مثل سيدتنا أمّ حبيبة، فواساها الرسول وسلَّها من بؤسِ الوحدة وصارَ لها أنيسًا، ولا رغبة لهذه السيدة العظيمة من الدنيا إلا الموت وهي زوجة لرسول الله.
قس على ذلك بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم… كما ظهر أن لزواج الرسول حِكَمًا ومصالحَ كثيرةً، وليس للنوازع النفسانية فيه يد. فمن حِكمه عقد أواصر قربى مع اثنين أصبَحَا من الخلفاء الراشدين، وكذا ما تتمتع به أزواجه من أهليّة وقابليّة، وتزوج -كما رأينا- لحِكَم ومصالح أخرى فتحمَّل أعباء كبيرة.
انظر جهده وعدله في نفقته على هذا العدد من النساء من مسكن وملبس ومأكل ومشرب، وانظر دقته في معاملتهنّ الخاصّة ورعايته لهذا بحزمٍ وكمالَ عدله فيه، وسدَّه لِما قد يطرأ من مشكلات بينهن، وحلَّه ما وقع منها بكل سهولة؛ كل هذا دليل على أنه نبي، وكما قال جورج برنارد شو: “إنه لو كان الآن بيننا لحلَّ مشاكل العالم كلّه بسهولة كما يحتسي كوبًا من الشاي”.
ونحن نعلم علم اليقين مشقة تحمّل أسرة من زوجة وولد أو ولدين؛ فعلينا أن ننحني إجلالًا لهذا النبيّ العظيم فهو يدير بنجاح لا نظير له وبتناغم ووئام كبير بيتًا فيه زوجات من بيئات ومشارب وثقافات أسرية متنوِّعة.
أمَّا أنّ عدد أزواجه أكثرُ من العدد المباح لأمته فهو تشريع خاص. أجل، إنه تشريع خاص قد نعلم أو لا نعلم كثيرًا من حِكَمه ومنافعه، فقد أُذِن له أوَّلًا بالزواج بلا عدد، ثم حُدَّ ذلك بحدود فلم يحلّ له الزواج من بعد.
عذرًا، فقد أطلتُ، ولكنها ضرورة، فالموضوع ذو أهميّة.
[1] البخاري: التوحيد، 22؛ مسلم: الإيمان، 288.
[2] أبو داود: كتاب العتق، 2؛ المستدرك للحاكم: 4/28.