Reader Mode

سؤال: يقول النبي : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ»[1] وأومأ بإصبعه إلى فَمِه، ولما أشار على أصحابه بترك تلقيح النخل فلم يُثمر قال: “إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ”[2]، فكيف الجمع بين الحديثين؟

الجواب: لُبَابُ السؤال أن لدينا حديثين ظاهرهما التعارض:

الحديث الأول: “مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ”، أومأ ذات مرة بإصبعه إلى فيه وقال: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ”. الحديث أخرجه أصحاب السنن كأبي داود وغيره عن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، كان يكتب كل ما يتناثر من فمه الشريف من درر، فلا يفوته شيء، حتى إن أبا هريرة t ذكر أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان أكثر منه رواية: “ما من أصحاب النبي r أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب”[3]، كان عبد الله بن عمرو بن العاص رجلًا زاهدًا متعبِّدًا، اشتهر بالعبادة والطاعة، يقول : “أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ  أَنِّي أَقُولُ “وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ” فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r: “أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ؟” قُلْتُ: “قَدْ قُلْتُهُ” قَالَ: “إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ” فَقُلْتُ: “إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ” قَالَ: “فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ” قُلْتُ: “إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ” قَالَ: “فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ” قُلْتُ: “إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ” قَالَ: “لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ”[4].

يمكن أن ندرك من قوله “إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ” أنه بلغ في العبادة مبلغًا، أجل، فكان شخصًا ربّانيًّا في تقواه ورقّته وعبادته، وكان أيضًا يقدُر كلام النبي حقّ قدره، ولا يغادر صغيرة منه ولا كبيرة إلا سجّلها.

سبب ورود الحديث الأول: قال سيدنا عبد الله بن عمرو: قالت لي قريش: تكتب عن رسول الله وإنما هو بشر يغضب كما يغضب البشر؟! فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله: إن قريشًا تقول: تكتب عن رسول الله وإنما هو بشر يغضب كما يغضب البشر، قال: فأومأ إلى شفتيه، فقال: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِمَّا بَيْنَهُمَا إِلَّا حَقٌّ فَاكْتُبْ”[5]. هذه هي الواقعة الأولى.

الواقعة الثانية: لما شرّف النبيّ المدينة بقدومه، ورأى أهلَ المدينة يلقحون النخيل، قال: “مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا”[6]، وفي رواية: “لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ”[7]، لم يقل: “ليس للتلقيح أي فائدة”، بل أشار إلى أن هذا ليس مؤثِّرًا حقيقيًّا. فترك أهل المدينة التلقيح، فلم يثمر النخيل في تلك السنة، ومن يدري فلعله كان من قضاء الله وقدره ألا يثمر النخيل في تلك السنة أُبِّر أو لم يؤبَّر، فقال النبي بعدئذ: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ”[8]، ولا يصح أن نفهم من هذا “أنتم تعلمون أفضل مني”، فيحتمل أنه قصد بقوله “مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا” هذا المعنى: أنتم تلقحون النخيل، لكن ذلك لا يُغني عن قدر الله ومشيئته شيئًا. تعلمون أن بعض النباتات تثمر سنة وسنة، فمن الممكن أن اتَّفق أن النخيل لم يثمر في تلك السنة، فلحظ النبي أحوالهم، وعلِم أنهم لم يستوعبوا حكمة كلامه، فقال: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ”، فكأنه يريد بهذا أنه لم يحِنْ بعدُ فهمُ أمرٍ جَلَلٍ لا يتأتى استيعابه إلا بعد تجربة وجدانية.

وإليكم حادثةً أُخرى: كانوا في الجاهلية ينسبون إلى الأسباب تأثيرًا حقيقيًّا، فمثلًا جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنهم كانوا يقولون: “مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا”، يعتقدون أن النجم الفلاني إذا ما طلع تداعى السحاب فأمطرت السماء.

وفي هذا قال رسول الله: “هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟” قَالُوا: اَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: “أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: “مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ” فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ؛ وَأَمَّا مَنْ قَالَ: “بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا” فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ”[9].

أجل، كانت هناك زمرة تنسب إنزال المطر إلى الله كما تنسب كلَّ خير إليه سبحانه وتلك هي الزمرة المؤمنة، وهناك زمرة أخرى ترى المطر وغيره من صنع الأسباب، وتلك هي الزمرة الكافرة.

إن إسناد التأثير الحقيقي إلى الأسباب اعتقاد سائد جدًّا في الجاهلية؛ فكان لا بدّ من استئصال شأفة هذا الاعتقاد، وإظهار أن الأمر كلّه لله، وأن الله متفرد بربوبيته كما أنه متفرد بألوهيته.

أجل، فكما أن الله تعالى لا إله إلا هو وحده لا شريك له، فهو غنيّ كذلك عن المعين في أفعاله، فهو سبحانه مُنزِل السحاب طلع نجم أم أَفل، ولكنه جعل لنزول المطر أَسبابًا أو أمارات تُقارن نزولَه ليتأهب الناس له، وربما لا ينزل المطر وإن وُجِدتْ، فالأمر بيده سبحانه. هدَم النبيُّ بقوله هذا كلَّ سبب أسند إليه الناس وقوع الأشياء والحوادث، ليعلموا أنْ ليس للأسباب تأثير حقيقيّ، وأنّ الأمر كلَّه لله مسبِّب الأسباب، ولتتعلَّق قلوبهم بمن هو على كلّ شيء قدير

واقعة أخرى: قال النبي: “لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ” فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: “فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟”[10].

فلا نفي هنا لسريان المرض، وإلا لما حذّر النبي أصحابه بقوله: “إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ (الوباء) بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ”[11]؛ لم يكن النبي لينفي وجود الأسباب بل كان يفنِّد المنطق الجاهليّ، فبينما يعلمهم عليه الصلاة والسلام أنّ لوجود الأسباب حكمة، كان يشير إلى أن الجراثيم والحُمَات تأتي بالمرض، بيد أن هذا لا يعني أنّ الأسباب هي كل شيء، فالأخذ بالأسباب وظيفة، والإيمان بأن الأمر بيد الله هو عين التوحيد، وأحكم النبي بيانه لهذه المسألة الدقيقة بقوله “فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟”، فحكم ببطلان التسلسل والدور، أي هذا من ذاك وذاك من سابقه، فالأول ممن؟ وهو ما جعلهم يقولون في النهاية “الله”؛ إذًا الأمور التي نراها تجري وَفقا للأسباب إنما تجري بأمر الله وإرادته من بدايتها إلى نهايتها، فالله هو خالق كل شيء، فبهذا أتى النبي بُنيانَ الشرك مع الله في ربوبيته من القواعد، وأهاب بالأرواح أن تُشرِك، ولفت الأنظار إلى قضيةٍ بالغة الأهميّة.

وعودةً إلى مسألة التلقيح… انتشرت في الجاهليّة عقيدة معينة في أمر التلقيح، فبه يؤتي النخل أُكُلَه أضعافًا مضاعفةً، وبدونه لا يثمر؛ وفي هذا شرك خفي، إذ مردّ إثمار النخل هو التلقيح لا غير، فاستهدف النبي هدْمَ تلك العقيدة الباطلة، ليبيّن لهم بأسلوبٍ تَعيه عقولهم أنَّ الأسباب إن هي إلا حُجُبٌ رفيعة أمام عزة الله وعظمته، فلقَّنهم درسًا أوَّلًا، فلما كشفوا عن نظرة تغاير ما قصده قال لهم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.

أتراه يمدحهم حقيقةً أم أنه يومئ إلى أنهم لم يستطيعوا أن يستوعبوا حقيقةَ ما بيَّن كما أبان؟ فتأمل.

مسألة ثالثة: كلام النبيّ كلّه بل حياته كلّها إرشاد لأمته؛ فلو باشر النبيّ توجيه أصحابه في حياتهم كلّها دِقّها وجِلّها بصورة التشريع، فقال مثلًا: هكذا صبّوا الماء، وطوِّفوا به المائدة ثم اشربوا، وإذا فعلتم كذا فافعلوه هكذا، وإذا قطعتم شجرًا فاقطعوه من أسفل، وإذا ضربتم على الحديد فاضربوا عليه هكذا، وضعوه في الفرن هكذا… فلو علّمهم كل شيء وأمرهم به لكان عليهم وعلينا أن نمتثل تلك الأوامر إلى يوم القيامة امتثالَنا للأوامر التشريعية الأخرى، بيد أنه زادهم بقوله هذا ثقة بأنفسهم لِيُثْرُوا معارفهم وتجاربهم وممارساتهم؛ فالسنبلة ربما تغدو مائة حبة أو عشرًا كما نبّأه علام الغيوب، فبالتجربة والتلقيح ربما تبلغ أترجة حجم الشمام أو البِطّيخ.

مسألة رابعة في منتهى الأهميّة: إنَّ اللهَ أوكل إلى الإنسان أمر التدخل في الكون، فهو خليفته في الأرض، فبهذا كان للإنسان الأمر والتصرف في الأشياء التي خلقها الله له على مستوى “الشرط العادي”، وتلك هي حكمة منح الإرادة للإنسان، بل إنها مقتضَى خلافته في الأرض، فلو لم يكِل النبيّ الأمر إليهم فقيّدهم في الشريعة الفطرية كما التشريعية لقالوا: إنما امتثلنا الأمر فلقَّحنا، أو النهي فتركنا؛ فتجف حينئذ منابع العلم والمعرفة البشرية وتذهب التجارب والخبرات هباءً منثورًا، ويتعارض تشريعٌ جاء بتعليم الفطرة مع الفطرة نفسها.

إن أقواله وتشريعاته باقية إلى يوم القيامة؛ لذا كان يذكر أمورًا قطعيةً لا تدع طريقًا للأوهام وخطأ الأفهام في المستقبل، ليرجع الناس جميعًا دائمًا بطمأنينة تامَّة إلى هذا المنهل العذب المورود، فكان لا بد أنه لا يخرج من فيه عليه الصلاة والسلام إلا الحق، ولم يخرج إلا الحق.

مسألة خامسة: كان النبي r إنسانًا، فهو أعلم بمعنى حرية الإنسان، فالإنسان إن لم يكن حرًّا لم يعُد إنسانًا، فلا يطلق لفظ إنسان بتمامه على أسير أو سجين، وليس من الإنسانية أيضًا أن يرزح الإنسان تحت ذلّ القهر وتسلط الكفرة الفجرة بأن يعيش حياته كما يرتضونها له، لا كما يرتضيها هو، أجارنا الله من إنسانية كهذه، وأصلح من رضي بمثلها.

أجل، فالإنسان إنسان بإرادته، فهي خِصِّيصَى غاية في الأهمية، وهي كبذرة واراها الثرى، وما إن تتوارَى حتى يُولَد من مدفنها شجرة عظيمة، فنبيّنا لم يقيد إرادتهم، بل جرَّبهم أوَّلًا، ثم قال: خيرٌ لكم أن تفعلوا ما كنتم تفعلون لتنالوا ثمرة إرادتكم وينال الذين يأتون بعدكم ثمرات إراداتهم.

وجَلَا تلك الحقيقةَ بقوله “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ”، وما يقول إلا حقًّا، عليه أكمل التحايا وأتمّ التسليمات.

 [1] أبو داود: العلم، 3.

 [2] مسلم: الفضائل، 140.

 [3] البخاري: العلم، 39.

[4] البخاري: صيام، 56.

 [5] المستدرك للحاكم: 1/186.

 [6] مسلم: الفضائل، 139؛ مسند أحمد: 1/162.

 [7] مسلم: الفضائل، 139.

 [8] مسلم: الفضائل، 139.

 [9] البخاري، الأذان، 154؛ مسلم، الإيمان، 125.

[10] البخاري: الطب، 52؛ مسلم: الآداب، 101.

 [11] البخاري: الطب، 29.

 

السابق مقالات الكتاب التالي

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts