سؤال: نسمع عن عهد “الفترة”، فما معناه؟ وما حكمه؟ وهل نمرّ بمثله اليوم؟
الجواب: عهد “الفترة” هو فترة انقطاع الوحي بين نبيَّيْن، وغالبًا ما يُطلَق على ما بعد عيسى حتى مبعث رسولنا. أجل، في هذه الفترة اندرست الأسس التي أتى بها المسيح، فلم تصل باقات النور التي جاء بها عهده بعهد الرسول، فغرق الناس في ظلام دامس؛ فهي الفترة التي لم يتصل فيها النور الذي جاء به المسيح u بالنور الذي جاء به رسولنا، فحدث بينهما فراغ مظلم؛ وهذا الفراغ الزمني هو “عهد الفترة”، والذين عاشوا فيه هم “أهل الفترة”.
فهؤلاء لم يبلغهم الشرع الذي أتى به المسيح بمعناه التام وحقيقته الناصعة، ولم ينتفعوا بأنواره وأسراره، ولم تبلغهم دعوة رسولنا، ولكن من كان منهم لم يعبد صنمًا، ولم يتخذ إلهًا من دون الله، فالإجماع منعقد على أنهم معفو عنهم مغفور لهم ولو لم يعرفوا الله تعالى ولم يتوصلوا للإيمان به؛ فوالد الرسول ووالدته وجدّه ستنالهم المغفرة -إن شاء الله تعالى- لكونهم من أهل “الفترة”.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْ “أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبّهُ أَنْ يُحْيِيَ أَبَوَيْهِ فَأَحْيَاهُمَا لَهُ وَآمَنَا بِهِ ثُمّ أَمَاتَهُمَا”[1]. رغم أن الحديث ضعيف عند المحدثين؛ إلا أن المحدث الكبير الإمام السيوطي يرى الأخذ به، ويرى أن والدي الرسول صلى الله عليه وسلم آمنا به، فنعما بالنجاة والمغفرة. نعم، فقد ورد عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: “فِي النَّارِ”، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: “إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ”[2]؛ لكن هذا قبل إحياء الله تعالى والديه وإيمانهما له صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أنه لا حاجة للاستدلال بمثل هذا الحديث ردًّا على السؤال؛ لأنه لا دليل على أن أحدًا من والديه الموقَّرين عَبَدَ الأصنام؛ فقد عاش في ذلك العهد موحِّدون كثر، لم يعبدوا الأصنام والأوثان، وكانوا على دين إبراهيم u؛ وهم من أهل الفترة أيضًا، وكل من كان حاله هكذا من أهل الفترة فهو ناجٍ؛ فإذا كان أهل الفترة ناجين فكيف يصحّ استثناء والدي الرسول؟ والله تعالى لا يترك ولا يضيّع أيّ شيء حتى الذرات والإلكترونات التي تدخل في جسد الإنسان يوليها قيمة وأهمية، ويجعل منها بنيانًا خالدًا في الآخرة، فهو منـزّه عن أي عبث، فهل يمكن أن نتصور أنه سبحانه سيضيع والدي الرسول ويدخلهما النار وهما أصله وسبب وجوده؟
وأشرنا سابقًا أن الله لم يكن ليضيّع الموحدين في ذلك العهد أمثال زيد بن عمرو -عمّ عمر بن الخطاب t أو ابن عمه- وورقة بن نوفل؛ فهؤلاء آمنوا بالله تعالى ووحدوه في وجدانهم؛ قد لا يعرفون الله حقّ المعرفة، لكنهم يؤمنون بوجود إلهٍ واحد يتوجهون بدعائهم إليه.
ولقد صار الجو ملائمًا ومناسبًا قبيل البعثة حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أثّر في محيط هؤلاء تأثير الضغط العالي؛ فكأن هذه الأرواح العالية شعرت بمشاعرها وحواسها وبلطائفها وحدْسِها بقرب هطول الرحمة الإلهية؛ فراحوا يبشرون من حولهم بهذه البشارة، ونظن أنّ رسولنا الذي أوتي الشفاعة العظمى يوم القيامة لن ينسى هؤلاء الأشخاص الذين استقبلوه بإخلاص ليأخذ بأيديهم في ذلك اليوم ويرقى بهم إلى عالمه النوراني السعيد، فيكون سببًا لأمنهم وسعادتهم؛ ومثلهم في النجاة فيما نظن من عاشوا في نور الحنيفية السمحة ومن لم يعبدوا الأصنام رغم ما في عهد الفترة من ظلام.
هذا الجانب من المسألة يتعلق بالماضي، وهناك جانب آخر يتعلق بيومنا الحالي، ويبدو أنه هو المقصود من السؤال.
يتعذّر إطلاق صفة “عهد الفترة” على زماننا وصفة “أهل الفترة” على إنسان اليوم حسب ما تقوله كتب علم الكلام؛ لكن العجلة في القطع بإطلاق مثل هذه الأحكام بلا رويّة كافية مخالفٌ لنظرة أهل السنة والجماعة وعدمُ احترام للرحمة الإلهية الشاملة الواسعة.
لقد أدركنا عهدًا -خاصة في البلدان الأجنبية- غُيِّبت عنه شمس الإسلام مطلقًا، ومُحي من القلوب اسم الله ورسولِه، واستُعمل العِلم أداة كاذبةً لإنكار الخالق، وبُعث الكفر بوجهه القبيح في دُورِ العلم والعرفان بدلًا من أن تعلو كلمة الله والمعرفة الإلهية؛ واستُعمل العلم والحكمة منصة لسلاح يدكّ قلعة الإيمان ويجعلها أنقاضًا متراكمة بدلًا من أن يكونا طريقًا للوصول إلى الإيمان.
وهكذا نسي الشباب في ضلال الكفر ودُوامة الضلال طريقَهم إلى الجامع والمسجد كليًّا؛ أما الشرذمة التي تحكمت واستولت على المحافل العلمية فأخذت تتغنى بالغرب وأعرضت عن تاريخها ومفاخرها؛ فبعضهم عكَّر بنظرية “التطور” أفكارَ إنسان عصرنا حول الخلق، وبعضهم لوّث أفكار الأمة بالشهوة الجنسية وفقًا لنظريات فرويد وأرجعوا حل المشكلات كلها من منظور الشهوة؛ ومنهم من أفسد الشعب بالمذاهب الفوضوية، وكانت كل هذه المذاهب تستهدف إفساد أمتنا أفرادًا أحيانًا وجماعات أحيانًا أخرى، بل أفسدت الأمم القريبة منا فكريًّا وسمّتها وأبعدتها عن أصولها وهويتها وانحطت بها.
وقامت الجرائد والمجلات والكتب برفع شعارات هذه المذاهب في طول البلاد وعرضها سنوات عدّة؛ لذا لا يمكن عدّ إنسان يومنا هذا خارج عهد “الفترة” تمامًا، وإلا أغمضنا عيوننا عن الحقائق من حولنا.
أريد هنا نقل حادثة جرت في ذلك العهد تبين مدى الفقر الروحي الذي مُنِي به جيلنا:
في درس ومسامرة مع الشباب كان أحد إخواننا يشرح حقائق الدين العلوية، وما لبث الحديث أن انتقل إلى الحوادث والأخبار اليومية، فتناول ما يحدث في العالم الشيوعي والمظالمِ التي يقترفونها والخططِ الجهنمية التي يريدون تطبيقها في المستقبل، فأخذت الحماسة مأخذها من أحد الشباب فجعل يقول: “يجب قتل كل الشيوعيين وتمزيقهم إرْبًا إرْبًا”، وسرعان ما أجابه شاب آخر كان في ركن من الغرفة يستمع إليهم بشوق ووجد عميق، ويتنسم عبير هذا الجو المبارك أول مرة في حياته، قال له بنفس الحماس والوجد: “يا صديقي! أي قتل وذبح هذا الذي تتكلم عنه؟ فلو قمتَ بالأمس بتنفيذ ما تقوله الآن لذهبتُ أنا أيضًا ضحية بائسة لأنني كنت واحدًا منهم، وها أنت ترى أنني اليوم من هذه المجموعة المباركة الطاهرة، فبيْن الأمس واليوم قطعتُ مسافة كما بين السماء والأرض، وأقسم أن ممن تطلقون عليهم اسم العدو والجبهة المعارضة آلافًا مثلي ينتظرون الخلاص، فهؤلاء لا ينتظرون منكم الصفعات بل الرحمات، فلو مددتم أيديكم إليهم لأصبحوا مثلكم؛ فما هو واجب الوقت: القتل أم الإحياء؟”؛ فأثّرت هذه الكلمات الصادقة المخلصة فيهم حتى أجهشوا بالبكاء.
أجل، هذا هو الجيل الذي رأيناه وسكبنا العبَرات الدامية على ضلالتهم، وأكثرُهم برآء، إذ ما انحرفوا إلى الضلالة إلا عندما عجزوا عن معرفة الحق، فأعتقد شخصيًّا أن إخراجهم عن حكم أهل الفترة يخالف مقتضى الرحمة الإلهية الواسعة الشاملة.
وإليكم حادثة وردت في الصحيحين: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ، تَبْتَغِي؛ إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟” قُلْنَا: لَا، وَاللهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا”([3]).
إذًا نحن مضطرون للتفكير بالتسامح؛ ولا يذهبنّ بأحد الوهم أننا نحاول إظهار رحمة زائفة أكثر من الرحمة الإلهية، لكننا نريد أن ننظر إلى المسألة في ضوء القواعد العامة عند أهل السنة والجماعة، وبعدسة الحديث القدسي: “إن رحمتي سبقت غضبي”([4]).
وللمسألة جانب مهم جدًّا يخصّنا: لقد عجزنا أن نعرض الحقائق لشبابنا بصورة مقنعة، وأهملنا شبابنا وشباب العالم أجمع وهم بحاجة إلى الرسالة التي نحملها أكثر من حاجتهم إلى الهواء والماء، وعندما نقارن ما نحن عليه بما كان عليه الصحابة الكرام الذين حملوا مشعل الهداية إلى أنحاء الأرض كافة في مدة قصيرة، وبجهود الذين اتبعوهم بإحسان، يظهر بوضوح مدى كَسلنا وخمودنا وجمودنا؛ كان ديدنُهم البحثَ عن القلوب والأنفس المتعطشة للهدى والنور، وجعلوا حمل هذا النور للناس غاية حياتهم.
وأورد هنا حادثة وقعت لأحد إخواننا:
سافر أخونا إلى ألمانيا يعبّر عن الحق والحقيقة بلسانه وحاله، فتأثر صاحب البيت المؤجِّر بوضاءة وجهه ونور ناصيته، فانضم إلى تلك الحلقة المباركة، وازدادت معرفته بالإسلام يومًا بعد يوم، وقطع شوطًا كبيرًا في حياته الدينية، وذات يوم وهو يتجاذب مع صديقنا أطراف الحديث لم يتمالك نفسه أن قال:
“الله يعلم أنني أحبك حبًّا جمًّا، فعلى يديك كانت نجاتي، لكنني شديد الغضب والنقمة عليك؛ فلو أتيتَنا قبل بضعة أشهر، لاهتدى والدي على يديك، فحياته كلها غاية في الصفاء والنقاء بميزان القيم الأخلاقية؛ وا أسفاه! هو قد رحل ولم يعرف الوجه الحقيقيّ للإسلام ليهتدي، والسبب أنك وصلت متأخرًا”.
في الواقع هذه الصيحة صيحة العالم بأسره، والمخاطب هم المسلمون جميعهم، فهذا هو ما يخصّنا في هذه المسألة؛ فلنسأل أنفسنا: هل قمنا نحن المسلمين بأداء هذه المهمة الملقاة على عاتقنا؟ فإن كنا لم نؤدها فما أكثر ما سنحاسَب عليه إذًا.
[1] السهيلي: الروض الأنف، 2/121.
[2] صحيح مسلم، الإيمان، 347؛ سنن أبي داود، السنة، 17.
[3] صحيح البخاري، الأدب، 18؛ صحيح مسلم، التوبة، 22.
[4] صحيح البخاري، التوحيد، 22؛ صحيح مسلم، التوبة، 15.