Reader Mode

سؤال: ما حقيقة التوسل؟ وما المشروع منه والمحظور شرعًا؟

الجواب: التوسل لغة أن تتخذ شخصًا أو شيئًا وسيلة أو واسطة للوصول إلى الهدف المطلوب، كاستخدام السلم للوصول إلى السطح، واستقلال وسائط متنوعة للوصول إلى مكان ما، فالتوسل هو اتخاذ هذه الوسائل والوسائط لتحقيق غايتنا؛ والمقصود به هنا التوسل المعنوي.

ومن المسائل المختلف فيها قديمًا وحديثًا التوسل بالأنبياء والأولياء والعلماء على اختلاف مراتبهم وبعباد الله الصالحين؛ ثم جاءت مدرسة ابن تيمية فأعطت لهذا الجدل أبعادًا جديدة؛ ويرى بعضهم إدراج التوسُّل في مسألة الشفاعة، فيتناولهما في باب واحد.

ومن التوسل ما هو محظور وما هو مشروع، فلنشرع ببيان أولهما ثم نتبعه بالآخر:

لا واسطة في الإسلام بين العبد وربه؛ فللعبد أن يتوجه إلى ربه متى ما شاء وحيثما شاء، وأن يناجيه بلسان العبودية بلا واسطة.

قلت “متى ما شاء” لأن التقرب بالنوافل لا يتقيد بوقت؛ فللعبد أن يناجي ربه ويدعوه بالعبادات التي هي أروع أشكال الدعاء والمناجاة، فيقف بين يديه متى شاء، أما أوقات الكراهة فليست من موضوعنا، فإنما نتحدث هنا عن العبودية مطلقًا.

وقلت “حيثما شاء” لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “جُعلت لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا”[1].

وبالنوافل يتقرب العبد من ربه شيئًا فشيئًا، فيبلغ مقامًا قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله قال: “وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه”[2].

إذًا يمكن إقامة مثل هذه الصلة بين العبد وربه جل وعلا، فلِمَ الواسطة؟ فالله تعالى أقرب إلى عبده من حبل الوريد، يقول تعالى:﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/186)، إن الله تعالى واحد في ذاته وصفاته وأفعاله وربوبيته، فعلى العبد أن لا يشرك معه أحدًا في عبوديته.

أليس هذا هو ما نكرره في قراءتنا لسورة الفاتحة في صلواتنا كلِّها: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (سورةُ الفَاتِحَةِ: 1/5-6)؛ ألا يفيد هذا أننا نتوجه إلى ربنا تبارك وتعالى بلا واسطة ولا وسيلة بيننا وبينه؟

وفي سورة “الكافرون” حقائق تبين أن عبودية العبد لربه تتحقق مباشرة بلا واسطة، وأنها مرتبة في التوحيد.

ويبين النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه حقيقة التوحيد بقوله: “اللهم لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ”[3].

ولن نستطرد في شرحه، وفيه أنَّ الإنسانَ لا ينفع غيره بل لا ينفع نفسه إلا بإذن الله ومشيئته؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يكشف لنا سبل بلوغ العبودية الحقّة الخالصة، وذلك بالتبرؤ من أية وسيلة أو واسطة.

عن ابن عباس قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: “يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ”[4].

دلت هذه الآيات والأحاديث وأمثالها أن العبد عندما يرفع يديه إلى السماء بالدعاء ليس بحاجة إلى وساطة أحد، فإذا ما تعرَّضَ لشدٍّ معنويّ في هذا السبيل فقد واتَتْه الفرصةُ ليغترف من رحمة الله كفاحًا، وليبوح بين يدي ربِّه برغباته ويطلب منه حاجاته، ويجدد صلته به في إطار العلاقة بين العابد والمعبود؛ وبهذا المعنى لا مجال للوسيلة والتوسل.

هذا وما ذكرناه هو الوجه الظاهر من الحقيقة، لكن لها وجه باطن يأبى بعض الناس أن يعترفوا به، يستمسكون بما ذكرناه حتى هنا، ويصمّون آذانهم عما سيأتي.

أسألكم بالله هل هناك مَن ينكر أنّ القرآن نفسه وسيلة؟! فلو لم ينزل فمن أين كنا سنستشرف الأمل في الحياة الآخرة الأبدية، وننظم شؤون حياتنا الدنيوية، ونرى خريطة الجنة؟ وبأي شيء كنا سنروي قلوبنا الظمأى وكيف كنا سنتوصل إلى ذلك؟

أسألكم بالله: هل هناك مَن ينكر أن النبي صلى الله عليه وسلم واسطة، وهو من عرج إلى السموات العلى يوم الإسراء والمعراج وعاد وهو يقول: يا ربِّ أمتي أمتي؟! هل تُنكَر وساطة نبي عظيم وصفه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/107)، وهو رحمة للكافرين أيضًا، إذ حوّل كفرهم المطلق القطعي إلى شك وريبة، فنجّاهم من العذاب النفسي في الدنيا، ذلك العذاب الذي ينشأ عن الاعتقاد بالفناء المطلق والعدم بعد الموت، فصاروا يرون البعث بعد الموت أمرًا محتملًا.

فلو لم يُعلِّمْنَا دينَنَا فممن كنا سنتعلمه؟ لقد تعلمنا منه مكارم الأخلاق، فهو من أزال الرَّين عن عين الإنسانية، وهو من بلّغنا الآفاق النورانية؛ وقد أحس الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الشعور في أعماق قلوبهم، فقالوا: “اَلْمِنَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ” فرأوا كل شيء خاصّ به مباركًا ووسيلة للنجاة، فكل شعرة مباركة تسَّاقط من رأسه أو لحيته صلى الله عليه وسلم كأنها نزلت من الجنة، فتُلفّ بأليَن القماش وتُحفظ في زجاجة بأعز مكان في بيوتهم؛ وكل قطرة من وَضوئه تساقط من أعضائه صلى الله عليه وسلم يتدافعون عليها ولا يفرطون بها، ثم يمسحون بها وجوههم وعيونهم، كأنهم يعتقدون أن النار لن تمس عضوًا مسَّه ذلك الماء المبارك؛ هذه عقيدتهم ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يمنعهم عن ذلك؛ فلو كان فعلهم هذا شِركًا كما يُقال، لمنعهم عليه الصلاة والسلام من فعل ذلك، فهو إنما جاء ليمحو الشِّرك عن ظهر البسيطة.

وأنوّه بهذه الواقعة: كان القائد العظيم خالد بن الوليد رضي الله عنه يحمل في عمامته شعرةً من شعر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففقدها ذات يوم في معركة، فراح يبحث عنها لا يخشى شيئًا حتى اقتحم صفوف الأعداء دون أن يعبأ بتحذير أصحابه له، فعثر عليها ولبسها، ولما سأله أصحابه لم ألقى بنفسه في التهلكة، فقال: حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في حجة الوداع، فأخذت من شعره شعرات، فجعلتها في مقدمة قلنسوتي فلم أَلْقَ جمعًا قط إلا انهزموا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم[5].

قائل هذا رجل له من العظمة ما يجعل أعظم قادة العالم خَدَمًا له.

وعمرو بن العاص رضي الله عنه الرجل العظيم فاتح إفريقيا من أقصاها إلى أقصاها، الداهية السياسي المحنَّك، ذو الموهبة الإدارية الفريدة التي تشبه دهاءه، لما حضرته الوفاة وضع شعرة مباركة من لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت لسانه لعلها تيسر عليه الحساب.

وأكرر فأقول: ومَن أجلّ من الصحابة على ظهر الأرض في فهم التوحيد؟ فلو كان هذا الفعل ونحوه شركًا لكانوا أول من يتجنبه، فهم النخبة المختارة التي شبهها الرسول صلى الله عليه وسلم بالنجوم في السماء، وقدرها وبجّلها بقوله: “النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَنَا أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ”[6]؛ لكن كما رأيتم لم ير هؤلاء مانعًا ألبتة من التوسل بهذه الصورة.

وأصاب الناسَ قحط في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرأى عمرُ نفسَه سببَ هذا البلاء، فأثقل هذا الأمر كاهله، واكفهر وجهه، وبينما هو عائد إلى بيته وهو على تلك الحال، توقف فجأة، وعاد مسرعًا يحث خطاه إلى بيت عم النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا العباس رضي الله عنه، فاستأذن، ففتح له العباس، فبادر عمر وأخذ بيده، إلى إحدى الهضاب، فدعا الله وهو يرفع يد العباس رضي الله عنه إلى السماء: “اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا” فَسُقُوا[7].

وعن مالك الدَّارِ قال: أصاب الناسَ قحطٌ في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجلٌ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله! استسقِ اللهَ لأمتك فإنهم قد هلكوا”، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: “اِئْتِ عمرَ، فأَقْرِئْه السلامَ، وأخبِرْه أنكم مُسْقَون، وقل له: عليك الكَيْس الكَيْس!”، فأتى الرجلُ عمرَ فأخبره، فبكى عمرُ ثم قال: “يا ربّ ما آلُو إلا ما عجزتُ عنه”[8].

وعنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يُعَافِيَنِي، فَقَالَ: “إِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ لَكَ وَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ” فَقَالَ: ادْعُهْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي قَدْ تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ”[9].

وما زال هذا الدعاء وردًا يردده المسلمون كلما نزلت بهم مصيبة أو مرض، يصلون ركعتين ويدعون به، فيُرفع عنهم، ذلك بفضل الله وعنايته.

والخلاصة أن التوسل مشروع وواقع بشرط ألا يُنسى أبدًا أن المتوسَّل به ليس هو المقصد والغاية، وأنه ليس له من الأمر شيء سوى كونه وسيلة، وأن الأمر كله يرجع إلى مشيئة الله وإرادته، والأمثلة المتقدمة تبين أنه لا صلة للتوسل بالشرك ألبتة، إلا أنه كما يمكن إساءة توظيف أي مبدأ صافٍ قد يسيء أناسٌ العملَ به، فالتوسل من حيثُ هو لا يُضِيره ما فعل المخطئون المسيئون؛ هذا هو مفهوم التوسل عندنا؛ وعلى ذلك يشاركنا عباد الله الصالحون في دعائنا، فالدعاء جماعةً أرجى للقبول.

[1] صحيح البخاري، التيمم، 1؛ صحيح مسلم، الْمَسَاجِدِ، 3.

[2] صحيح البخاري، الرقاق، 38.

[3] صحيح البخاري، الأذان، 155؛ صحيح مسلم، المساجد، 137 (إلا “وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ” فإنها وردت في المعجم الكبير للطبراني 22/133؛ وشعب الإيمان للبيهقي 7/49).

[4] سنن الترمذي، صِفَة الْقِيَامَةِ، 59.

[5] الواقدي: فتوح الشام، 1/210.

[6] صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 207.

[7] صحيح البخاري، الاستسقاء، 3.

[8] مصنف ابن أبي شيبة، 6/356؛ البيهقي: دلائل النبوة، 7/47.

[9] سنن ابن ماجه، إقامة الصلوات، 189.

فهرس الكتاب