سؤال: من هم أولو العزم من الرسل؟ ولِمَ خُصّوا بهذا اللقب؟
الجواب: كلمة “أولو” لغةً بمعنى “أصحاب”، جمعٌ شاذ لكلمة “ذو” بمعنى “صاحب”؛ أما كلمة العزم فلها معانٍ منها: الحزم والإصرار والثبات، فإذا ما أضيفت إليها كلمة “أولو” صار معناها “أصحاب الإصرار والحزم”؛ وسأستطرد إلى آية تداعى ذكرُها عند ذكر هذه الكلمة، يقول الله تعالى عن سيدنا آدم عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ (سُورَةُ طَهَ: 20/115). قال بعض المفسرين: ولم نجد له عزمًا على ترك المعصية؛ لكني شخصيًّا لا أستطيع أن أقبل هذا التفسير في حقّ نبيّ من الأنبياء، ولا يطمئن إليه قلبي، والمعنى الأمثل عندي: كان ما كان من آدم دون قصد منه، لكنَّه لم يكن عازمًا أو مخططًا من قبل لفعل ما فعل؛ فمعنى ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ أي إصرارًا على ارتكاب ما كان منه.
أما أولو العزم من الرسل فهم من ذُكروا في الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (الأَحْزَابِ: 33/7)؛ أي هم سيد السادات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المشار إليه بكاف الخطاب “منك”، وسيدنا نوح، وسيدنا إبراهيم، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى عليهم السلام.
وكل نبي له خصوصية، غير أن هؤلاء الخمسة كل شيء في سُوقهم غالٍ وثمين؛ فكم من ابتلاءات شاقة عسيرة اجتازوها، وإذا ما أمعنّا النظر بدقة فيما ذكره القرآن من قصصهم فسندرك بوضوح لِمَ أُطلق عليهم لقب “أولو العزم”؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما لقي من أذى المشركين وعنتهم لم ينبس فمه الشريف ببنت شفة توحي بالشكوى أو السخط من القَدَر؛ ثم انتصرَ يوم بدر، وتحمل عبء ما حدث يوم أُحُد كأنه احتمل جبل أُحُد، ولما قفل راجعًا من أحد لم تبدر منه أي كلمة توحي بتوبيخ الصحابة الذين تسببوا في الهزيمة لقصورهم عن استيعاب الدقة في امتثال الأوامر؛ وكم أحزنه فقده لعمه حمزة رضي الله عنه يومئذ، لكنه كتم ما آلمه وأهمّه في قلبه في هذا الموضع أيضًا.
ليس له همّ سوى هداية الناس، كان حريصًا أشد الحرص على ذلك حتى كاد يُهلك نفسه، فذكره القرآن الكريم بقوله سبحانه: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (سورة الْكَهْفِ: 18/6)، وبقوله: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/3)، ففي هذه الصورة البيانية إشارة إلى مدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الناس كافة.
قضى عليه الصلاة والسلام حياته في هذا الأفق؛ فما وَجد الضيقُ أو الجزع أو الضجر إليه سبيلًا، بل ثبت ثبات الجبال في وجه كل ما نزل به؛ ظل سنين وهو يغزل غزلًا ما، ثم قضى القدَر بنقض هذا النسيج، فلم يضجر ولم يسأم، بل أخذ ينسج من جديد دون توقف.
والحقّ أنَّ هذه الخصوصيةَ عامّةٌ للأنبياء جميعًا، ولكن كما أنهم متفاوتون في الدرجة فكذا فيما ينزل بهم من مصائب وابتلاءات، وأممُهم متفاوتة كذلك.
ويا له من مشهد عظيم ذي مغزى عرضَهُ رسولُ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم في هذا المقام! كُشف له حجاب الغيب فرأى جميع الأنبياء… وهاكم الحديث من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم: “عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ، وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ”[1].
ولنتأمل أن من الأنبياء مَن اجتهد وجاهد طول عمره في سبيل الدعوة، ورغم ذلك التحق بالرفيق الأعلى ولم يجد من يفقه عنه، ومنهم من كانت أمته بضعة أفراد؛ وأظنّ أنَّنا نُمنَى بالفشل إن ابتُلينا بمثل هذا الموقف.
هذا إبراهيم عليه السلام غُلّت يداه ليُرمى بالمنجنيق، ويُطرح في نار مستعرة يشبّ لهبها كأمواج البحر المحيط؛ فاستأذن الملَكُ ليكون ظهيرًا له عليه السلام، لكنه اعتصم بالله وما نقص توكله به مثقال ذرة، وقال: “حسبي الله ونعم الوكيل”.
وذاك سيدنا نوح عليه السلام، ما ركب معه في السفينة إلا حفنة من الناس بعد مكابدة ومعاناة دامت ردحًا طويلًا من الزمن، بل لم يستطع أن يصحب ولده معه، وما أشده من مشهد وأصعبه على أب يحمل روح نبي! يتعذر بل يستحيل أن نفهم هذا الشعور.
والمسيح عليه السلام حُكِم عليه بالموت وهو في سن يُعدّ مبكرًا، ولو أطلّ برأسه لرأى سيوفًا مسلولة تأهبت لتنقضّ عليه وتمزقه، لكنه مع ذلك صمد وثبت، ولم يتزعزع ولو لحظة.
أجل، إن هؤلاء مختارون مصطفون من بين من حظوا بسرِّ قوله تعالى: ﴿اَللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ (سُورَةُ الْحَجِّ: 22/75)؛ فهم قِشْطة اللبن في قدح الوجود الذي يغلي برحمة الله، وبهذا الشكل تجلت فيهم قدرة الله وإرادته؛ ومن أوصافهم التي لا تنفك عنهم التوكلُ العميق والعزم الذي لا يعرف اللين والسآمة؛ لذا أطلق عليهم “أولو العزم”، ولكل نبي وولي عزمٌ خاصّ، كل حسب درجته ومرتبته، إلا أن هذه السمة بلغت أوجها لدى هؤلاء.
[1] صحيح البخاري، الطب، 17؛ صحيح مسلم، الإيمان، 374 (واللفظ لمسلم).