سؤال: أَتَأْتِي آجالُ من يموتون في كارثة كونيَّة واحدة معًا؟
الجواب: الأجل: الوقت الذي كتب الله في الأزل انتهاء الحياة ومسيرتها فيه وفقًا لظروف كل مخلوق وأحوالِه، فما من مخلوق في هذه الدنيا إلا وقد كُتِب أجله ويوم منيته من قبل أن يُولَد.
ومسار الأحداث ومجراها يتعذر معه وضع حدٍّ يفصل البداية عن النهاية، فقدَر كل موجود أشبه بقطرة ماء، مصيرها إلى الأرض عاجلًا أم آجلًا، ثم إلى التربة لتنفذ منها كما النهر إلى بحر من البحار إن عاجلًا أم آجلًا، فقدَر كلّ موجود كما أتى به إلى مسرح العالم سيأتي عليه ليعود كما جاء.
البدايات أمارات النهايات، والحدوث دليل الفناء، ومن لا بداية له لا نهاية له، ومَن ثبت قِدمُه استحال عدمُه.
إن موجودًا عليًّا قديرًا يحكم بوجود كل حادث، ويرسله إلى هذا العالم برسالة، وهو عليه رقيب… فهو خارج عن الحوادث ومجرياتها وتلك البدايات والنهايات جميعها، والأزمنة السابقة واللاحقة والعصور والعهود كلها تحت قَهْرِه وتدبيره.
فمن الخطأ إطلاق لفظ “الطبيعي” على بثِّ هذه المخلوقات وظهورِها ثم رحيلِها واختفائها من مسرح الحياة، وكذا إطلاقه على الآفات وآثارها ومجرياتها؛ وما من شيء يظهر من العدم إلى الوجود من تلقاء نفسه بل إنما يكون ذلك بأمر رباني وإرادة ربانية لأداء رسالةٍ ما.
وما من موجودٍ يظهر إلى الوجود إنسانًا كان أم حيوانًا أم نباتًا أم غير ذلك إلا بقدرةٍ تصرّفه وتهيمن عليه، ثم يختفي هذا الموجود من مسرح الوجود ويتركه لمن بعده إذا ما أدَّى رسالته في عرض صفات خالقه وإشهارها للدلالة عليه.
والحياة والموت في الدنيا ابتلاء وعرض وظهور؛ ووجودُ أيِّ شيءٍ بعد أنْ كان عَدَمًا دليلٌ جليّ وترجمان فصيح على وجود خالقٍ لا تدركه الأبصار؛ وفناءُ ذلك الشيء بانقضاء أجله دليلٌ أيضًا بيّنٌ على أنّ ذلك الخالق الأزلي باقٍ لا يفنى.
أجل، إننا بوجودنا بعد أنْ كنا عَدَمًا دليلٌ على وجود مَن أوجدنا، كما أننا بسمعنا وبصرنا وحواسّنا وعلمنا لَدليل على وجودِ سميعٍ بصيرٍ عليمٍ، وعندما نموت على باقٍ لا يموت ولا يفنى، والخلقُ كلهم يأتي واحدًا تلو آخر ويرحل واحدًا تلو آخر ولا يعود مَن رحل. وهو ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (سُورَةُ الْمُلْكِ: 67/2). وما ينبغي للإنسان أن يهتمّ به هو فقهُ معنى الوجود، والفوز في الامتحان في الدنيا، والتهيُّؤ للرحيل.
وبعد هذا المدخل فلنتناول السؤالَ “أتأتي آجالُ من يموتون في آفة كونيَّة واحدة معًا؟”
أجل، تأتي آجالهم جميعًا مرة واحدة، ولمَ لا ومالكُ الملك بيده مقاليد كل شيء؟ فهو كما أنشأ وخلقَ كلّ شيء من الذّرات إلى المجرات في طرفة عين، يميت كلّ شيء في لمح البصر، ولا يحول بل يستحيل أن يحول دون هذا اختلافُ مكان هذه الأشياءِ واختلافُ صفاتِها وكيفياتِها.
ولا شيء ألبتةَ يشبه إرادة المهيمن العزيز الجبار المطلقة وإحاطة قدرته بكل شيء، أما الأشياء الَّتي تقرِّب معناهما وكأنها مرآة عاكسة فما أكثرَها، منها مثلًا: الشمس تتوجه نحوها أنواعٌ من الموجودات مختلفة الصفات، فتمدها الشمس بالحياة دون أدنى مزاحمة، وتصبغها أشعتها بشتى الألوان، ثم تذبل شيئًا فشيئًا وتنطفئ وتغادر مسرح الحياة بمر الأيام؛ ومثل هذا كلّ ما يُلقَّح في رحم الربيع، ثم ينمو في الصيف، ثم يصفرّ في الخريف، والفرق أنّ لكلٍّ منها قَدَرًا يختلف عن الآخر، وأنّ كلًّا منها يجري بعلم وإرادة وتدبير إلهيّ شامل لا بمشيئة نفسه وهواه ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/59).
فهل يُعقل أن تُدَبَّر حياة الأشجار والأعشاب والبذور ونموّها ثم موتها بعناية وإحكامٍ، ويُتركَ سدًى ذاك الذي كرمه الله تعالى وجعله أشرف خلقه؟ لا ريب أنّ خالق الكون ومالكه -الذي لا يشغله شيء عن شيء ولا يشغله سماع شيء عن سماع شيء آخر، ولا رؤيةُ شيء عن رؤية شيء آخر- سيُحكِم تدبير أمر الإنسان أكرمِ المخلوقات وأشرفها أيما إحكام، وسيُنعم على كل فرد منه بما أنعم به على الجنس أو النوع مما دونه من المخلوقات؛ وسيخصّ بذلك الإنسانَ فهرسَ الكائنات، ويكرمه، ويشرّفه بدعوة خاصة إلى حضرته.
قد يُدعى المرء للقاء الله وهو على فراشه أو هو في ساحة القتال أو إِثر آفة ومصيبة؛ وقد يُدعى الناس في أماكن مختلفة جماعات أو فرادى، ولا أثر لهذا الأمر على تدبير الخالق لأمر الإنسان؛ نعم، لمالك الملك والقدرة المطلقة مَن بيده مقاليدُ كلّ حيّ وكَتْبُ الآجال أن يتوفى الأنفس -كما كتب عنده- جماعاتٍ أو فرادى معًا؛ وهذا كتسريح وحدة عسكرية سبق أن تعين وقت تسريحها، فإذا جاء أوان التسريح قام أكبر قائد بالتنفيذ.
وسبق في بحث الملائكة الموكلة بقبض الأرواح أنَّ وظيفتها شاملة وعددها كبير، حتى إنه قد يوكَّل عدد منهم لا واحد فحسب بكل من أتاه أجله في الآفات والحروب، وهم إنما يَصدرون في هذا عن مشيئة الله وتقديره، وبأيديهم كتبٌ تهديهم إلى كل من جاء أجله.
وسبرُ هذه الآفات بعمق يكشف أن ما حدث كان مؤقتًا بقدَر أزليّ معلومٍ جَاءَ أجلُ القتلى على وَفْقِهِ، وتدوينُ عجائب هذه الحوادث لا تتسع له مجلدات، بل ما كُتب منها بلغ مجلدات عدة، فما من يومٍ إلا ونقرأ في المطبوعات عن مثل هذه الحوادث المذهلة؛ فمثلًا:
– إذا زلزلت مدينة زلزالًا شديدًا فصار عاليها سافلها ومات الآلاف، قد نرى أطفالًا لا حول لهم ولا قوة لم يمسسهم سوء رغم مرور أيام على الزلزال وهم تحت الأنقاض كأنهم في استراحة…
– وإذا سقطت شاحنة في قناة فغرق العمال جميعًا قد تجد طفلًا رضيعًا في قُماطٍ يطفو فوق الماء…
– وإذا سقطت طائرة واحترق جميع ركابها ولم ينجُ منهم أحدٌ أيًّا كان، قد ترى على بعد مائتي متر رضيعًا ألقته الطائرة لما اصطدمت بالأرض، لكنه نجا ولم يصبه أي ضرر…
إن مئات الحوادث لتبرهن أن الحياة والموت بمشيئة الواحد الأحد وإرادته، لا يقع شيء منهما بنفسه أو صدفة.
والموجودات إنما خُلقت -فرادى وجماعات- لوظيفة مكتوبة في سجل كلٍّ منها؛ وتلك الوظيفة هي أن تفقه أسرار الفطرةِ الدقيقة ولما وراء الطبيعة من أسرار، وأن تكون ترجمانًا ومرآة تتجلى فيها آثار أسماء مَن خلقها وأسكنها هذه الدار، ثم ينقضي أجل كلٍّ بتمامِ وظيفتِه، فيغادرونها فرادى أو جماعات.
هذا العِلم والتقدير والقضاء، أي القضاء بآجال الناس معًا يسير على من يحيط علمه بكل شيء من أوله إلى منتهاه، وقد علّمَنا العليمُ المحيط بكل شيء أنه يحيط بكل إنسان كثيرٌ من الملائكة، وأن لقبض الأرواح ملائكة كثيرين أيضًا.
قد يقال: في النكبات والآفات يموت ويهلك مع من حقَّ عليهم العذاب كثيرٌ من الأبرياء، فماذا عن هؤلاء؟
إنّ سؤالًا كهذا مصدره خطأ وفساد في العقيدة والتصور؛ فلو أنّ الحياة هي هذه الدنيا فحسب، أو لو أن هذه الدنيا هي الدار الأولى والآخرة لربما كان لهذا الاعتراض وجه؛ أَمَا وإنها ليست إلا مَزْرعةً وساحة جهاد ومحطة انتظار، والآخرةُ دارُ حصاد وجنيُ ثمار وشروقُ سعادةٍ وغروبُ شقاءٍ ليس إلّا؛ إذًا لا عجب في موت الصالح مع الطالح، والبريء مع المجرم؛ بل إن جريان الأمور على هذا السنن هو الأصل والمنطق؛ لأن الإنسان عندما يُبعَث ينشأ خلقًا آخر أشبه بأعماله ونياته، وهذا أصل في الحساب، ثم إمّا أن يُعذَّب وإما أن يكون أهلًا للرِّضا والألطاف.
إذًا الأجل أو الموت: الوقت الذي تنتهي فيه الوظيفة في هذه الدنيا، وهذا الوقت قدَرٌ مكتوب في الأزل كأنه خطة مرسومة سابقًا ومدوَّنة في السجل تدوينًا لا ينافي الإرادة الإنسانية؛ ولا فرق ألبتة في تنفيذ هذه الخطة على الخلق أفرادًا كانوا أم جماعات؛ فإذا آن الأوان نفذ أمرُ مَن يرى ويعلم كلّ شيءٍ وفق مشيئته وإرادته سبحانه.
ومن أهم أسباب الانحراف في كثير من المسائل الجهلُ بالعلم والإرادة المطلقة للخالق جلّ وعلا، والخطأُ في رؤية الحوادث والأشياء، فما لم تبرأ عقولنا وتطهر قلوبنا عند مواجهة الأشياء والأحداث من المفاهيم الخاطئة في الطبيعة والصدفة، فستغدو عقولنا وقلوبنا مستنقعًا آسنًا للعقائد الفاسدة وساحةَ حرب للوساوس الشيطانية.
ليس عجبًا أمرُ فسادِ الأجيال وانحرافها، بل المدهش أن تحافظ حتى الآن على استقامتها رغم جدب عالم القلب وسوء تغذيته وتوالي كؤوس الشبهات عليه صباح مساء، وتلك نكبة ومأساة كبيرة تقوم بها منظمات متخصصة.
وقد يُستعظم ما سقناه من أدلة على مسائل كهذه، فنقول: إنها من مسائل الإيمان، وأصغر مسألة إيمانية هي في نظرنا كالجبال الشمّ، وتربو قيمتها على هذه الدنيا بما فيها، فالعناية ببحث هذه المسائل مطابق لمقتضى الحال.
ويقيننا أن إخواننا الذين يقدرون هذه المسائل قدرها سيعذروننا ولن يسأموا منّا.