سؤال: ما الذي يجب أن يكون عليه مقياسُ العَفْوِ و السماحِ عند المسلم؟
الجواب: العفو والسماح والصفح من صفات المسلم، ويجب على كلّ مسلم الاتصاف بها، فالعفو والصفح يُساهمان في ترقيق القلوب وإيصالِ الحقائق إليها، ومع ذلك فمهما كانت هذه الصفة جيّدةً فيجبُ أن تكون متوازنةً على مستوى معين، دون إفراط أو تفريط، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعفو ويصفح إلى أقصى درجة ممكنة عن كلّ معاملة سيئة موجهة إلى شخصه، ولكنْ إن كانت هذه المعاملة تتعدّى على الآخرين أو تنتهك أسًّا من أسس الدين فتراهُ ينقلب إلى أسدٍ هصور حتى يأخذَ الحقَّ لصاحبه ويدفعَ عنه هذا البلاء.
لم يقلْ كلمةَ عِتابٍ واحدة للصحابة الذين لم يستوعبوا تمامًا دقّة الانقياد إلى أمره في معركة أحد؛ فتركوا أماكنهم وتسبّبوا في زعزعة جيشِ المسلمين، بل لم يُغلظ عليهم القول ألبتة؛ أما ردّ فعله تجاه المعاملة الخشنة التي تعرض لها من قبل بدوي فظّ بدعوى المطالبة بحقّه فكان التبسُّم ثم الالتفات إلى الصحابة وأمره لهم بأن يعطوا البدوي ما طلب، وإنّ ما ذكرناه لهو غيضٌ من فيض ونقرةُ طائرٍ من بحرِ أمثلةٍ عديدةٍ تثبت سعة مناخ العفو والسماح عنده صلى الله عليه وسلم، أما العفو العام الذي أعلنه في مكة بعد فتحها فشيءٌ تحارُ له الألباب، ولا يصل إليه خيالُ إنسانِنا المعاصر.
لقد انخدع بعضُ المسلمين بدعاية أصحاب الإفك الذين حاولوا تشويهَ سمعة أمّنا عائشة رضي الله عنها الطاهرة النقية التي تغبطها ملائكة السماء على عفّتها، ومن بين هؤلاء الذين لطّخوا هذا الذيلَ الطاهرَ وافتروا على السيدة عائشة التي نتمنّى أن تكتحلَ عيونُنا بالتراب الذي تمشي عليه حسانُ بن ثابتٍ شاعرُ النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد خدعَ هذا الشاعرَ أحدُ المنافقين بطريقةٍ أو بأخرى، فوقع في شِبَاكِ المفترين، وبعدما جاء الوحي ببراءة أمّنا عائشة أقيم عليهم حدّ القذف، ثم مرت السنوات وتقدّم حسان في العمر، ولم تعد عيناه تبصران، يقول مسروق بن الأجدع: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَعِنْدَهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُنْشِدُهَا شِعْرًا، يُشَبِّبُ بِأَبْيَاتٍ لَهُ: وَقَالَ: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَكِنَّكَ لَسْتَ كَذَلِكَ، قَالَ مَسْرُوقٌ: فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَأْذَنِينَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيكِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (سُورَةُ النُّورِ: 24/11) فَقَالَتْ: “وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ العَمَى؟ إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ، أَوْ يُهَاجِي عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ[1]، وفي رواية أخرى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها سمعتُ النبيَّr يقول لحسّان: “إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ”[2].
وكان مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ من بين مَن تورّطوا في حديث الإفك مع أن أبا بكر رضي الله عنه كان يتعهده وينفق عليه، وعندما ظهر اسمه بين المفترين أقسمَ أبو بكر رضي الله عنه أنه سيكفّ عن مساعدته غضبًا منه، ولكن سرعان ما نـزلت الآية ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سُورَةُ النُّورِ: 24/22)، وما إن سمع أبو بكر رضي الله عنه كلمات هذه الآية حتى حنَثَ بيمينه وأدى الكفّارةَ ثم استمر في مساعدة مِسطح ومعاونته والإحسان إليه وكأن شيئًا لم يحدث.
هذه أمثلة حول قيام المؤمنين بالصفح عن أفظع وأقبح ما يُمكن أن يُرتكب في حقّ أي شخص، والحقيقة أنهم استطاعوا النجاح في هذا الامتحان الصعب؛ وإن في ذلك لعبرةً لمن حملوا على عاتقهم مهمة تبليغ الحق والحقيقة.
على دُعاتنا الحاليين النفوذ إلى القلوب، وبيان الحقائق بخلقهم الرفيع وبسماحتهم، ولا يظنّنّ أن الخشونة والحِدّة والغلظة تفيد في شيء، فلم تُجدِ نفعًا لا اليوم ولا في أيّ عهد سابق، أما المناخ الدافئ لِخُلُقِ الصفح والمسامحة فيستطيع إذابة العديد من جبال الثلج، فكم من عدوٍّ قرَّرَ قتلَ الرسول صلى الله عليه وسلم غيلةً، وبفضل عفو الرسول صلى الله عليه وسلم وصفحه وُهبت له الحياة ثم دخل في الإسلام وأصبح من أصدق أتباعه وأصحابه، ألم يكن خلق العفو والسماح لدى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي ألان قلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأسلسَ قياده لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألم يكن هذا الخلق الرفيع للرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح قلب خالد بن الوليد رضي الله عنه لنور الإسلام فانقشعت عنه الظلمة؟ أليست كلّ هذه فيوضاتٍ نورانيةً انبثقت من مناخ عفو وسماحة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
والحقيقة أن الله تعالى يطلب هذا من كلّ داعيةٍ وواعظٍ ومبلّغ، فمع أنه بعلمه الأزليّ يعلم أنّ فرعون لن يهتدي إلا أنه عندما أرسل إليه موسى وهارون عليهما السلام أمرهما أن يقولا له قولًا لينًا فقال: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (سُورَةُ طَهَ: 20/44).
مهما تصرّف معارضونا تجاهنا بخشونةٍ وتعصُّبٍ ورجعيّةٍ وغيرها من الأمور التي تصبّ في مصلحة أهل الكفر فعلينا أن نُقابل هذه التصرّفات بمرونةٍ وشهامةٍ تليقُ وحالَ المؤمنين، فهذا هو ما يوجبه علينا المفهوم الأخلاقي الذي يعلّمنا إيّاه القرآن الكريم ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (سُورَةُ الفُرْقَانِ: 25/72)، إن الدستور الذي يجب أن يضعه المؤمن نصب عينيه على المستوى الفردي هو ما قاله ربنا تعالى ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سُورَةُ التَّغَابُنِ: 64/14).
فالمؤمن الذي يتمنى ويأمل أن يتجلّى الله عليه بصفات الغفران والرحمة عليه أن يتخلّق بهما ويجعل من العفو والصفح جزءًا لا يتجزّأ عن خُلُقه، لن يخسر الإنسان الذي جعل شيمتَه العفوَ والصفحَ أبدًا في أيّ مرحلة من مراحل حياته، والذي يضع المستقبل نصبَ عينيه وهو يعيش حياته الحالية إنسانٌ قد وهبه الله تعالى موهبةً وحكمةً خاصةً به، والذين ينالون مثل هذا الفضل هم أيضًا ورثة المستقبل في هذه الدنيا.
[1] صحيح البخاري، المغازي، 36.
[2] صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 34.