سؤال: كيف يمكن تقييم الدنيا في ظل الظروف الراهنة ؟ نحن لا نستطيع إقامة توازن بين الدنيا والآخرة؛ فكيف نجح الصحابة في ذلك في عهد النبوة وما بعده؟
الجواب: الدنيا منـزلٌ من منازل عديدة نمرّ بها ونجتازها، وهناك آيات قرآنية عديدة وأحاديث نبوية كثيرة تعلمنا هذه الحقيقة وتنذرنا بها، فالإنسان ينتقل من عالم الأرواح إلى رحم الأم ومنه إلى الحياة الدنيا، وبعد أن يجتاز فيها مراحل الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة ينتهي به الأمر إلى القبر فعالم البرزخ والحشر، ثم إلى الحياة الخالدة الأبدية؛ أي إنه لا يبقى في هذه الرحلة الطويلة سوى أيامٍ معدودات في الحياة الدنيا.
أجل، فالدنيا ليست إلا منـزلًا واحدًا من منازل عديدة للإنسان، ويصور الرسول صلى الله عليه وسلم لنا ذلك فيقول: “مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا”[1]، فالإنسان مسافر سفرًا طويلًا، ولكي يرتاح برهةً في أثناء هذا السفر يقضي وقتًا قصيرًا في ظل شجرة، وإلا فالدنيا ليست مقامه أو منـزله الدائم، بل هي عبارةٌ عن محطّةٍ من محطّات الاستراحة القصيرة لا غير.
وطنُنا الأصلي هو دارُ الأرواح، فقد لبسنا حلّة الجسد من هناك، وجئنا إلى الدنيا حتى نشكِّل حياتنا الأبدية ثم نعود إلى وطننا الأصلي مرةً أخرى، لذا يجب تقييم الدنيا من هذه الزاوية.
والمؤمن إنسانُ توازُنٍ، لذا يجب أن يقي نفسه من الإفراط ومن ضرباته المهلكة كما هو الحال في كلّ أمر، وأحسب أن تحقيق هذا المعيار إنما يتأتّى بإعطاء أهمّيّة للدنيا بنسبة البقاء فيها وإعطاء أهمية للآخرة بنسبة البقاء فيها أيضًا، والقرآن الكريم يعلّمنا فيقول: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (سُورَةُ القَصَصِ: 28/77).
ماذا آتانا الله؟ لقد آتانا العقل والقلب والروح والجسد والصحّة والشباب ونِعَمًا أخرى لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وكلّها رأسمال، وبهذا الرأسمال نستطيع شراء الآخرة، وقد ورد هذا الموضوع في آية أخرى هكذا ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/111).
الإنسان هنا هو الطرف الذي يُعطي المتاع الزائل الفاني، والله تعالى هو الذي يعطي ويهب ما يبقى ولا يزول، ومن أجل هذا العقد يدعونا القرآن أن نبتغي الدار الآخرة، لذا كان من الواجب علينا أن نضع الدار الآخرة نصبَ أعيننا وأن تكون النقطةَ المحوريّة لكل حركة وكلِّ تصرُّفٍ من تصرُّفاتنا؛ لأننا سنبقى هناك بقاءً خالدًا، والدنيا هي الكُوَّةُ الوحيدةُ المؤدّيةُ إليها والطريق الوحيد للفوز بها.
والآية توصينا بألا ننسى نصيبنا من الدنيا، ولكن بأسلوبٍ يشعرنا بأن الدار الآخرة هي الأساس وهي الغاية التي يجب أن نختارها ونسعى إليها؛ ذلك لأن الآخرة هي الدار التي يتطور فيها الإنسان ويسمو بجميع جوانبه، فإن شبهنا الحياة الدنيا ببَذرة، فإن الآخرة هي الشجرة الباسقة العالية نحو السماء والمتولّدة من هذه البَذرة.
أجل، إن جميع الحواس والمشاعر ستنمو وترتقي بشكلٍ غير محدود في الجنة، فقابليّة الرؤية والتذوُّق والسمع… إلـخ ستزداد أضعافًا مضاعفةً بينما مثل هذه القابليات كانت تبلغ في الدنيا واحدًا أو اثنين من ألف تقريبًا، ثم إن المؤمنين سيشاهدون من الجنة جمالَ الله تعالى أيضًا، ورؤية هذا الجمال لحظةً واحِدةً تُعادِلُ لذَّةَ آلاف السنوات في الجنة، إذًا فعلى الإنسان أن يضع كلّ هذا نصبَ عينيه عندما يقوم بعملية اختيار بين الحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة؛ فهل هناكَ شيءٌ يَفْضُلُ السعادةَ برؤية الله تعالى؟ علمًا بأن الحصول على رضوان الله تعالى نعمةٌ لا يُعادلها أيّ منصبٍ أو جاه، بل إن الجنة بكلّ نعيمها وبكلّ زينتها تبقى باهتة تجاهها.
والقرآن الكريم يُرشدنا إلى أن رؤية الله تعالى هي أعظم نعمة وإحسان يتفضل الله تعالى به على المؤمنين في الآخرة، فيقول: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/72)، وجاء في الحديث الشريف: “إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيكَ وَالخَيرُ فِي يَدَيكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا”[2].
فإذا ما وضعنا هذا القسطاس للحياة ما أهملناها أبدًا؛ بل سنحبُّها لا من أجلها، بل لكونها جسرًا وطريقًا مؤدّيًا إلى الآخرة، ولا يوجد لمثل هذه العلاقة أو الرابطة أيُّ محذورٍ، وكما يقال: “الدنيا مزرعة الآخرة”، ونستطيع أن نصل بالأمر إلى أبعد من ذلك فنقول إننا لا نستطيع أن نكون أهلًا للآخرة إلا بوساطة الدنيا؛ ذلك لأن جميع حواسنا ومشاعرنا ولطائفنا وقابلياتنا تنمو في الدنيا وتتوسّع، وهكذا نستطيع أن نكون أهلًا لرؤية الله تعالى.
إن الإنسان لا يستطيع رؤية الله تعالى في الدنيا لأنه لا يملك هذه المؤهّلات ولم تتهيأ له ولم يصل بعد إلى هذا المستوى من الاستعداد، والمسألة لا تتعلق بأبعاد الزمان والمكان أو بغيرها من الأبعاد، فالله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد، يحنو علينا بإحساناته، ويقضي في شؤوننا بإرادته، ويتصرّف بقُدْرَتِهِ اللانهائيّة، وإذا أردنا التعبيرَ عن هذا بتعبيرٍ صوفيٍّ نقول: “لا شيءَ أظهر من الله تعالى، ولكنه خفيٌّ عن العميان”، فإن كنّا لا نستطيع رؤيته فهذا يرجع إلى قصورنا، وإزالةُ هذا القصور في يَدِهِ تعالى، وسيزيله في الدار الآخرة فيستطيع المؤمن رؤيةَ جمال الله ويصل إلى أمله وبُغيته الأصلية.
إذًا فالدنيا مزرعةٌ تُثمر لنا مثلَ هذه النتائج، وعندما ينتقل الإنسان من الدنيا إلى العُقبى تزول الحجب النورانيّة حجابًا تلوَ آخر؛ فيرى الإنسان عند ذلك ربَّه.
إنّ الدنيا عبارةٌ عن تجليات أسماء الله تعالى، لذا علينا ألا نستهين بأيِّ شأنٍ من شؤون الدنيا؛ لأن حقائق الأشياء ما هي إلا تجليات لأسماء الحق تعالى، وكما يقول مولانا جلال الدين الرومي: “إننا نحنُ وإرادتنا وكلَّ ما يحدث حولنا نُشْبِهُ رايةً منصوبةً على عمودٍ مرتفعٍ جدًّا، وعلى هذه الراية كتابات ترفرف بها، والذي يُحَرِّكها ويرفرفها هو الله تعالى سلطان الأزل والأبد”، لذا فإننا إذا ما نظرنا إلى الحوادث والأشياء على أنها بستان -تحت إرادته وتصرُّفِهِ- تتجلى فيه أسماء الله تعالى وصفاته؛ نُشاهِدُ جمالَه على كل زهرةٍ وعلى كل قطرة ماءٍ عليها وعلى كلّ حبّة ندًى فوقها، ويُعبِّر جلال الدين الرومي عن هذا الأمر بتعبيرٍ ربما يصعُبُ فهمه على كثيرين فيقول:
“إن الخيالات التي هي شبّاك الأولياء إنما هي مرآةٌ عاكسة تعكس الوجوه النيّرة في حديقة الله”[3].
عرض الله تعالى أمام أنظارنا بتجلّيات أحديّته بعضَ الجماليات في ذاته، ثم أوصلنا بلُطْفِهِ وكَرَمِهِ وأسرار أحديّته إلى القدرة على استنباط بعض الأمور وفقًا لدرجتنا المعنوية، فلما تجلّت هذه الوجوه النورانية في بُستان الأَحَدِيَّةِ للحقّ تباركَ وتعالى استطعنا أن نراها بأبصارنا المحدودة في هذا العالم، وأن نشهد تجلّي ربّنا سبحانه وتعالى فيها، فَفُتن بها من فُتن، ووقع في حُبِّها من وقع، أما من جُنّبها وهام على وجهه في الصحراء فهو كما قال يونس أمره: يظل يطلبها بلسان الحوت في البحار والغزال في الصحراء، أما الآيات الدالة عليه سبحانه وتعالى كعصا موسى فتنعكس في بستانه جلّ وعلا على مرآة روحنا.
لا أنوي هنا شرح هذه المسألة الدقيقة فالذي نريد أن نقوله في هذا الموضوع الذي شرعنا فيه من طريقٍ غير مباشر هو: أن الدنيا بستان الله تعالى، وأنّ أنوار ذوي الوجوه النيرة في هذا البستان تنعكس على مرايا قلوبنا وتتجلّى فيها، فإذا كان الحال هكذا فإنّ ما نقوم به من أمورٍ دنيوية هو عبارة عن موجات تجلّ آتية منه على أطوالٍ مختلفة، ونحن هنا لا نتناول بالطبع الموضوع بنظرة أصحاب وحدة الوجود أو أُولي وحدة الموجود، لا نتناوله هكذا ولكننا نؤيد قول الإمام أحمد السرهندي الملقب بالإمام الرباني: “إن حقائق الأشياء عبارةٌ عن تجليات الأسماء الإلهية”. أجل، نحن لا نستطيع ترك الدنيا لأننا لن ننال الآخرة إلا بوساطة الدنيا، صحيح أنها عبارة عن ركام من الأراجيف والأوساخ، ولكن كم من جواهر نفيسة للحقائق كامنةٌ في هذه الأراجيف، هناك قصة في “المثنوي” عن محمود الغزنوي، وهي وأشباهها قصصٌ رمزية، والحقّ أن الحكيم الهندي “بيدبا” قبلَ “لا فونتن” قد قام بسرد القصص والحكم على لسان الحيوانات، وقام بعده كثيرٌ من علماء المسلمين باتباع الأسلوب نفسه في كتبهم، ومن بينهم مولانا جلال الدين الرومي، إذ أورد قصةً على لسان محمود الغزنوي وكلبه الرابض أمام بابه، فقال:
كان كلبه يذهب كل يوم إلى مزبلة أمام القصر ويظلّ ينبش ويبحث فيها فلا يجد فيها شيئًا يأكله، ومع ذلك يذهب في اليوم التالي إليها ويظل يبحث فيها عمّا يأكله حتى المساء، كان هذا ديدنه كلّ يوم، فقال له محمود الغزنوي ذات يوم: منذ أيام وأنت تنبش في تلك المزبلة فلا تجد شيئًا ومع ذلك لا تكفّ عن الذهاب إليها، ألَمْ تسأم وتملّ من هذا البحث غير المجدي؟ فقال له الكلب: “لقد وجدت في أحد الأيام في هذه المزبلة عظمة، ومن أجلها أذهب كلَّ يوم لعلي أجد عظمة أخرى.”
الدنيا في نظر أهل الحقيقة ركامٌ من الأراجيف مثل ركام تلك المزبلة، والله تعالى خلطَ في هذه الدنيا الخير مع الشر والجميل مع القبيح، ولكي لا يُنسب قبحُ الأشياء إليه مباشرةً؛ وضع أستار الأسباب، فبقي القبح الظاهري للأشياء وراء هذه الأستار، ولكن الله تعالى هو خالق كلّ هذه الأشياء التي تتجلى فيها ما لا نعلمه أو نحصيه من أسمائه تعالى، الأسماء الإلهية لا نهائية وهو وحده يعلم عددها، فهناك أسماء لا يعلمها إلا هو، ولم يُطلع أيَّ نبيٍّ أو ملكٍ مقرّبٍ عليها، وهذا معنى دعاء النبيّ r: (أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ)[4]“، ومن ثمّ علينا أن نقوم نحن بالنبش في هذه الدنيا وأن نبحث بكلّ شوقٍ في الأماكن التي يظنها الآخرون مزبلة من المزابل؛ لعلّنا نبلغ حقيقةً أخرى زيادة على الحقائق التي عثرنا عليها.
هناك وجه آخر للدنيا ننفر منه ونهرب؛ وهو وجهٌ يتعلّق بها؛ لأنها فانية وزائلة، لا تعطيك قطعة واحدة من الحلوى إلا مقابل صفعات عديدة؛ فهذا الوجه هو وجه اللهو والغرور، وهو الوجه الذي يقبل عليه أهل الدنيا ويجلّونه، بينما هو وجه قبيح بالنسبة لنا، وكلما زاد البغض منه كان أفضل.
إذًا نستطيع إقامة التوازن بين الدنيا وبين الآخرة من هذه الزاوية، الدنيا زائلة، والآخرة باقية، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الدنيا ولم ينعزل عن الناس، ولكنه كان على الدوام مع الحق تعالى، كيف لا وهو القائل: “الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ”[5].
علينا أيضًا أن نتصرّف على هذا النحو؛ فنخرج إلى الأسواق والشوارع التي تجري فيها الأراجيف أنهارًا، ونستمرّ طلّابًا وأساتذة في الذهاب إلى المدارس والجامعات، وربّما في سبيل هذا نتحمّل كثيرًا من الأذى المعنوي والمادي، وربما يسدّ هذا في وجوهنا السبل المؤدّية إلى الولاية والقرب منه تعالى بشكلٍ إرادي أو غير إرادي، ولكن علينا أن نضحي حتى ببعض مشاعر الفيوضات الربانية، فكما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة -أثناء المعراج- ولم يتأثّر بزينتها وحسنها فعلينا أن نتخلق بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم ونحاول تمثيل الحقيقة الكبرى التي جاء بها صلى الله عليه وسلم، والذين يقفون في الدنيا كمَن يقف فوق جمرات من النار، مثل هؤلاء لا يمكن أن يتطلّعوا أبدًا إلى الوجه الفاني للدنيا، ولا يمكن أن يشغلوا قلوبهم بها، وهم وإن كانوا دائمًا بين المخلوقات فإنهم دائمًا مع خالق المخلوقات تعالى.
لم يفكّر الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا حتى عندما أقبلت بِبُلَهْنِيَتِهَا عليه، فلم يُفكِّر في الاستفادة منها رغم إمكانية ذلك، لقد رحل عن الدنيا مثلما جاء إليها، جاءَ إليها فلفُّوه بقطعة قماش، ورحل عنها فلفّوه بقطعةٍ مثلها.
لقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم طوالَ حياته السنيّة تأسيسَ حضارةٍ تلهج بذكرها الحضارات وإقامة عالم متوازن هنا في الدنيا وهناك، ولم يتنازل طوال حياته قطّ عن دعوته هذه.
لقد دانَ بالتسليمِ الـمُطْلَقِ لله تعالى طوالَ حياته، فعاش في اطمئنانٍ يحاول دائمًا كسب رضا الله تعالى وإنقاذ الإنسانية، فلم يتكدَّر صفوُه بأهواء الدنيا وبملذاتها، أقام نظام الإسلام وطبّقه في بيته، فلما طالبته بعض نسائه بأخذ حظهن من الدنيا وزينتها اعتزلهن حينًا، حتى إنه صلى الله عليه وسلم خيَّرَهُنَّ -بأمر من الله تعالى- بين البقاء معه والاكتفاء بما عنده أو تسريحهن بإحسان، حينذاك فضّلت زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم البقاء معه وتحمّلَ شظفِ العيش معه على نِعَمِ الدنيا وملذّاتها، في هذه الأثناء دخل عمر رضي الله عنه على رسول لله صلى الله عليه وسلم وهو في غرفته معتزلًا نساءه، فَرَأَى أَثَرَ الحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَى، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: “مَا يُبْكِيكَ؟” فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ كِسْرَى وَقَيصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ الله! فَقَالَ: “أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ”[6].
لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، بل قام برؤية وبإظهار جميع الحقائق الإلهية المتجلية في الكون وتبليغها وتوصيلها إلى العالم أجمع بجيوشه التي انطلقت إلى أرجاء الأرض تحمل معها الإسلام وتنصب رايتَه في كلّ مكان، وأرى هنا من الضروري تسجيل نتيجة توصَّل إليها بعض علماء الاجتماع المعاصرين، إذ قالوا ما يأتي:
كانت البشرية قد سجّلت حتى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدُّمًا مقداره 25%، ولكنها استطاعت بفضله وفي عهده -أي في مدّةٍ قصيرةٍ- زيادةَ هذه النسبة إلى 50%، ولم تستطع البشرية منذ عهده وحتى الآن إلا تسجيل نسبة زيادة بمقدار 25% فقط، ومن المتوقع أن تصل إلى النسبة الباقية في المستقبل، وهكذا قطع صلى الله عليه وسلم في ربع قرنٍ مسافةً لم تستطع الإنسانية أن تبلغها لعدة عصور، وثبت أنه هو القدوة والأسوة لجميع الأجيال حتى قيام الساعة.
لم ينعزل ولم يترك الدنيا -نكرر هذا مرةً أخرى- بل عرفَ كيف يوجّه أمَّتَهُ التوجيهَ الصحيح ولأي شيء يجب إعطاء الأهمية وبأي نسبة.
[1] سنن الترمذي، الزهد، 44؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 3.
[2] صحيح البخاري، التوحيد، 38؛ صحيح مسلم، الجنة، 9.
[3] بديع الزمان سعيد النُّورسي: الشعاعات، الشعاع الثاني، ص 10.
[4] مسند الإمام أحمد، 6/247.
[5] سنن ابن ماجه، الفتن، 23.
[6] صحيح البخاري، تفسير القرآن، 405.