سؤال: بأي شيءٍ نُمتحَن في الدنيا؟ هل نُمْتَحَنُ بفساد وحدتِنا وتفريقِ كلمتنا؟ وهل امْتُحِنَ الصحابة بعضُهم بِبَعْضٍ؟
الجواب: يقول الله تعالى في آية كريمة ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/53)، إذًا فإن الناس يمتحنون بعضهم ببعض، ونستطيع درج هذه المسألة في عدّة نقاط:
الأولى: يُبعث من بين الناس نبيٌّ، ويكون إرسال هذا النبيِّ امتحانًا للناس من حوله، وحدث هذا عند بعثة رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعضَ الناس قالوا آنذاك: أنّى يُبْعَثُ يتيمُ أبي طالب نبيًّا وهو الفقير الذي لا يملك أتباعًا أقوياء، مع وجود مَن هو أولى منه مثل مسعود بن عروة في الطائف، أو الوليد بن المغيرة في مكة؟
ومع أن قريشًا قبيلة عريقة، لكنها ليست بأقوى القبائل؛ والنبي يجب أن يُبْعَثَ في أقوى القبائل لكي تستطيع قبيلته الدفاعَ عنه وحمايته.
كما قالوا: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ (سُورَةُ الفُرْقَانِ: 25/7).
ولا يزال الامتحان قائمًا لبعض الناس حتى في وقتنا الحالي، إذ يقولون: كيف يكون مَن تزوج تسع زوجات نبيًّا؟.
تتّفق كلّ هذه الأقوال وأشباهها في النقطة نفسِها؛ وهي أن الناس يمتحنون بعضهم ببعض، والامتحان هو غاية مجيء الناس إلى الدنيا، إذ تتمّ غربلتهم حتى يتميّز أصحاب الأرواح الطيبة عن أصحاب الأرواح الخبيثة، ولكي يتميز الماس عن الفحم، ويظهر بوضوح مَن يحمل روحًا شيطانيًّا ومَن يحمل روحًا ملائكيًّا، وهكذا تتحقّق الغاية من خلق الدنيا.
ولو لم يكن هناك مثل هذا الامتحان لما تميزت روح أبي بكر رضي الله عنه الشبيهة بالماس عن روح أبي جهل السوداء سواد الفحم؛ أي لولا هذا الامتحان لما لمعت الحقيقة الأحمدية ولمَا ظهرت ولا انجلت ولا انقلبت إلى شمسٍ تبهر الأعين.
عندما تناول الرسول صلى الله عليه وسلم الناسَ شبّههم بالمعادن “خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ، إِذَا فَقُهُوا”[1]، فالإسلام يتناول الناس ويذيبهم ويشكّلهم مدّةً معيّنةً في بوتقات معيّنة، ثم يوحّدهم مع أرواحهم ليصلوا إلى ذواتهم، أي يُخرج الخاصّيّة الكبرى التي تكمن في ماهيّتهم من القوّة إلى الفعل، وهذه الخاصّيّة هي كون الإنسان مرآةً جامعةً لتجلّي أسماء الله.
ولكن المعادن تحتفظ على الدوام بخصائصها، فالذهب يبقى ذهبًا والفضّة تبقى فضّةً والنحاس يبقى نحاسًا، والفرق هو في تخلّص هذه المعادن من شوائبها لتكون معادن صافيةً ونقية، والمحن والابتلاءات هي عملية تخليص معدن الإنسان وتصفيته مما علِقَ به من الأشياء الغريبة عنه، والوصول بكلّ إنسانٍ إلى أعلى قمّة في استعداداته وقابليّاته.
الثانية: إن الشيطان يقوم بتزيين بعضِ الشرور فيغوي بها أناسًا لا تتوقّع غوايتهم، وقد يوجد بين هؤلاء الذين يصبحون آلةً في يد الشيطان أشخاصٌ ذوو بنيةٍ معنوية عالية المستوى، إنّ تزيين السوء وتقبيحَ الخير قد يبدو عملًا بسيطًا ولكنه عملٌ كسبيّ وتخريبيّ كبيرٌ بحيث يمكن نسبته إلى الشيطان؛ ولهذا أطلق عليه صاحبُ الشريعة اسمَ “المزيِّن”؛ أي الذي يزيِّن السوءَ.
كما نُمتحن من قبل أهواء النفس والشيطان بإثارة شعور المنافسة في الأرواح، حتى إن الشعور بالغبطة الذي يبدو شعورًا بريئًا لأول وهلةٍ ويسوق الناس للتنافس في خدمة الدعوة قد يصبح ابتلاءً إن انقلبَ بعد ذلك إلى شعورٍ بالمنافسة الصِّرْفة.
فمثلًا إن أصبحت جهود شخصٍ ما وسيلةً لهداية الناس أكثر من شخص آخر، فتمخّض عن هذا أنْ حَسدَ الأخيرُ الأوَّلَ أو غبطه؛ فعليه أن يدرك بأنه في امتحانٍ كبير.
ومع أن الله تعالى يقول: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (سُورَةُ الشُّورَى: 42/52)، فإنه يقول في آيةٍ أخرى ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (سُورَةُ القَصَصِ: 28/56)، إذًا فالله تعالى هو الذي يهدي مَن يشاء، إن المرشدَ يدلُّ على السبيل القويم ويجعل منه جادّةً كبيرةً عند اللزوم، ويضيء هذا السبيلَ بمصابيحَ قويّةٍ وكشّافات ضوئيّة كبيرة لكي يُقبِل الناس على هذا الطريق القويم ويبلّغوا الحقّ ولا ينحرفوا عنه، ولكن -في النهاية- الله هو الذي يهب الإيمان للقلوب، وهو “المعنى الحاصل بالمصدر” من الهداية، أما “المعنى المصدري” فهو ما وُكّل لإرادتنا، ولا يوجد له “وجود خارجيٌّ”، أي لا يمكن أن نقول إنه “موجود” فيما يتعلق بالقدرة والإرادة، بل له “وجود علميٌّ نسبيٌّ”.
ومن جملة هذه الامتحانات أن الله يهب لأحدهم فصاحة وقوة بيان بحيث يستطيع هذا الشخص إيضاح حقائق القرآن بأفضل أسلوب وبأجمل بيان، فيحسده بعضهم، ويتحسر قائلًا “لماذا لم أوهب أنا مثل هذه المهارة؟” فهذا أيضًا امتحانٌ من جملة الامتحانات وعاقبته وخيمة.
صحيح أن الله تعالى اصطفى جميع رسله، ولكنه أيضًا فضّلَ بعض هؤلاء الرسل على بعضهم ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/253)، فهذه الآية تثبت ما ذكرناه، فالله تعالى خصَّ بعض رسله بفضائل معينة ورفعهم إلى درجات لا يبلغها ملائكةٌ وأنبياء آخرون، إلّا أن فضيلة النبوة في معناها العام فضيلة لا تدانيها أيّ فضيلة أخرى، وعدم وجود بعض الفضائل الخاصة عند بعض الأنبياء دون الآخرين لا تجرح نبوَّتهم أبدًا.
من الممكن الإتيان بأمثلةٍ أخرى كثيرة حول سؤال لماذا؟ الذي يحمل معنى الشكوى والحسد: لماذا لا أستطيع أنا تقديم خدمة أكثر للدعوة؟ لماذا لا أستطيع القيام بإعطاء مَعُونَاتٍ مادّيّةٍ أكثر؟ لماذا لا يُصغي إليّ خلق أكثر؟… وغير ذلك الآلاف من الأسئلة من هذا القبيل، والحقيقة أن مثل هذه الأسئلة ليست إلّا ضربات موجهة إلى صدرِ وحدةِ الصفّ، والله تعالى يدعو المؤمنين منذ البداية إلى الابتعاد عن جميع الطرق المؤدية إلى النـزاع، والآية الكريمة ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/46) تتناول هذا الموضوع بالتفصيلِ.
إنّ هذه الآيةُ تخاطِب المؤمنين فتوصيهم قائلةً: لا تدخلوا في أي نزاعٍ مادّي أو معنويّ، بل حاولوا الاتحاد حول النقاط المشتركة التي تسمّونها فيما بينكم “خيط الوصال”، ولا تقعوا في نزاعٍ حتى لو كان حول أمرٍ إيجابي، ولا تدَعوا الحسد ولا التنافس ولا الغبطة أن تقودكم إلى النـزاع، وإلّا فشلتم وذهبت قوتكم، إنّ ثمرة العمل الفردي تبقى في مستوى الفرد، أما الأعمال المنفذة في ظلّ وحدة الجماعة فتُكافأ برحمة الله تعالى العامة، وهكذا يكتسب كلُّ فرد ثوابَ جماعةٍ كاملة.
أجل، إن كلّ عبادة فردية تثمر نتيجةً فردية، ولكن في مقابل ذلك فإن العبادة الجماعية والشراكة في رفع الأيدي إلى السماء بالدعاء، ونبض القلوب معًا، والمعاناة الجماعية وطلب الشيء نفسه جماعيًّا؛ يؤدي إلى تنـزّل الرحمة الإلهية الشاملة على الجماعة بأسرها، وهذا ما لا يمكن الوصول إليه فرديًّا، ففي العمل الفردي كلّ ما يستطيعه الفرد هو أن يصبح ربًّا لأسرته، ولكن إن نبضت القلوب جماعةً واستقامت صفوف الجماعة وتساندت اكتسبتْ هذه القوة بُعدًا عظيمًا على مستوى الفرد والمجتمع، ويشعر كلّ فرد ضمن مئات الآلاف من الأفراد الموجودين تحت هذه القبة المتماسكة للجماعة بأنه في حمايتها ورعايتها ويمثل قوة الجماعة المنسوب إليها التي تحميه من القوى الخارجية، فإن انفصل الفرد عن هذه الوحدة وعن هذا الصف وحاول تشكيل ملجإٍ فرديٍّ خاصّ به، زالت تلك القبة الإلهية العريضة عرض القبة السماوية وتحولت إلى مظلّة صغيرةٍ يرفعها الفرد فوق رأسه، ثم تظهر وتتجلّى حقيقة الحديث “كَمَا تَكُونُوا كَذَلِكَ يُؤَمَّرُ عَلَيْكُمْ”[2]، أي سرعان ما تتجرّع الأمة نتائج هذه الحقيقة المؤلمة.
فإن كان المجتمع مجتمعًا صالحًا وعلاقته قويّةٌ مع الخالق سبحانه وتعالى عند ذلك سيحترمنا الآخرون وتتنسمون حينذاك الألطاف اللدنّيّة كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لصديقه أبي بكر رضي الله عنه في الغار؛ ومن ثمّ فإن الله سيكون الثالثَ إن كنا اثنين والرابعَ إنْ كنا ثلاثة، والخامسَ إنْ كنا أربعة، والسادسَ إنْ كنا خمسة، والسابعَ إنْ كنا ستة… إلخ؛ لأن الله تعالى وعد بنصر أوليائه وحمايتهم.
ولكن إن تصرّفنا بشكلٍ منفرد؛ أي حتى لو كنا اثنين ولم نتعاون ولم نتساند كما يجب، فإن الله تعالى سيحرمنا من البركة التي يُنـزلها على الشخصية المعنوية للجماعة أي الشخصية المعنوية الحاصلة من ترابط أفراد المجتمع، أي لن يكون الثالث لنا في هذه الحالة ولن يساعدنا، وهذا يعني أننا نترقّى بمعيته، أي إن الفرد الأول والثاني والثالث… إلخ، يجب أن يكونوا أفرادًا أصحاء ويشكّلوا مجتمعًا صحّيًّا لكي ينصر الله تعالى مثل هذا المجتمع ويأخذه تحت حمايته الخاصّة وتحت عنايته، فيتخلص الفرد من عبء وقاية نفسه بمظلّته الخاصة؛ لأنه يدخل ضمن حمايةٍ وأمن سماوي.
أجل، إن التعايش في جماعة مع الناس عاملٌ فعّالٌ ووسيلةٌ كبيرةٌ للحصول على التوفيق الإلهي، فلو قضى إنسانٌ حياتَه منعزلًا في مكانٍ ما، أو على قِمّة جبل ما، وقضى وقته في الصلاة والصيام، وأنفق كلّ ما في يده على المساكين، وأدّى الحجّ وذرف الدموع على الحجر الأسود، وصلى صلواته في مكة أو في الروضة المطهرة التي أجر الصلاة فيهما يحسب أضعافًا مضاعفة؛ فسيظلّ الأجر والثواب الذي سيناله من الله تعالى في المستوى الفردي.
ولكن ما إن يضع يده مع يد الجماعة ويوسِّع قلبه على قدْرِ الأمة والإنسانية حتى تتنزّل الرحمة الإلهية بقدر هذه السَّعَةِ، والقرآن الكريم يقول وهو يتحدّث عن إبراهيم عليه السلام ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ (سُورَةُ النَّحْلِ: 16/120)، أي إنه نظر إلى إبراهيم عليه السلام وكأنه -وهو فردٌ واحدٌ- أمّة كاملة تصويرًا لهمّته العالية.
فكم يكون لطف الله تعالى وعونه كبيرًا لمجتمع لا يحتوي سوى ذوي الهِمَمِ العالية، ومع أن هِمَمَ المؤمنين تكون عاليةً إلا أن التوفيقَ غالبًا ما يُجانب الناس عند امتحان بعضهم ببعض؛ إذ نرى أن حسابات شخصية صغيرة وبسيطة تفسد النظام العام، بل وتُرجَّح على أسباب الوحدة والاتفاق وجمع الكلمة الذي يوازي بحُرْمَتِهِ حُرْمَةَ الكعبةِ المشرفة، وهذا الأمر يعوق ويحول دون تنزّل العناية الإلهية التي يحتمل مجيئها في كلّ آن.
كان القدماء يقولون “بقدر الكد تُكتسب المعالي”، ومع أن هذا ليس بحديثٍ إلّا أنه مثل جوامع الكلم؛ أي إنّ جميع النجاحات -المادية منها والمعنوية- تكون متناسبةً مع المشقات ومع الجهود المبذولة في سبيلها. أجل، فمن يدري مقدار الألم والمعاناة التي تتحملها البَذرة تحت التربة حتى إبراز رأسها كنبتةٍ فوق التراب، إذ تنشق وتتحمل آلام اختراق التربة وتستعدّ لاستقبال أشعّة الشمس وتتهيّأ لها، فكلّ هذه الجهود والآلام هي آلام الولادة والنضال في سبيل الوجود والانبعاث، لذا فهي مهمّة جدًّا.
كلّما انهمرت علينا نعم الله تعالى وأفضاله زادَ ثِقَلُ مهمّتنا واشتدّت الامتحانات، وعلينا أن ندرك تمامًا أن هذه المرتبة العالية التي خصّنا بها الله تعالى بكرمه لا تعود لفضيلةٍ أو قابليّةٍ شخصية فينا أبدًا، وإنما يجب أن ننظر إليها كَلُطْفٍ إلهيّ ونقيّمها على ذلك، إن وصور الجمال والخير تمرّ بنا دائمًا، وعندما تمرّ تقوم بطَرْقِ أبوابنا؛ لأننا في حاجةٍ إليها أكثر من الآخرين ولا نستطيع أن نكون مظهرًا لهذا الجمال بأشخاصنا، وكلّ هذه الجماليات تنعكس علينا كانعكاس أشعّة الشمس على قطرات المياه.
وعلينا ألا ننسى أن هذا اللطف والكرم الإلهي الذي ينهمر من فوق رؤوسنا وينفذ إلى أعماق كياننا إنما يأتي باسم الجماعة، إذ لا يستطيع أحد أن يدّعي أنه صاحبُ الفضل في هذا.
الثالثة: حبُّ المال والمنفعة المادية من صور الامتحان في حياة الجماعة، والنـزاعاتُ والخصومات الموجودة بين السياسيين تنبع من هذه الناحية ومن هذه الأفكار السلبية والمخرّبة التي تستند إلى النـزاع حول المنافع المادية؛ ذلك لأن هناك أعينًا كثيرة ترنو إلى مناصب معينة، وهناك أصحاب أهواء وشهوات لا يعرفون الشبع يلهثون وراء منافعهم ومصالحهم الشخصية؛ الأمر الذي يؤدّي إلى أن تنقلبَ الوحدة إلى اختلاف، والاتحاد والتعاون إلى تفرقة وخصام، بينما يجب أن تؤدَّى جميع الأعمال وجميع التضحيات لوجه الله تعالى دون انتظار جزاءٍ أو شكورٍ من أحد، ولو تم هذا لاجتاز الكثيرون امتحان المنافع المادّية المؤدّية إلى الشقاق والخصام.
لقد أجبنا بهذا الجواب لأن السؤال كان يدور حول الامتحان الـمَنُوطِ بالوحدة ورصّ الصفوف؛ لأنه لا يمكن تحديد صور وأشكال الامتحانات التي يتعرّض لها الإنسان، ولا يمكن تعدادها هنا واحدة واحدة.
ويسألُ السائلُ عما إذا تعرّض الصحابة الكرام إلى امتحان بعضهم ببعض، لذا فلنقِفْ هنا قليلًا ونقول:
ما كان من الممكن إعفاءُ الصحابة من مثل هذا الامتحان؛ ذلك لأنهم نالوا أعلى المراتب في الحياة المعنوية فكان لزامًا عليهم أن يتعرّضوا إلى أصعب امتحان، ولا سيما أن الاجتهادات العديدة التي ظهرت في العهود التالية حول كيفية إدارة الدولة قد صعّبت من تلك الامتحانات وجعلتها أشدّ وطأة، ولكن مع ثقل الامتحان وقسوته لم ينحرف أيُّ صحابيّ عن التماس طريق الحق، وعندما تبين لبعضهم أنهم لم يكونوا على الحقّ أغمدوا سيوفهم في ظرفٍ لم يكن من السهل أبدًا إغمادها.
لقد أدركت أمُّنا عائشة رضي الله عنها خطأها عندما وقفت أمام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتذكّرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أشار بشكلٍ ضمنيٍّ إلى هذا الأمر قبل انتقاله، فركبت دابّتها ورجعت وهي نادمة أشدّ الندم.[3]
كان الزبير بن العوام رضي الله عنه رجلًا شجاعًا وشهمًا، فلقد أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، وَهَاجَرَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عَمُّهُ يُعَلِّقُهُ فِي حَصِيرٍ، وَيُدَخِّنُ عَلَيهِ بِالنَّارِ، وَيَقُولُ: ارْجِعْ إِلَى الْكُفْرِ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لَا أَكْفُرُ أَبَدًا”[4]، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيرُ بْنُ العَوَّامِ”[5]، ملفتًا الأنظارَ إلى شجاعتِه وشهامته.
ولما دارت الأيام ووجد الزبيرُ نفسه يوم “الجمل” أمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجهًا لوجه حتى اختلفت أعناق دوابهما؛ خَلَا عَلِيٌّ بِالزُّبَيرِ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِالله كَيفَ سَمِعْتَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَأَنْتَ لَاوٍ يَدِي فِي سَقِيفَةِ بَنِي فُلَانٍ: “لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ، ثُمَّ لَيُنْصَرَنَّ عَلَيكَ”؟ قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ، لَا جَرَمَ، لَا أُقَاتِلُكَ”[6]، لقد نـزلَتْ كلماتُ عليّ t-وهو ينقل عن النبيّ r قوله: “وأنت ظالمٌ له”- على مسامع الزبير tكالصاعقة، فلقد نسي الزبيرُt ذلك الموقف بمرور الزمن، إلا أن عليًّا كرّم الله وجهه لما ذكّره تذكّر وأذعن للحقّ وأغمدَ سيفه في أحلكِ الظروف وأشدّ الأوقات،
واحتضنَ عليًّا وطلب منه العفو والصفح، ثم ركب جواده وترك ميدان القتال، وسار ليلتين من البصرة فمرّ على ماءٍ لبني “مجاشع”، فعرفه رجلٌ من تميم، يقال له “ابن جرموز” فقتله، وجاء بسيفه إلى عليّ، فقال: هذا سيف الزبير، قد قتلته، فقال علي: بَشِّرْ قَاتِلَ الزُّبَيرِ بِالنَّارِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَإِنَّ الزُّبَيرَ حَوَارِيِّي”[7]، لم يكن عليٌّ رضي الله عنه يتكلّم من عنده، بل ينقل ما سبق وأن سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، لقد أخذَ عليّ tسيفَ الزبيرt ونظر إليه قائلًا: سيفه لعمري سيفٌ والله لطالما جُلِيَت به الغمرات عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ انفصح هو وبنوه يبكون على الزبير t، ولما قيل له: يا أبا الحسن هذه فاطمة تبكي على الزبير؟ قال: فعلى مَن بعد الزبير إذا لم تبكِ عليه[8].
كما ترون فقد اُمتحن الصحابة ببعضهم أيضًا، ولكنهم عندما اقتتلوا فيما بينهم اقتتلوا في سبيل الحق باجتهادٍ منهم، وعندما تبين لهم أنهم ليسوا على حقٍّ توقّفوا عن القتال وجنحوا للسلم، لم ينتقد أحدٌ منهم القدرَ، ولو قاموا بمثل هذا النقدِ لتضاعفت المصيبة، وكلّما تعرضوا للامتحان من قبل الله تعالى استغلوا فطنتَهم العظيمة التي وهبها الله لهم وحاولوا الوصول إلى الحقّ في ضوء الظلال النورانية القرآنية.
ومن ذلك ما كان بَينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما من مُحَاوَرَةٍ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ” قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الخَبَرَ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَالله يَا رَسُولَ الله لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ”[9].
ولكن ما نريد هنا التأكيد عليه هو تجريم الصحابيَّين لأنفسهما وإعلائهما كلمة الحقّ على ما سواها، فإذا لزم الأمر أن يجتمعا حتى في النار لدخلوها وكأنها الجنة.
لم يقم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ببيعة أبي بكر رضي الله عنه مدة ستة أشهر وكان مَن حوله مِن محبيه يريدون منه المطالبة بالخلافة، وبعد انقضاء ستة أشهر وبُعيد وفاة فاطمة الزهراء رضي الله عنها جاء إلى المسجد النبوي وذكر أمام الحاضرين في المسجد بأن امتناعه عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه مدة ستة أشهر لم يكن مبعثه معارضته له، وأنه جاء لمبايعته رضي الله عنه[10].
يجب أن يكون الإنسان وقافًا عند الحق، وكان الصحابة يطلقون صفة “الوقاف عند الحق” على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يكن يُقدّسُ أو ينحازُ لرأيه الشخصيّ أبدًا، لأنه ما إن يذكر له أحدٌ آيةً أو حديثًا لتصحيح رأيه حتى يرجع عنه حالًا ويلتزم بالحق.
فعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النَّاسَ فَحَمِدَ اللهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: “أَلَا لَا تُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ سَاقَ أَكْثَرَ مِنْ شَيءٍ سَاقَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَو سِيقَ إِلَيهِ إِلَّا جَعَلْتُ فَضْلَ ذَلِكَ فِي بَيتِ الـمَالِ “ثُمَّ نَزَلَ, فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قَرِيبٍ، فقالت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكِتَابُ اللهِ تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَو قَولُكَ؟ قَالَ: “بَلْ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ذَاكَ؟” قَالَتْ: نَهَيتَ النَّاسَ آنِفًا أَنْ يُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/20)، استمع عمر رضي الله عنه بكلّ أدب إليها، والحقيقة أن نصيحته لم تكن خطأً إلّا أن حساسيته وأدبه دفعه إلى قول: “كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ” مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لِلنَّاسِ: “إِنِّي كُنْتُ نَهَيتُكُمْ أَنْ تُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ أَلَا فَلْيَفْعَلْ رَجُلٌ فِي مَالِهِ مَا بَدَا لَهُ”[11].
حاشا لله فما كان عمر رضي الله عنه يجهل دينَه، ولكن كان مفهومُه للحقّ وارتباطُه به عميقًا إلى درجة أنه لم يشأ أمام كلام تلك المرأة سلوك طريق التأويل أو الاعتراض، بل قَبِلَ الحقَّ بكلّ بساطة.
لم ولن تُنجز الأعمال الكبيرة والمهامُ الثقيلة إلا من قِبل أناسٍ على هذا المستوى، وكلّما كنّا قريبين من روح الصحابة اقتربنا أكثر من توفيق الله تعالى لنا.
وفقًا لقَانون السَّبب والنتيجة؛ فإن ثقلًا معينًا في عهدٍ ما يحتاج إلى عضلات قويّة لرفعه، ويحتاج إلى نفس قوة العضلات لرفعه في عهد آخر أيضًا، فالأذرع الضعيفة تعجز عن رفع تلك الأثقال.
فكما نحتاج لِنَـزِنَ كيلو غرام واحد إلى وضع كيلو غرام مثله في الكفة الأخرى من الميزان؛ فكذلك هذه القوانين ثابتة لا تتغير، فكما تحققت الحقائق الكبرى والغايات المثالية على يد أناس على نمط الصحابة رضوان الله عليهم، فهي تحتاج اليوم كذلك إلى مثل هذا النمط لكي تظهر اليوم وتنتصر، أما انتظار انتصار هذه الحقائق وظهورها بوساطة أشخاص ضعفاء لا حول لهم ولا قوة فهو محال التحقيقِ لأنه ضربٌ من ضروب الخيال، إذًا علينا أن نكون كالصحابة في التزام الحقّ وفي الشعور بالوحدة ولمّ الشمل لكي يرى الأعداء أن أبواب الفتنة موصدةٌ أمامهم، ولا بدّ أن يقضي عليهم اليأس بينما نجيشُ نحنُ بالأمل، ولا يتمّ هذا إلّا إذا فرَرْنا من عبادة النفس إلى الالتزام بالحق، فهذا هو الطريق المؤدّي إلى الوحدة وإلى لمّ الشمل.
[1] صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، 10؛ صحيح مسلم، الفضائل، 168.
[2] البيهقي: شعب الإيمان، 9/492.
[3] انظر: صحيح ابن حبان، 15/126.
[4] الطبراني: المعجم الكبير، 1/122؛ الحاكم: المستدرك، 3/406.
[5] صحيح البخاري، الجهاد والسير،41.
[6] مصنف ابن أبي شيبة، 7/545.
[7] الطبراني: المعجم الأوسط، 7/130.
[8] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 18/412-423.
[9] صحيح البخاري، تفسير القرآن، 142.
[10] صحيح البخاري، المغازي، 40.
[11] البيهقي: السنن الكبرى، 7/380.