سؤال: كثيرٌ من الذنوب التي ارتكبناها في الماضي لا تفارقُ أذهانَنا حتى إن هناك ما يحضّ على ارتكابها بعينها كالمناظرِ السيئة التي امتلأت بها شوارعنا، فأصبحنا لا ندري ماذا نفعل إلّا أن ندعو الله تبارك وتعالى أن يكتبنا في عِداد الشهداء ونجد سبيلًا للتطهّر من الذنوب والآثام.
الجواب: هذا ليس سؤالًا، بل طلبًا نابعًا من قلبٍ مُخْلِصٍ… إنّه تعبيرٌ عن همومِ قلب يحثّ الخطى جاهدًا للدنو من مرتبة الصحابة، ولقد اتخذْنا نحنُ قرارًا بالبقاء داخل هذا المجتمع وإن فاضت أسواقه وطُرُقاتُهُ بالذنوب والآثام.
وأستميحكم عذرًا هنا أن أتكلم في هذا الصدد مرة أخرى عن شعورٍ لطالما حدثتكم عنه في مناسبات عدة.
لما كتب الله لي زيارة نبيّه صلى الله عليه وسلم لأوّل مرّة وذهبتُ إلى الروضة المطهّرة كدْتُ أُصابُ بنوبة جنون، حيث بدا لي كما لو أنني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاته، فكنت أتلفّتُ يمينًا وشمالًا على الدوام قائلًا: يا ترى أين هو!؟
وانتابتني في تلك اللحظة حالةٌ روحيّةٌ أستغني معها عن دخول الجنة حتّى وإن دعَتْني هي إليها وفتحَتْ لي أبوابها، إن شئتم فأطلقوا على هذه الحالة: المجنون بحب مدينة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.
لكنني أوصي أصدقائي بأنني لو تركتُ مكاني هذا يومًا وجَاوَرْتُ في المدينة المنورة فما هذا إلّا لحالةٍ روحية فرديّة، فليأخذوا بتلابيبي ويجروني إلى هنا، وإلّا فذنبُ انقطاعي هناك عن الناس في رقبتهم، أحاسبُهم عليه أمام الله.
للمسألة وجهان مختلفان؛ أحدهما هو الشوق الذي لا يُتحمَّل للمدينة المنورة، والآخر هو ضرورة رفعِ النِّيرِ الواقع هنا.
أما الأول فهو شخصيٌّ تمامًا، وأما الثاني فهو خاصّيّةٌ تتعلّق بمصير شعب كامل، والأحرى بمصير العالم الإسلامي بأكمله.
إننا جميعًا نجد أنفُسَنا أمام الاختيار نفسه، فأنتم أيضًا -على الأقل- عاشقون مثلي لذلك المكان، ولكنكم مضطرّون إلى البقاء في بلادكم للعمل والسعي الحثيث؛ لأنّ أمّتنا قد فقدت مكانتها في التوازن العالمي هنا، وأخذَتْ تُمحى هويةُ جيلها، وانتهى كل شيء، فلو أن هناك أملًا سيبزغ نوره من جديد حتى تسير أمَّتُنا إلى الآفاق النيرة فهذا الأمل سيبدأ من هنا، فعلينا إذًا ألا نبرح أو نغادرَ مكاننا، وأن نكابد ونعاني ونضحّي بمشاعرنا وما تحمله من فيوضات ماديّة ومعنوية.
أجل، إنني أعترف أن الآثام كانت تعترض طريقنا، ونتواجه كل لحظة بما يجرح أرواحَنا، ورغم هذا فنوايانا سليمةٌ خالصةٌ، وتزدانُ قلوبنا بفكرةٍ يقينيّة؛ ألا وهي تأييد دين رب العالمين وغرس محبة رسوله صلى الله عليه وسلم في شغاف قلوب جيلنا، والعزم على البقاء حيث كنا، مع الرضا بدايةً بالمصائب والبلايا التي قد نتعرض لها في هذا السبيل؛ ومن ثم فإننا نفضّل البقاء بين الناس وتحمّل مكابرتهم وعنادهم على الإيواء إلى الجبال والانزواء في زاوية للذكر فيها، إننا سنعيش داخل المجتمع، وننسحق تحت جنازيره أحيانًا، ومع ذلك سنظل في داخله ولن نخرجَ عنه.
لأننا مجبرون بل محكومٌ علينا أن نؤدّي وظائفَنا حيث كنّا، وفي المكان الذي أقامنا الله فيه.