سؤال: يقول الله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/41) ولكننا لا نستطيع بذلَ ما بوسعنا، فما السبب في هذا؟
الجواب: هناك آياتٌ عديدة في القرآن الكريم تحضّ على بذل الأموال والأنفس في سبيل الله، وهناك أوامر عديدة صريحة أو غير صريحة في القرآن تهدف إلى تنظيم حياتنا الخاصة وحياتنا العائلية ضمن إطار الإسلام، وإقامة الحياة الدينية في المجتمع الإسلامي، وصبغ الأفراد بشعور الإحسان والأخلاق الإسلامية في البلد الذي نعيش فيه، والحقيقة أنه ما لم تتمّ سيادة مثل هذه الروح وهذا الشعور فلا نبالغ إن قلنا إنه لا يمكن لإنسان أن يكون مسلمًا على الوجه الأكمل، بل ولا أن يظلّ على إسلامه ويعايشه.
إن الحياة الإسلامية تعرّضت -ولا سيما في أيامنا الراهنة- لضربات قوية ضَعْضَعَتْ أُسُسَ المؤسّسات فيها، هذا مع العلم بأن علماء الاجتماع المسلمين متّفقون على أنه لا يمكن أن يكون ثمّة إسلامٌ حقيقيّ إلّا في مجتمعٍ إسلاميٍّ تنطلق فيه الأسُسُ الإسلاميّة بِحُرِّيَّةٍ في إطارٍ ديموقراطي، فإن لم تكن السوق منتظمةً وفق أخلاق التجارة وشعور الإحسان ومفهوم الحقّ والعدل، وإذا لم تكن المؤسّسات التربوية -التي تُحاول رفع الإنسان إلى مستوى الإنسانية- تأخذ بيدك على نفس منوالِ الروح والشعور، ولا تسرع إلى نجدتك ولا تنير الطريق أمامك ولا ترشدك فإنك لا بد أن تتعثّر بعد بضع خطوات أو تضلّ أو تنحرفَ أو تسقطَ وتَضْطَرّ إلى أن تُقدّم تنازلاتٍ كثيرةٍ باسم الأخلاق والفضيلة، والنتيجة هي أنك لن تُوفّق في العيش كمسلمٍ بشكل تام؛ لأن المجتمع سيقوم أحيانًا بقَطع الطريق أمامك، وكذلك الشارع أحيانًا أخرى، والأسوأ من كلّ هذا أن التربيةَ الخاطئة ستقف أمامك كوحشٍ كاسِرٍ وتقطع عليك الطريق، لذا فإن السبيل الوحيد للعيش كمسلمٍ لا يتمّ إلا بتطبيق الوازع الدينيّ بشكلٍ جِدّيّ.
إن الوازع الدينيّ عبارةٌ عن تنبيه وإيقاظ القلوب وتبليغ الدين للناس، وإعلامهم أن الإنسانَ مسافرٌ وضيفٌ في هذه الدنيا، وأن هذه الدنيا ليست إلّا عالَمًا واحدًا من العوالم الكثيرة التي يمرّ بها الإنسان، وأنه كما جاء إلى هذه الدنيا فسيرحل عنها إلى دار القرار. أجل، يجب تذكير الإنسان بهذا وتنمية الوازع الروحيّ والدينيّ في قلبه كي يستطيع القيام بوظيفة الجهاد بالنفس والمال على الوجه الأمثل.
إنّ القلوبَ الظامئة لا تحتاج كثيرَ كلامٍ حيالَ هذا الموضوع، ونستطيع أن نقول إنه يوجد اليوم مِن المسلمين المضحّين الذين يخدمون الإسلام مَن يستحقّ -وهذا ظنّنا فيهم- أن يأخذَ مكانه خلف الصحابة الكرام، نذكر فضل الله هذا ونعمته ونَنْحَنِي بخشوعٍ وخضوعٍ في حضرته وكبريائه، ذلك لأنه في عَهْدِ الجفاف هذا؛ الذي لا تنبت فيه الأرض نبتةً ولا تُمطر السماء فيه قطرةً واحدةً؛ نرى أن الله تعالى قد أحسن مرّةً أخرى بالإسلام والقرآن على هذه القلوب المؤمنة التي تجيش بمشاعر السخاء، ويحدوها الشوق إلى خدمة ديننا وأمتنا، ثم كسرَ القيود التي تُعرقل نهضةَ أمّتنا، وقلبَ هذه الصحراء القاحلة إلى بساتين مزهرة وإلى جنات وارفة الظلال مورقة، فله الحمدُ حمدًا طيّبًا مباركًا يليق بجلاله وعظمته.
وأنا أُحِسُّ أن هذا السؤال الصادر من هذه القلوب المتحمّسة الصادقة التي تعرضت لشدٍّ معنويٍّ كبيرٍ يستتر تحته السؤال الآتي: كيف نستطيع إثارة الرأي العام وعاطفته وإحساسَه لكي يجاهد بماله ونفسه في سبيل خدمة ديننا وأمتنا؟ كيف نستطيع هذا لكي نقطعَ بسرعةٍ أكبر نَفَقَ الزمنِ المكلَّفونَ باجتيازِهِ، ولكي نقطع البراري والصحارى والجبال الشامخة والوديان العميقة المملوءة قيحًا ودمًا قبل أن تُحِسَّ بنا الأعين الخائنة في الداخل وفي الخارج التي وصفها القرأنُ الكريم بـ﴿خَائِنَةَ الأَعْيُنِ﴾ (سُورَةُ غَافِرٍ: 40/19) والتي ترصد وتراقب كلّ ما يهمّ المسلمين، وتحاول عرقلة كلّ شيء إيجابي ومفيد لهم؟ وإلّا فإن المسلمين الذين يسيرون بين عوائق وموانع عديدة إذا ما واجهتهم الأرواح الفاسدة لما استطاعوا قطع طريقٍ يستغرق سنةً واحدةً إلّا في عشر سنوات.
لذا كان لِزامًا على المسلمين تناولُ هذه المسألة وإنجازُها بسرعة أكبر، مثلًا لنفرض أن المسلمين يستطيعون بالإمكانيات المتاحةِ بين أيديهم فتحَ مدرسة واحدة في سنةٍ واحدةٍ لتربية جيلنا وتوجيهه إلى الكمال؛ فإن عليهم أن يضغطوا على أنفسهم قليلًا فيفتحوا مدرستين في سنةٍ واحدة، وهذه ضرورةٌ من ضرورات عملية إحياء الأجيال والعهود القادمة، فإن لم نقم بما يجب القيام به حالًا نحو إنساننا الحاليّ بشكل صحيح فلن نستطيع غدًا القيام بأي شيء حتى لو بقينا محتفظين بقوّتنا كما هي الآن، لأن الموانع أمامنا تتفاقم مع مرور الزمن وستكون في الغد أكبر وأشد وأقوى، ومن الصعبِ تجاوزها والتغلُّبُ عليها آنذاك بإمكانيّاتنا الحالية.
ومن هنا فإنّ الصحابةَ الكرامَ قاموا في ظرفِ ثلاثين سنة بفَتْحِ بلدان واسعة ووضعِها تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة، هذه البلدان كانت تُعادِلُ تقريبًا من ناحيةِ الكمّ والكيف ما تمّ فتحُه من البلدان في عهد كلٍّ من الأمويين والعباسيين والسلاجقة والعثمانيين، وإذا أردتم التأكُّد من هذا فألقوا نظرةً إلى خريطة العالم وسترَون… فمثلُ هذه المساحة الواسعة الشاسعة تم فتحها في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، وهو أمر فريدٌ لا يمكن إيضاحه وتفسيره، والأغربُ من ذلك أنّ الكمّ الأكبرَ من هذا الفتحِ تحقّقَ في عهد الخليفةِ عثمان بن عفان رضي الله عنه… هذا جانب من المسألة.
أما الجانب الآخر فهو أن هذه الفتوحات لم تعتمد على الاستبداد والقهر، فلم يَحْدُثْ وأن أُكْرِهَت القلوبُ أو مُورِسَ الضغطُ على الضمائر، بل فُتِحَت القلوب بتحبيب الإسلام إليها، وجَعْلِ العقولِ متشوِّفةً لتلقّي أوامر الإسلام بكلّ رحابة صدر، لذا فإن الإسلام انتشر انتشارًا كبيرًا وسريعًا في جميع الأماكن التي وصل إليها الصحابة الكرام، وأعقب عهدَ الانتشار هذا عهدُ العلم والعرفان والثقافة، وما تم إنجازه آنذاك لا يزال مثارَ دهشةِ وذُهُولِ العالم، وقد يقول قائل: وما الفائدة من إعجاب العالم بذلك العهد؟ فنقول: إن هذا فضلٌ وحقٌّ كبير، فالحقّ ما شهدت به الأعداء.
أجل، إن الآثار الثقافية والحضاريّة التي تمّ إيصالها إلى نقطةٍ وأُفُقٍ أذهل العالم، والتمثيل الجيد للإسلام كان من أهم أسباب انجذاب الناس إلى الإسلام، فإن كان في هذه البلدان تواصلٌ مع الإسلام الآن؛ فإن الفضل يعود إلى تلك البذور التي ألقتها تلك الأيدي المباركة النورانية المخلصة، وأنا أعتقد أن هذه المسألة مهمّة جدًّا.
فالإنسان لا يستطيعُ منعَ نفسِهِ من الإعجاب الشديد بمدى الإخلاص الذي كان الصحابة رضي الله عنهم يتمتّعون به، فقد أحسنوا ترتيبَ الأزمنة التي يجب فيها التضحية بأموالهم وأنفسهم وأرواحهم، فمثلًا عندما قيل لهم يومًا “يجب عليكم ترك مكة” تركوها دون أن يلتفتوا إلى بكاء أطفالهم وثغاء ضأنهم ومأمأة خرافهم وصياح أنعامهم، لقد كانوا يتمتّعون بروحٍ إبراهيمية وفهمٍ خليلي، لذا تركوا حتى أولادهم وزوجاتهم، فلو قيل لأبي بكر رضي الله عنه: لماذا هاجرت دون أن تلتفت وراءك؟ لقال لهم: إنني بشرٌ من لحمٍ ودمٍ، ولو فعلتُ هذا فلربّما تُؤَثِّرُ فيّ توسّلات عائشة وهي تناديني وتقول: أبتاه!… أبتاه… ولو حدث هذا لقيل لي آنذاك: يا أبا بكر لا يجتمع حبّان في قلبٍ واحد، عند ذلك كنت سأقول: إذًا فخذْ أحدهما!
بمثل هذه الروح لم يتردّدوا قطّ في تنظيم أيامهم وأوقاتهم وزمانهم، وعندما جاء يوم التضحية ضحّوا بكلّ شيء، وقاموا بعملِ ما يجب عليهم على الوجه الصحيح، وقد أنعم الله عليهم فيما بعد من الناحية المادية والمعنوية بأضعاف ما ضحّوا به آنذاك، كان المهاجرون قد تركوا أموالهم وأملاكهم في مكة، ولكن ما إن أقاموا في المدينة المنوّرةِ بضعَ سنوات حتى أعطاهم الله أضعافَ ما تركوا، فمثلًا بعد أن هاجر عثمان رضي الله عنه وترك كلَّ أملاكهِ في مكة اغتنى في المدينة إلى درجة أنه جهز ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وتبرّعَ بها لاستكمال تجهيزات “جيش العسرة” الذي توجّه إلى “تبوك”[1]، وقد يصعب على العقول فَهْمُ كيفَ استطاعَ عثمان رضي الله عنه في تلك المدّة القصيرة تكوين مثل هذه الثروة الضخمة، ولكنه كان مظهرًا لقوله تعالى ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (سُورَةُ الأَنْعَامِ: 6/160)، والحقيقة أن هذا العطاء هو الحدّ الأدنى، فقد يُعطي الله تعالى مائةَ أو ألفَ ضعف. أجل، لقد أنفقوا في الوقت المناسب والمكان المناسب كلّ ما يتوجّبُ عليهم، فحصلوا من الله تعالى على أضعاف ما أَعْطَوا وأنفقوا، ويوجد اليوم من المؤمنين من يقول “أنفقوا في سبيل الله، وأنا أضمن أن الله تعالى سيعوّض عليكم بأضعاف ما أنفقتموه، فإن لم يتحقّق هذا فسأقوم أنا بالبذل بدلًا عنكم”.
ولو كان لدى أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما أيُّ ميلٍ إلى الدنيا لكان في مقدورهما أن يُصبحا فيما بعد من أغنى أغنياء العالم، ولكن لم يشأْ أيٌّ منهما الانحرافَ عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الافتراق عنه، فما كانوا يحصلون عليه بِيَدٍ، كانوا ينفقونه باليد الأخرى ويتصدقون به، وهكذا كان ينفد ما يأتي إليهم، وقد كان هناك من الصحابة الأغنياء مَنْ لا يستطيعُ إحصاء ثروته كعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكأنس بن مالك رضي الله عنه الذي شبّ في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ونال بركةَ دعائه، ففي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن أم سليم رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، أَنَسٌ خَادِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: “اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيتَهُ”[2].
كان أنس رضي الله عنه في العاشرة من عمره عندما دخل في شرفِ خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما أغمض الرسول صلى الله عليه وسلم عينيه عن هذه الدنيا الفانية كان في العشرين من عمره، وأصبح من الأغنياء في عهد الخلفاء، حتى إنه قال مرةً: لقد رأيت أبناء أحفادي، وربما مَن دفنتهم بيدي من أحفادي يتجاوز المائة، أما بالنسبة لثروتي فلا أعرف قدرها، ولا أعلم عدد أغنامي من كثرتها، معنى ذلك أنه كان مظهرًا لفضل الله تعالى عليه.
لقد أعطوا وضحّوا بأرواحهم وأموالهم عندما حان حين العطاء والتضحية، ثم عندما آن الأوان حصلوا على الثمرات الدنيوية والأخروية، فكما تُنقَل البُذور الموجودة في المخزن وتُبذر جميعها في الأرض في موسم الربيع، وعندما يحين الأوان تقوم الأرض بإرجاعها سنابل عديدة، كذلك يجب على الإنسان أن يتحوّل بكلّ كيانه إلى بذرة ويلقي بنفسه إلى التراب، عند ذلك سنرى أن كل بذرة ستنشقّ عن سبع أو عشر سنابل، في كل سنبلةٍ مائةُ حبّة كما جاء في القرآن الكريم، عندئذ سيذهل الجميع من عظيم فضل الله، حتى الزرّاع سيصيبهم الانبهار والدهشة من هذا، بينما يصاب البعض بالغيظ من امتلاء المخازن بكل هذه البركات، وهنا يظهر سرُّ الآية الكريمة ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (سُورَةُ الفَتْحِ: 48/29).
إذًا عليكم أن تتخيّلوا أنفسكم في موسم الربيع الصالحِ للبذار، ثمّ تجودوا بكل أنواع البذل والعطاء، وإياكم أن تتوقّفوا أو تقولوا: “يكفي هذا الإنفاق الذي أنفقته”، إلّا إذا وقف أمامكم من تثقون به وقال لكم: “كلا، يجب ألا تبالغوا مثل هذه المبالغة في الإنفاق”؛ أي لا تنفق كل هذا الإنفاق اليوم، لأنه سيحين في المستقبل أوانُ الإنفاق أيضًا، فلو لم نحسب حساب الإنفاق في المستقبل لقلنا لكم “أنفقوا اليوم كل ما تستطيعون إنفاقه”، وإذا أتينا إلى سؤالٍ مفترَضٍ يقول: “حسنًا! وماذا عن المستقبل؟” قلنا: إن الغدَ في ضمانةِ الله تعالى… فالمناسب لنا هو التحلّي بالروح الخليليّة ليس إلّا؛ أي أن نفعل كما فعل إبراهيم الخليل عليه السلام عندما ترك زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرعٍ ثمّ قَفَلَ راجعًا دون أن ينظر خلفَه، فهذا هو ما يليق بنا، وما سنّه لنا سلفُنا الصالحُ وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في حقّه: “لَو كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي”[3].
هكذا أحرز أبو بكر رضي الله عنه هذه المرتبة الرفيعة، فكما كان إبراهيم عليه السلام خليلَ الرحمن، كذلك كان أبو بكر رضي الله عنه خليلَ رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، فعندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه قائلًا: “مَا أَبْقَيتَ لِأَهْلِكَ؟” قَالَ: أَبْقَيتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ”[4]، هذا هو الجوابُ اللائقُ بمن حازَ مرتبةَ الصديقية، وهذا الجواب من الصديق الأكبر تعبيرٌ عن حُسْنِ تقييمِ زمان الإنفاق.
والذي نفهمه من الآية الكريمة ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/41) هو وجوب تقييم الزمان بهذا التقييم الجيد، ويمكننا أن نقول باطمئنانٍ أن ثمة كثيرين اليوم قد أحسنوا استثمار هذا المعنى السامي.
ولو قام أحدهم بتسجيل صور الكرم والبطولة للمؤمنين الحاليين على غرار ما قام به “الفردوسي” في كتابه “الشاهنامة” -ويعني بالعربيّة “كتاب الملوك” أو “ملحمة الملوك”- المؤلَّف من ستين ألف بيت من الشعر لاحتاج إلى تسطير ستين مليون بيت لكي يوفّي هؤلاء المؤمنين حقّهم في الشهامة والكرم، ندعو الله تعالى أن يُبارك في كرمِ وسخاء هؤلاء المؤمنين ويزيدهم أضعافًا مضاعفة، فنحن الآن نعيش ربيعَ هذا الأمر، والزهورُ متفتّحةٌ حوالينا، أي إن هذا هو الموسم الذي تنتظره القلوب المؤمنة، فعلى مؤمني هذا العصر في كل مكان أن يؤدّوا بحقٍّ الواجبات الملقاة على عواتقهم في سبيل خدمة وطنهم وأمّتهم، لذا فإنهم كلّما حاموا حول الفكرة -التي بَذَرَتْ بذورَها قبلَ ستة أو سبعة عقود تلكَ الروحُ العظيمةُ والقامةُ الرفيعةُ[5]– كلّما ازداد فرحُها في مكانها، وربما قالت: “لقد جاء هؤلاء الشباب إليّ بهدايا الربيع، وأنا أقابلهم الآن بالكلام الذي سبق وأن وعدتهم به قبل سنوات، فأقول: هنيئًا لكم.[6]“
هذا هو الموقف الحالي كما أظنّ، ولا قِبَلَ لي بتصوير سرعة وتيرة مثل هذه الأنشطة الخيرية التي تحمل مستقبلًا مشرقًا لأمتنا، ومدى القبول والإعجاب الذي ستناله مثل هذه التضحية والكرم والشهامة من قِبَلِ ربِّ العالمين ومن قِبَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قِبَلِ العلماء العظام الذين أناروا لنا الطريق وربّوا أناسًا نورانيين في أحلك عهود الظلام، وقدر الفرح والسرور الذي سيسري في عالم الروحانيين، إنني عاجز عن هذا التصوير وأدعه لكم ولقوة تصوركم.
الجانب الآخر من هذه المسألة هو كيف نستطيع أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا، وهذا الجانب مرتبطٌ قبلَ كلِّ شيءٍ بالإيمان والثقة، ذلك لأن المزارعين إن اطمأنّوا ووثقوا بأن البذور التي يبذرونها في باطن الأرض لن تموت وتتفسّخ هناك؛ بل ستنبُت وستُزهر؛ فإنهم لا يتردّدون أبدًا في دسّ كلّ ما يملكون من البذار في التربة، ثم يبدؤون الانتظار، ولو اطمأنّ أصحاب البساتين بأن الفسائل التي يزرعونها سوف تنمو وتبسُقُ فلن يتردّدوا أبدًا في زراعة جميع الفسائل التي يغرسونها دون إهمال أو ترك فسيلة واحدة، والذين يملكون أجهزة تفريخ البيض سيقومون باستعمال هذا البيض في تلك الأجهزة أو يضعونه تحت الدجاج كيلا يفسد، ولكن إن لم تكن ثقةُ هؤلاء الأشخاص بهذا المستوى، وشكّوا بأن بعضَ البذور ستفسُد وبعضَ البيض لن يُفقِّس، أو ظنّوا بأن ذلك الموسم غيرُ صالحٍ لبَذْرِ البذور، فَمِنَ الطبيعي أنهم لن يبذروا كلّ بذورهم، بل يُبقون مقدارًا منها في أيديهم، وسيقومون بكنـز أموالهم ليبقى قسمٌ منها لأحفادهم، لذا لن يتصرّفوا بسخاء وكرمٍ، ولن يشعروا بمثل هذا الشعور في وجدانهم.
من هذا المُنْطَلَقِ نستطيع القول بأن التضحية في سبيل الله مرتبطةٌ بمقدار ثقتنا بالله تعالى وإيماننا به، فلو آمنّا بأنه موجودٌ مثل إيماننا بوجودنا، ولو آمنا بأن أيّ شيءٍ نعمله في سبيله سيرجع إلينا أضعافًا مضاعفة، وأنه سينمو ويزهر ويثمر في العالم الآخر مصداقًا لمقولة “الدنيا مزرعة الآخرة”… لو آمنا بأن الدنيا مزرعة الآخرة وبستانها وحديقتها لما قصّرنا ألبتة في التضحية والبذل.
أجل، فما نقدّمه من عملٍ وتضحيةٍ وكرمٍ وبذلٍ مرتبطٌ بمدى إيماننا وبقوة هذا الإيمان، وما بذله المسلمون حتى الآن من سخاءٍ وكرم يزيد من أَمَلِنَا في أنهم يستطيعون إنجاز أعمال أكبر، وكما تعلمون فإن هناك بشارات من الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم حول المستقبل، فلنسْعَ جميعًا لأن نكون مظهرًا لهذه البشارات حتى يتحدث أهل السماء والملائكة ويقولوا: “يا رسول الله! أهؤلاء هم الذين عنيتَهم؟”. أجل، فكلّما جاش وبذل وسعى خدام الإسلام بما يملكون وكلما زادت شهامتهم وتضحياتهم في هذا السبيل اقتربوا من الهدف المنشود بسرعة أكبر وبصورة أفضل.
[1] انظر: سنن الترمذي، المناقب، 18.
[2] صحيح البخاري، الدعوات، 46؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 141.
[3] صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 1.
[4] سنن أبي داود، الزكاة،41؛ سنن الترمذي، المناقب، 44.
[5] يقصد بهذه الروح العظيمة الأستاذ النُّورْسي.
[6] بديع الزمان سعيد النُّورسي: سيرة ذاتية، 114.