سؤال: كيف نستطيع صيانة أنفسنا من أخطار الحياة و نزوات الشباب ؟
الجواب: إنّ هذه المسألة لتُعتَبَرُ من أهم مشاكل إنساننا الحالي، فنحن في غمار الحياة يرزح معظمنا تحت ضغط عواطف الشباب التي تؤثّر على مشاعرنا السامية، وقد أصبح من الصعوبة بمكانٍ الآن تطبيق الحقائق الإسلاميّة السامية كما أرادَ لها النبيّ r، ولكن مجاهدة النفس والشيطان فيها من الخير ما فيها؛ فكلما زادت الصعوبات وادلهمّت الخطوب كلّما زادَ ثواب العاملين وأجرهم.
أليست قسوةُ الظروف التي أحاطت بنضال أبي عمارة حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه هي التي جعلته أسد الله وسمَتْ به إلى مرتبة سيّد الشهداء؟ ألم يشاهد قلَّةَ عدد المسلمين وكثرةَ عدد الكفار؟ لكنّه ومع ذلك اندفع إلى القتال معتمدًا على قوّة إيمانه ولم يعبأ بالموت، لقد كان ذلك وسيلةً مهمةً للسمو به إلى المقام العلوي وأفق سيد الشهداء.
إن الآثام التي تزعجنا الآن كانت موجودةً أيضًا في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عنهم؛ فالنساء كنّ يَطُفْنَ حول الكعبة عاريات، وكان الخمر والرشوة والميسر والربا ينخر في روح المجتمع ويُنهِكُه، ولكن الصحابة أدبروا عن هذه الفواحشِ متوجّهين إلى الإسلام، كانوا هم أيضًا بشرًا، يحملون مشاعر وغرائز البشر مثلنا؛ لكنَّ تَضْحيتهم بكل أهواء النفس هي التي سمت بهم وجعلتهم أعظم العظماء، لقد هجروا الفواحش جميعها في ذلك العهد واختاروا سلوك حياةٍ طاهرةٍ نيّرة وساروا خلف الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم على الرغم من جميع المخاطر التي كانت تحفّ بهم؛ فاكتسبوا فضائل كبيرة واستحقّوا بذلك أن يكونوا نجوم هداية لمن جاء بعدهم.
وهذه المهالك والمخاطر موجودة اليوم أيضًا؛ لذا فقد دُعي مفكّر القرن العشرين بديع الزمان سعيد النُّورسي الذي كان يدعو الناس في هذا العصر إلى حقائق الإيمان والقرآن في مجلسٍ روحاني بـ”رجل عصر النكبة والهلاك”، ولو نادى الرسول صلى الله عليه وسلم جيلَ هذا القرن لقال: “تعالوا! تعالوا يا جيل المهالك والمخاطر”؛ لأننا إن تفحصنا السوق والشارع والحياةَ الاجتماعية والتجارية والفرد والعائلة والمجتمع والمدرسةَ المكلّفةَ بمساندة كلّ هذه الوحدات الاجتماعية، وتناولنا جميع الهيئات والمؤسسات واحدةً واحدةً، وقمنا بإصدار تقييماتٍ حولها؛ لَكان هناك وصفٌ واحد فقط ينطبق على الجميع وهو وصف “بائس، في حالة يُرثى لها”.
أينما تذهب أو تتجول لا تستطيع الحيلولة دون التلوّث ببعض الآثام، ولا تستطيع أن تعبر في الحياة الاجتماعية من جهة إلى أخرى دون أن تنثلم روحك عدة مرات، ودون أن تهتزّ حياتك القَلْبية، إن العيش اليوم وفقًا للمنهج الإسلامي أصبحَ أصعب من المشي على الجمر وعبور وديان من القيح والصديد، إذًا فنحن جيلُ عهدِ النكبة والهلاك، وأهواء النفس المركّبة في طبيعتنا والإغراءات النفسيّة والجسمانية تترصدُنا كالعقرب لكي تلدغنا، وهذه الأهواء والشهوات تتغذّى وتتقوّى على الدوام من المحيط الفاسد الذي ولدت فيه وترعرعت، ومن المحتمل في كل حين أن يقوم هذا العقرب بلدغِنا وتسميمنا، ومع تقبّلنا لكلّ هذا فإننا نقيّم حالنا وفقًا لقاعدة “الغُنْمِ بالغُرْمِ”، ونجد السلوى في المغانم عن مغارمها، بل نفرح من ناحيةٍ ما؛ لأنَّ الأجرَ والجزاء يكون على قدرِ المصاعب والمصائب والبلاء، فإن كان الصحابة رضوان الله عليهم وُفِّقوا إلى تجاوز تلك الشروط الصعبة، فاستحقّوا أعلى المراتب؛ فإننا نأمل من صاحب الرحمة الإلهية سبحانه وتعالى أن يوفّق المؤمنين الحاليين ويعينهم كي يَصِلوا إلى السعادة نفسها.
لا شكّ أن هناك أخطاءً وذنوبًا ارتكبناها -دون قصدٍ- في هذا الزمن الذي تزاحمت فيه الآثام وسَهُل الدخول فيها والتلطخ بها، ولكن واجبنا هو ملازمة باب وعتبة الرحمة والحضرة الإلهية، والاستمرار والثبات، واسمحوا لي هنا بسرد إحدى ذكرياتي كوسيلة للتعبير عن مشاعري: عندما كنت طفلًا كان لنا كلبٌ يرافقُ أغنامنا ويلازمُ باب بيتنا بهدف الحراسة، كنتُ أعجبُ من إخلاصه وألعب معه وأحتضنه وأُطعمه باستمرار، لا أناقش هنا مدى الصواب في هذا من الناحية الصحّيّة، وإنما أُريدُ نقلَ بعض مشاعري، وذكرياتُ الطفولة هذه كثيرًا ما ترِدُ إلى خاطري فأرفع يديّ بالدعاء إلى ربي وأتضرّع إليه قائلًا: “اللهم كما كنتُ صديقًا لذلك الكلب لإخلاصه ليس إلّا، فاغفر لي أنا القطمير الواقف على بابك، الخاضع لك دون سواك”.
ومن الممكن أن نقولَ الشيءَ نفسه بالنسبة للشخصيّة المعنويّة، فثمة خير يقوم به بإخلاص كل مؤمن حمل على عاتقه مهمّةَ خدمة دينه وأمته رغم كل ما وقع فيه من ذنوبٍ وعثرات، وتقديرًا لهذا لن يطردهم الربّ الكريم سبحانه وتعالى من رحمته.
نحن نقرّ ونعترف بتقصيرنا ونواقصنا، ولكننا في الوقت نفسه نأملُ أن يتجاوز الحقُّ تعالى عن تقصيراتنا بمقتضى رحمته الواسعة التي لا حدودَ لها، واعْترافُنا هذا يشير إلى نَدَمِنَا وتوبتِنا، والله تعالى يقبل الرغبةَ الصادقة في التوبة ولا يردّها.
كان هذا تلخيصًا للواقع، ولنقف الآن قليلًا مع الأمور التي يجب الانتباهُ إليها:
أولًا: يجب السير بكلِّ حذَرٍ على مثل هذه الأرضية الزَّلَقَةِ والخطرة من جميع الأوجه، فكما يتم المشي بكل حذر في الأراضي المزروعة بالألغام أو في مدينة للأعداء، كذلك يجب إبداء الحذر نفسه عند التجول في الأسواق والشوارع اليوم.
ثانيًا: قبل الخروج إلى الشارع يجب الاستعانة بكل ما يصفّي مشاعرنا وأحاسيسنا ويؤثّر على عالمنا العاطفي، قد يكون هذا بالقراءة أو المشاهدة أو الاستماع إلى شيء أو محاسبة عميقة للنفس، أي يجب ألّا نخرج إلى الشارع قبل الدخول في مثل هذا الشدّ المعنوي.
ثالثًا: علينا أن نتجنّب الوحدة، ونتخذ صديقًا يرصدُ تصرفاتنا ويعيننا على عالمنا الروحي، فنُلازمه -إن أمكن- عند خروجنا إلى الشارع.
رابعًا: علينا أن نصحب معنا كتابًا دينيًّا أو مصحفًا أو ما شابه ذلك في رواحنا ومجيئنا وفي الأماكن التي نبقى فيها؛ حتى يعيننا على حياتنا الروحية ويقوم بوظيفة الصيانة والحفظ والتذكير لنا، فهذه المواد تكون سترًا يحجبنا عن الآثام وتكون وسيلةً للمراقبة وللتذكير الدائم، وإنَّ المفعمَ بمشاعر المراقبة الداخلية نادرًا ما يقع في الإثم.
خامسًا: عند اقتراف أي ذنب أو عند الوقوع في أي خطإٍ علينا أن نبادرَ بالندم وإعلان التوبة حالًا؛ لأن أقلّ القلوب حملًا للذنب هو قلب المؤمن، فالأخطاء فيه مؤقَّتة وزائلة، وهي كالغيوم التي تحجبنا عن الشمس فترة قصيرة، لكنّها سرعان ما تمضي وتزول، وكلّما تأخّرت التوبة كلّما اسودّت الأرواح وانفتحت السبل للذنوب والآثام الأخرى مما يُسهل اقترافَها والوقوعَ في شِباكِها، ومن ثم على المرء أن يحول دون حدوث ذلك، وأن يفيق لنفسه، فيسرع بالرجوع إلى رحمة الله تعالى مهما كانت طبيعة وماهية الذنوب والأخطاء التي اقترفها.
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ شَيئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا دَعَاهُ، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 11/114)، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَومِ: يَا نَبِيَّ اللهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: “بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً”[1].
أما صلاة التهجد فهي النور في عالم البرزخ؛ وإن إسراعَ العبد إلى مناجاة ربّ العباد في هذا الوقت الذي يحلو فيه النومُ لَـمِن أكثر العوامل محوًا للسيّئات؛ لأن تضرُّعَ القلب المفعَمِ بالخوف والرجاء له سبحانه وتعالى في منتصف الليل البهيم سيلقى -دون أدنى شكٍّ- قبولًا من الله تعالى، يكفي أن يتمّ هذا التضرّع والدعاء بإخلاصٍ ونيّة صافية، فإذا ما وقفنا بين يدي الله سبحانه وتعالى في الصلاة وأعلنَّا عبوديَّتَنا له بكلِّ خشوعٍ وخنوعٍ استطعنا أن نستجلب رحمته سبحانه وتعالى حتى يَغفر لنا ما نقترفه من زلّاتٍ وأخطاء بين الصلاة والصلاة، علاوةً على أننا يجبُ علينا السعيُّ إلى الرضا الإلهيّ عن طريق النوافل والتهجّد.
أجل، ففي نفس الوقت الذي تُحاصِرنا فيه الآثام من كلّ حدبٍ وصوب فإننا نُحاطُ بإيجابيّاتٍ تستطيعُ إزالةَ مخلّفات تلك السلبيّات، وحالُنا الآن التي تُشبه حال الصحابة تمنحُنا فرصة الاقتراب من منزلتهم ومكانتهم، صحيح أنهم كانوا يحسّون بأنفاس الوحي، إلّا أننا إن أمكننا التخلّص من قيود الزمان واستطعنا أخذَ أماكننا في الصف المحمدي خلفهم فسنضمن بذلك خَلاصنا، ندعو الله تعالى ألّا يخيب رجاءنا… آمين.
[1] صحيح مسلم، التوبة، 42.