سؤال: كيف نتصرف تجاه إخوتنا المسلمين الذين تهاونوا في خدمة دينهم وأمتهم، وفقدوا نشاطهم وانفعالهم في القيام بأفعال الخير؟
الجواب: هناك إخوة لنا تهاونوا في خدمة دينهم وأمّتهم لأسبابٍ شتّى، ويمكن أن يقع هذا الأمر في كلّ وقت، ولكنهم مع ذلك يبقون إخوة مؤمنين بالنسبة لنا، ولهم أيضًا كلّ ما يستحقّه المؤمن من منـزلةٍ واحترام حسب تعاليم القرآن والسنة، إذًا فالمعيار هنا -كما في كلّ أمرٍ- هو القرآن والسنة، فليس لنا أبدًا أن نغتابهم، لأن الغيبة حرام، وأكلٌ من لحم الأخ ميتًا، أي تستوي إهانتك له قولًا أو فعلًا وسلْقَكَ له في قِدرٍ ثم أكلك من لحمه، ولكن هناك حالات تجوز فيها الغيبة، وكتب الفقه تشرحها بالتفصيل، إلا أنني لا أوافق على الاقتراب من تلك الحالات، فالقليل من الناس مَن يستطيع التصرف بتوازن معها؛ فليس من الصحيح قيام أيّ شخصٍ باستعمال ذلك الحقّ والاقتراب من تلك الحدود.
هذه ناحيةٌ من نواحي هذه المسألة، أما الناحية الأخرى، فهي أنّ ما نقوله بحقّ ذلك الأخ سيصل إلى مسامعه في يوم من الأيام، فيكون هذا سببًا في ابتعاده عنا أكثر فأكثر، ولكوننا نحن المتسببين في هذا فالمسؤولية تعود علينا، وليس هذا بالإثم الهين؛ لأنّه ما من شخصٍ يملك صلاحيةً وحقًّا في إبعادِ وحرمان أيّ فرد من هذه الدعوة والخدمة الإيمانية المباركة، وقد لا يكتفي هذا الشخص بالابتعاد عن الدعوة التي كان في السابق يفديها بروحه، بل ينقلب عدوًّا لها، ولـما كانت الخصومة للدعوة الحقّة ذنبًا كبيرًا وعظيمًا فإنّ المتسبب في مثل هذه الخصومة سينال الإثم نفسه.
كثيرًا ما يقوم بعضُ الناس بنقد الدعوة أو الخدمة التي لا يكونون ضمن دائرتها ويستهينون بها، فإذا أخذنا هذا بنظر الاعتبار فإن مِن الحكمة توقّع جميع التصرفات من الذين ابتعدوا عن الجماعة على نسبة ابتعادهم، فذلك هو قدَرهم المرّ وحظّهم التعس، وهذه نتيجةٌ مؤلمة تدعو إلى الرثاء والشفقة، ووظيفتنا هي أن نتعامل معهم المعاملة التي كنا نودّ أن يعاملنا الآخرون بها لو كنا في موقفهم، ثمّ لا نستكثر عليهم مثل هذه المعاملة.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء نفسه، إذْ لم يقلْ شيئًا ضدّ أي شخص وقع في الخطإ أو الزلل أو قلّ جهده في ذلك العهد، ولم يغتبْ أشخاصًا كان يعرف نفاقهم أمثال عبد الله بن أُبيّ بن سلول الذي كان يتظاهر بالإسلام، ولم يقل ضدّه كلمةً واحدة تُشمّ منها رائحة الغيبة مع أن الصحابة رضوان الله عليهم طلبوا منه قتله بعد أن ألصق فريةً ملعونةً بسيدةٍ طاهرةٍ عاليةِ المقام مثل أُمّنا عائشة رضي الله عنها… بل قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لهم: “دَعُوهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ”[1]، ولو قمتم بتدقيق جميع كتب الأحاديث لوجدتم أن سيد العالمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل في حقّ أيِّ مؤمنٍ أيَّ كلمةٍ قد تزعجه أو تنال منه، فإن استطعتم العثورَ على مثل هذه الكلمة فإنني سأتخلى عن كل ما قلتُه سابقًا أو ما سأقوله مستقبلًا، كلا لن تجد كلمةً واحدة في هذا الخصوص، وهذا هو المقياس الذي يجب أن يكون؛ لأنه مقياسٌ لن يضلّ، فعلينا ألّا نغتاب إخواننا حتى ولو بكلمةٍ واحدة.
وإذا نظرنا إلى سيرة الرجال القدوة في الخدمة الإيمانية والقرآنية مثل الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورسي سنرى أنه عندما ابتعد عنه بعضُ تلاميذه لفترةٍ من الزمن ثم عادوا ورجعوا إليه مدحَهم وركّز على رجوعهم فقط وأثْنى على ما هم عليه أثناء الرجوع، وهذا هو ما بقيَ في ذاكرتنا عنهم، بقيَ في ذاكرتنا أنهم رجعوا، ولكن كان من الطبيعي أن هذا الرجوع سبقه فراق وبُعدٌ ولكن ذلك الزعيم الكبير الذي كان دقيقًا جدًّا في جميع كلامه وتصريحاته ركّز فقط على رجوعهم، ولم يكتب سطرًا واحدًا عن مفارقتهم وابتعادهم، ومع أن الكثيرَ في عهده افترَوا عليه وهاجموه، إلا أنه لم يقل كلمة واحدة صريحة تُفيد الغيبة ضدّ أحدٍ منهم ولم يذكر بصراحةٍ اسمَ أحدٍ منهم، لأنه عدّ هؤلاء الأشخاص إخوانًا له من جهة الإيمان ولم يقابل تهجّمهم عليه بكلمةٍ واحدة، فالإيمان والوقوف ضد الكفر واستحقاقُ الجنة في النهاية ليس من الأمور التي يمكن التهوين من شأنها؛ لذا فكما نهرب من الأفاعي والثعابين ونبتعد عنها، علينا كذلك أن نتجنّب ونحذر من اغتياب إخواننا.
من الممكن النظرُ إلى المسألة من زاويةٍ أخرى؛ فالعقوبات التي تُطبق في الظروف الاعتيادية في الإسلام لا تُطبق في جبهة القتال، أي إنّ مَن يسرق أو يزني أو يفتري في جبهة القتال لا تُطبّق عليه عقوبات هذه الأفعال، والحكمة من هذا الحيلولة دون لجوء المذنب -وهو يحاول إنقاذ نفسه من العقاب- إلى صفوف الأعداء، لكن ماذا يحدث إن التجأ إلى الجبهة المعادية؟… أما هو فيقع في خسران أبَدي، وأما نحن فنكسب عدوًّا يعرف جميع أسرارنا، وكِلا الأمرَين مرٌّ وخسارة لنا، لذا لا بدّ من ضبط المسألة للضرورة القصوى، فكان من الضروري التعامل مع هؤلاء بمنتهى الحكمة وبأجمل أسلوب.
مثلًا قد يبتعد أحدُ إخواننا عن الخدمة الإيمانية والقرآنية بسبب الخوف أو بسبب الرغبة في منصبٍ ما، فيخرج عن دائرتِنا حَيطةً وحَذَرًا، وحمادى القول له هنا: إننا نتفهّم دواعيه وأنه تصرّف كما يجب، ونعمَ ما فعل، فلا يشغلنّ باله بأنه وقع في الذنب بصنيعه هذا، ويجب علينا أن نجعله يصدّق ما نقول؛ حتى لا نسد المنافذ إزاءه، فقد تتجدّد علاقاتنا معه بعد سنوات، وقد يفهم الحقيقة فيما بعد ويرجع إلينا، فإن اعترف بأنه كان على خطإ وأننا كنا على صواب، عندئذ نتعامل بكلّ مروءة قائلين “أنت محقٌّ الآن أيضًا”.
ولا ننسى أبدًا أن مَن يغتبْ الآخرين يفقد ثقةَ المستمعين له، والجماعة التي تهتزّ فيها الثقة بين أفرادها لن تستطيع أبدًا حملَ أمانة الحقّ الثقيلة.
ثم قد يوجد أشخاصٌ تربطهم بمن تتمّ غيبته علاقاتٌ من قبيل القرابة أو المودّة أو الفكر المشترك، فتُثيرُ هذه الغيبة في أنفسهم حساسيةً لا تؤدّي بدورها إلا إلى خسارة في جبهتنا.
فقد يؤذينا باغتيابه لنا، ولكن علينا ألا نقابله بالمثل، وأن نحافظ على علاقةِ التوازن فيما بيننا؛ إذ يجب أن نكون بعيدين جدًّا عن الانتقام لكرامتنا، أو التورّط في مسائل شخصية، وعلينا أن نضحّي بكلّ شيء في سبيل دعوتنا السامية، ففي الوقت الذي يُنال فيه من كرامة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وتُزيّف فيه حقائق القضايا الإسلامية؛ لا نستطيع جعل القضايا الخاصة بنا موضوعَ الساعة، بل لا نستطيع أن نجد الوقت حتى لمجرّد التفكير في ذلك. إن أفضل معونةٍ يمكن تقديمُها اليوم لأيّ إنسانٍ هي المعونة المقدّمة لإنقاذ حياته الدينية، ووظيفتنا نحن هي الإسراع لنجدة إخوتنا وإعانتهم.
[1] صحيح البخاري، تفسير سورة المنافقين، 5.