Reader Mode

سؤال: نتطلّع في خِدمتنا إلى إحراز غايةٍ معيّنةٍ، فإن أخفقنا في تحقيقها ينتابنا حزنٌ بالغٌ يؤثّر على وجهتنا الاجتماعية، فهل بإمكاننا الحيلولةُ دون وقوعِ هذا الأمر؟

الجواب: إن صديقَنا السائلَ يُترجم بسؤاله هذا لأمرٍ قد يعتري الكثيرين، ويُعَبِّرُ بلسانٍ صادقٍ عن حادثةٍ ألـمّت به وما خلّفته تلك الحادثة من تأثيرٍ سلبيٍّ.

يتطرّق القرآن الكريم إلى هذه المسألة في قوله: ﴿أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾ (سُورَةُ النَّجْمِ: 53/24)، أي يجب على الإنسان أن يتخلّى عن الطمع، فللّه الآخرة والأولى، فأحيانًا تُفضِي بعضُ الخسارات هنا إلى مكاسبَ هناك، فالله عز وجل هو من يأخذ هنا ويمنح هناك، وأما معرفة ما سيمنحه لنا في الآخرة وما سيهيّؤه لنا من مفاجآت مقابل ما أخذه منا في الدنيا فمتعذّرٌ علينا.

وفي سورة الضحى يخاطِبُ ربنا تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى﴾ (سُورَةُ الضُّحَى: 93/4)، ومن ثم فإن كانت الآخرة هي أَولى من الأُولى فَلِمَ الحزنُ على ما خسرناه في الدنيا!؟ أليس علينا أن نفكّر في مكسب الغد الأُخْرَويّ ونُسرّ ونحمد الله تعالى عليه!؟

وبإلقاءِ نَظْرَةِ تدقيقٍ فاحصة على حياتنا العامّة نجدُ أنّ الجميع يتعرّضُ في حياته إلى كثيرٍ من الحوادث المؤيدةِ لما قلناه آنفًا، فبينما كنا نتجرّع الآلام والأحزان في البداية على ما فاتنا رأينا فيما بعد كيف كانت هذه الخسارة إحسانًا ولطفًا إلهيًّا من الله تعالى، فصَمَتْنَا مشدوهين مذهولين إزاء هذا الوضع.

أحيانًا يسوقنا الله تعالى جبرًا إلى مكان ما، وربما يكون هذا السَّوقُ وهجران الأهل والأصدقاء صعبًا على نفوسنا في البداية، إلّا أن الله تعالى يجري على أيدينا من الفتوحات ما لو اطلعنا عليه في بداية الأمر لما شعرنا بأيّ حرج، بل وهرولنا إلى ذلك المكان زاحفين حتى.

وأرى أنّ تشخيص هذه المسألة فَضْلَةٌ؛ لأنني أعلم أن عديدًا من الوقائع التي حدثت لكم في الماضي قد تبادرت إلى أذهانكم، وتشخّصت في مخيلتكم الآن وأنا أسوقُ هذه الأفكار.

علينا أن نرضى بما أجراه الله وقدّرَهُ، انطلاقًا من الحكمة القائلة: “الخيرُ فيما اختاره الله”، وهذا القول ترجمةٌ لرضًا يحمل في طياته كثيرًا من معاني التبعيّة والعبوديّة والإخلاص.

وجاء في الدعاء الذي علمنا إيّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصانا بأن نقرأه صباح مساء: “رَضِينَا بِالله رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا”[1].

 فإن كنا راضين عن هذا كلِّه، فلنُسَلِّم بما يرضاه هو، يعني: ينبغي لنا أن نسلّم له وبما يرضاه بكل ذاتيّتنا، وبهذا العمل ربما نخسر أشياء هنا، ولكن نكسب في الوقت ذاته أشياء أكثر هناك، فليترفّقْ صاحب السؤال بنفسه أيضًا.

هناك أشياء كنّا نتمنّى وقوعَها في بداية الأمر، ثم فرحنا في المستقبل لعدم وقوعها؛ لأن ما قضى الله به كان أفضل ممّا كنا نتمناه من قَبِيل: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/19)، وتبيّن لنا أنّ المنعَ أحيانًا يكون هو عين العطاء، فليس الأفضل هو ما نرغبه أو نتمناه، ولكن الأفضل هو ما أراده الله تعالى؛ يعني مشيئة ربنا، وهذا هو السرّ الكامن في روح العبودية، علاوة على ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/26)، فكم من أعزّاء أمسِ أصبحوا بؤساءَ وأذلاءَ اليوم، وكم من أذلاء وبؤساء أمسِ أصبحوا سلاطين اليوم.

يقول تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا & وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ (سُورَةُ الْمَعَارِجِ: 70/6-7)، إنه تعالى يرى أمورًا ويكشف لنا عن ماهيتها في المستقبل، ولو اطَّلَعنا اليوم على ماهيّاتها المستقبليّة لتحوّلَتْ رغباتنا، وتغيّرت مجريات حياتنا فورًا، لذا ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا﴾ (سُورَةُ الْمَعَارِجِ: 70/5)، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/129)، لن ينفعك في الدنيا والآخرة سوى نيل رضا الله تبارك وتعالى، فابحث عنه واجتهِدْ في تحقيقه، فإذا وجدته فاسجد لله واحمده طوال حياتك.

[1] سنن أبي داود، الأدب، 110.

فهرس الكتاب