سؤال: هل تجوز الاستفادة الشخصية من وسائل الإرشاد والتبليغ مع أن الآية الكريمة تضع قاعدة الاستغناء: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ﴾؟
الجواب: هناك خمسة أنبياء كرام قالوا لقومهم ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ﴾ وهم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط عليهم السلام، وفي مواضع أخرى يعبر إبراهيم وموسى عليهما السلام عن هذا المعنى أيضًا، ولكن هذا التعبير أي ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ﴾ وارد في حقّ الأنبياء الخمسة المذكورين أعلاه، كما عبر الرجل الصالح “حبيب النجار” عن هذا المعنى في سورة “يس” عندما قال: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ $ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (سُورَةُ يس: 36/20-21). ويعبر نوح عليه السلام عن هذا المعنى أيضًا في موضع أخر ولكن بكلمات أخرى، أي إن الأنبياء العظام عليهم السلام لا يسألون الناس أيّ أجر مقابل قيامهم بوظيفتهم في الدعوة إلى الله ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/109)، إذًا فهذا عهدٌ أعطاه كل نبي لله تعالى بألّا يسألوا الناس -مقابل أدائهم لوظيفة النبوة- أيَّ أجرٍ أو نفعٍ.
وعلى كل مَنْ أَخَذَ على عاتقه مهمّة التبليغ ونشرِ الحقّ الاقتداءُ بالأنبياء العظام، وعلى كلّ مَن يقوم بالخِدمة من أجل الله سائحًا في القُرى والبُلْدان أن يترفّع بنفسه عن قَبول أيِّ أجرٍ أو منفعةٍ مقابلَ خدماته في نشر الحقّ والحقيقة؛ لأن تأثير كلامِهِ على الناس في يدِ الله تعالى، وقد ربطَ الله تعالى تأثيرَ كلام هؤلاء بنسبة إخلاصهم وصِدقهم وإيثارهم لغيرهم وعدم انتظارهم أيّ شيء مقابل أدائهم لوظيفة الإرشاد، لذا كان كلام الأنبياء العظام والأصفياء مؤثرًا، فإذا كان الكلام لا يؤثِّرُ كثيرًا في أيامنا الحالية فلأنه لم يَحُزْ على بعض الشروط الضرورية للتأثير.
أجل، فالله تعالى لا يجعل لكلام الذين يريدون تحصيلَ الأجر في الدنيا أيَّ تأثيرٍ أو قبولٍ في النفوس، وهذا من الأهمّية بمكان، إلى جانبِ أن الذين يقومون بوظيفة الإرشاد والدعوة عليهم أن يقتدوا بالأنبياء العظام فَيَرْبَــؤُوا بأنفسهم عن أيِّ أجرٍ دنيويٍّ مقابلَ إرشادهم ونَشْرِهِم الحقَّ، وهذا يجنّبهم التعرّض لانتقادات أهل الدنيا، لأن أهل الدنيا سيقولون “إن هؤلاء يقومون بنشر الحقّ، ولكنهم يتمتّعون بثمرات عملهم هذا في الوقت نفسه ويؤمّنون عيشهم بهذا الطريق”، ألا ترون أن قارئ الموالد النبوية ينشدُ المدائحَ النبويّة ويعظّم الله تعالى بكلماته، ومع ذلك يتعرّض للنقد وللغمز واللّمز؟… وما ذاك إلا لأنه يتحصل على الأجرة مقابل ذلك، وكأنه يقول “لقد مدحتُ الله تعالى… إذًا أعطني مالًا”، لذا فلا يؤثّر كلامه ولا مدائحه في ضمير الشعب، وما دامت النية كسبَ المال فلن يكون له أي تأثير، ولكنك ترى في جانب آخر واعظًا في مسجد أو زاوية ما، يبتغي وجه الله فقط، ذا صوت ضعيف ولكنه يؤثر في سامعيه تأثيرًا بيّنًا، فتأثيرُه متوقِّفٌ على مدى استغنائِهِ عن الناس عند قيامه بنشر الحقّ.
فيا ليتَ شِعري كم يتمنى القلبُ ألّا يلتفتَ إلى الدنيا ومتاعِها القائمونَ بمهمَّةِ الدعوة إلى الله وخدمة الإسلام والقرآن، والذين يسعون إلى أن يجعلوا من هذه المهمة طريقًا يوصلهم إلى مرضاة الله، والقدسيون الصنّاع الحقيقيون للمستقبل، والمثقفون والمباركون الذين يعشقون النور، وأن يحافظوا على أنفسهم ويصونوها من كل دَنَسٍ ومن كلّ شائبة وأن يكون الاستغناء عن الناس شعارهم، وألّا يطلبوا أجرًا من أحد مقابل خدمتهم في نشرِ الحق، وأن يكتفوا بالكفاف، وألّا يتركوا عندما يرحلون عن الدنيا دارًا ولا مالًا ويمكننا أن نقول جازمين: إنّه لا أحدَ من العظماء على مستوى العالم حتى يومنا هذا كان يملك بيتًا أو متاعًا دنيويًّا.
عندما تدلف إلى الروضة الشريفة في المدينة المنورة تجد بابًا يدعى بابَ عمر، فأين البيت الذي بقي من عمر وما أدراك ما عمر!؟ وهو من كان على رأس الدولة الإسلامية، وهو من وَطِئتْ حوافرُ خيلِ جيشِهِ شواطئَ بحر آرال، وفتح البلادَ ودوّخَ العباد، فليحذرِ الدعاة من تضخيم ثرواتهم وتكبيرِ ترِكاتهم، ولا يحرصوا على اقتناء الدُّورِ والأموالِ والأملاكِ، بل عليهم أن يعيشوا مستغنين عن الناس، ولقد رأينا في عصرِنا الحاليِّ أحدَ الدعاة الذين تجشّموا الصعوبات في سباق خدمة ديننا وأمتنا عندما توفّيَ لم يجدوا في مِحْفَظَتِهِ سوى خمسٍ وعشرين قطعة نقودٍ من فئة خمسٍ وعشرين قرشًا… فما أحسنه من مثال، إذ عَلَّمَ الأصدقاء والأعداء، وأكّدَ للجميعِ أنَّ خِدْمَةَ الإسلام ليس وراءها طمعٌ في أيِّ عَرَضٍ من أعراض الدنيا.
أجل، إن على الدُّعاة أن يؤمّنوا قوتَ عيالهم كيلا يُلجِئونهم إلى السؤال، وأن يعلّموهم ليكونوا أصحابَ مهنةٍ أو وظيفة. أجل، لا بد لمن يُبلِّغون الإسلام ألّا ينشدوا حقَّ الانتفاع مقابل ذلك، وألّا يبحثوا عن رغباتهم الشخصية، ليس هذا فقط؛ بل عليهم أن يضحّوا حتى بالفيوضات المادية والمعنوية لكي يحافظوا على الثقة بهم، عليهم ألّا يهتموا بحياتهم الشخصية، بل بإحياء النفوس، فإن فعلوا ذلك لم تستطع الدنيا ولا إغراءاتها أن تنفذ إلى حياتهم ولا إلى خيالهم ولو للحظة عابرة، وإلّا فقدوا الثروة الحقيقية (وهي ثقةُ الناس بهم والصفاءُ والنقاء) التي اكتسبوها، فلا يفلحوا بعد ذلك أبدًا، والذين يركضون وراء الدنيا وهم يسيرون في سبيل تحصيل مرضاة الله تعالى ستكون عاقبتهم وخيمةً، وسينالُ حتى عيالهم وأحفادهم نصيبًا من هذه العاقبة، وعندها يتألّمون ويتأوّهون.
على الدعاة إلى الله أن يعيشوا حياةً ملؤُها الإخلاص والاستغناء عن الناس بحيث يشهد الجميع حتى سكان الملإ الأعلى لهم بالإخلاص ويقولوا “هؤلاء هم المخلصون”، فمن لم ينجح في امتحان الدنيا سيرسُب حتمًا في الآخرة، ومن رزح تحت ثقل الدنيا تعوقه العقباتُ الكؤود التي أمامه، أما من تغلّبوا على الدنيا فكانوا دائمًا من بين الذين تجاوزوا دنياهم وأنفسهم، فكم من بطلٍ لم يخلف وراءه تَرِكةً سوى جوادٍ وسيفٍ ورمحٍ، وعندما حضرت الوفاة “خالد بن الوليد” رضي الله عنه- وهو الذي قضى على إمبراطوريتين عظيمتين- قال: “لم أُخَلِّفْ ورائي سوى جوادي وسيفي”، والحقيقة أنه يصعب فهم هؤلاء، لذا لا يملك الإنسان نفسَه من القول لمثل هؤلاء “قل لي بالله عليك أأنت ملَك أم صوفي أم درويش؟! قل لي مَن أنت؟”. أجل، إن رجلًا مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي حوّلَ إمبراطوريَّتي فارس والروم إلى أثرٍ بعد عين لم يُخَلِّفْ وراءه ترِكَةً سوى جواد وسيف، ولكنه يعيش في قلوبنا إلى الآن، وسيبقى كذلك حتى يوم القيامة.
وحُمادى القول: إن الدعوة إلى الله مرتبطةٌ مع صفة الاستغناء عن الناس ارتباطًا وثيقًا لا انفصام له، لذا فعلى الدعاة المخلصين اليوم الذين ترفّعوا عن حُطامِ الدنيا ومتاعِها أن يُفكِّروا في نصرة القرآن الذي بقي وحيدًا دون نصير منذ ثلاثة قرون، وفي روحانية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ينتظر جيل الفجر الجديد، وأن يأخذ هذا التفكير بمجامع قلوبهم إلى أن يملأها فلا يُبقي فيها مكانًا لأيّ شيءٍ آخر، إن الدنيا تنتظر اليوم عهدًا جديدًا، والذين يمثلون دعوة الإسلام والقرآن الآن يُهَدهِدون بِتَرنيمة انبعاثٍ جديدة، وما ذكرناه حتى الآن هو صفةٌ واحدةٌ فقط من صِفاتِ هؤلاء.
والجانب الآخر من هذه المسألة هو: أنّ القائمين بخدمة الإسلام والقرآن عليهم ألّا يربطوا معيشتهم بأمور هذه الخدمة، وإن هذه الأمّة أمة غيورة، فلن تدع العاملين المخلصين وحدَهم، بل تعاونهم وتساعدهم، ولكن على العاملين أن يكونوا مستغنين وألّا يطلبوا شيئًا، ولكن لا بأس من قيامهم بأخذ ما يكفي لإقامة الأَوَدِ، وأنا أستند في هذا إلى قوله تعالى: ﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 9/60)، فالعامل في سبيل خدمة المسلمين والذي يجمع الضرائب والزكاة لصالح المسلمين له الحقّ في الاستفادة منها وإن كان غنيًّا، لذا لا أرى هنا أيَّ محظورٍ عند قيامهم بأخذ ما يكفي لمعيشتهم، ولكن أُكَرّرُ وأقول إن الأساسَ عند جنود الخدمة هو الاستغناء وعدم مدّ أيديهم إلى الناس أو انتظار شيء منهم، وهذه السِّمةُ من الصفات المهمة لهؤلاء الأبطال الذين يريدون التهيئة لغدٍ مشرق للإنسانية.