مقدمة المترجم للكتاب
يا غماماً يجوب شرقاً وغرباً
هاطلٌ غَيثُه فحيث يُصيبُ
باذلاً خيرَه فما مِن مَلامٍ
كيفما سابقَ الجديبَ الخصيبُ
المترجم: عوني عمر لطفي أوغلو
تقديم
إذ أقدم هذا الكتاب للعالم الجليل محمد فتح الله گولن تستعصي الكلمات عن التعبير عن هياج مشاعري وكوامن أحاسيسي. فعندما عهد إليّ بـهذا العمل، اضطرم فيّ القلق والضيق خشية العجز عن الإيفاء بقول يليق حقا بكتاب أستاذنا المبجل. لذلك، أرجوكم أن تحملوا التشتت والطوف في السطح على عجزي واضطراب عاطفتي. فإن وجدتم فيه شيئاً من الخير والجمال فهو راجع إلى انعكاس أنوار الكتاب والأستاذ على كلماتي.
“ونحن نقيم صرح الروح” مقالات رئيسية منشورة في مجلة الأمل الجديد التركية، اختيرت وجمعت في هذا الكتاب. وإن السرور والبشرى لعظيمةٌ في جمع هذه المقالات التي كنت أترقبها -مثلما الكثير من قراء المجلة- بصبر ولهف. لقد كانت فواصل الزمن بين المقالة والأخرى مدداً متفاوتة. لكن المحور الفكري لها واحد وثابت لم يتبدل. فهي تدور حوله وترفده وتغذيه. فليس الكتاب مقالات مبعثرة جمعت بين دفتين، بل سلسلة منضودة بتخطيط متقدم، ومكتوبة بتنسيق فكري هادف، ترسم حدود الإحياء والانبعاث في الفكر والدعوة.
ولا يغيب عن متقصي آثار الشيخ فتح الله كولن وعوالم عقله، الثبات والتناسق في جوهر أفكاره وعدم تناقضها أو تخالفها. بل يشهد تكاملها مع بعضها وتساندها وسيرها في طريق رئيس، شوطا بعد شوط.
ولقد تكاثرت آثاره، فهي مدرسة متكاملة، وتكثفت على سمات وفي محاور مثل التزعزع والتخريب الذي يعيش فيه العالم الإسلامي عامة، وإنسان هذا الوطن خاصة، منذ ثلاثة قرون، وغياب الأنموذج الحقيقي للإسلام وأسـباب الغياب، والانبعاث الجديد في العالم الإسلامي، وحضور الإسلام في المستوى العالمي كرّةً أخرى، والمحركات والخصال الأساسية للجيل الذي سيحقق هذا الحضور. فمن هذه الزاوية، يشبه ما دبجه قلم أستاذنا الفاضل مقطوعة سيمفونية متكاملة ذات أصوات شجية ومنظومة. وإني أرى في الكتاب مجهوداً جديداً للمؤلف، محدّداً ومنظماً ومحيطاً، يرفد حركة الإحيـاء ويعضد أفكاره التي ينادي بها منذ زمن ويسعى في تحقيقها. ولذلك، أصف “ونحن نقيم صرح الروح” بأنه مرجع تحت الطلب لا يستغني عنه جيل الإحياء والانبعاث، أو من يسميهم الأستاذ “ورثة الأرض”.
هذا الكتاب يقلب لنا أولاً صفحات العالم الإسلامي لنقرأها ونطلع عليها. فنعلم من هذه القراءة أن جغرافية المسلمين تعيش حالاً من العبثية والتناقض. ففي جهة، انحدار نحو هاوية الأزمات والضعف والجهل والخرافة والظلمات والخسران والعزلة والأنانية. وفي جهة، تسارع في التوجه إلى الله وجهاد في سبيل الولادة من جديد وظمأ الناس إلى اطمئنان وحبور يَعِدُ به الإسلام. الأزمة التي يسميها فضيلة الشيخ “أيام الانقراض”، هي جرح لا يندمل، أصاب العالم الإسلامي في القرون الأخيرة.
إن المسلمين الذين جعلوا الدنيا بُعداً من أبعاد الجنة ردحاً من الدهر، ضحوا بدينهم -وهو مصدر عزهم- لدنياهم، وضيّعوا التوازن الدقيق الممتاز بين الكائنات والإنسان والحياة. فتنكّروا لتراث ألف سنة، وأحلوا محله نظماً موضوعة حديثة وهزيلة لا تناسب فطرة الإنسان. ولكن من الثابت أن دعوة الانبعاث، في “أيام الانقراض” الطافحة بالانكسارات والأزمات والعواصف، بقيت شرارةً في هذه الظلمات، على أمل أن تشتعل لهيباً في يوم آت.
إن العالم الإسـلامي كله توّاق إلى الانبعاث بعد الموت وإلى الولادة من جديد، من أجل محق الانحرافات الحاضرة وإقامة حيـاة جديدة وصحيحة. “انبعاث وإحياء يحتضن الحياة كلها، ويستجيب لحاجات أنماط البشر كلهم، في رحـاب الزمـان والمكان كُلاً، بالسـعة والعالمية التي تسـمح بها مرونة النصوص، مع الحفاظ على أصالة الدين”.
هـذا الكتـاب يدعو إلى التوجه نحو الإنسان والحياة والكائنات بمقترب إسلامي ويشير إلى أن المجتمعات المسلمة التي تتناسى المنطق والفكر والتصور الإسلامي “بحاجة ماسة ولازمة إلى رعايـة مفهوم الإيمان، والنظر الإسـلامي، وشـعور الإحسان، والعشق والشـوق، والمنطق، وطريقة التفكير، وأسلوب التعبير عن الذات، ورعاية المؤسسات والأركان التي تكسبها هذه الخصال، وإرشادها إلى التجدد بكل فئاتها وأصنافها”.
ولا بـد من “أنموذج إنسان جديد” لتحقيق هذا التحول العالمي، يتحمل سعته الشاسعة وثقله المطرد كسعته. ويسمي الأستاذ هذا الجيل الجديد “ورثة الأرض”، ويصفهم بأنهم “عبـاد صالحون، حياتهم العلمية منظمة ومنسقة، ثقات في أعمالهم وسلوكهم، أقويـاء في المقومات الشخصية فلا تصرعهم الأهـواء النفسانية، امتزجت عقولهم بقلوبهم”، فهم ممثلو الروح المحمدية والأخلاق القرآنية.
والكتاب تعريف وتعليل لنهضتنا الإصلاحية التي نقف على أعتابها. نهضة تتحقق في سياق عودة الشعب برمّته إلى جذوره الروحية. إن شعبنا الذي نهض لتحقيق الذات أكثر من مرة، جدير بالتغلب على “النفعية الذاتية، والكسل، وحب الشهرة، والأنانية، وطلب الدنيا، وقصر النظر، واللجوء إلى القوة العمياء” وما يشبه هذه الأمراض، واكتساب فضائل مثل “الاستغناء، والشجاعة، ومحو الذات، والاهتمام بهموم الغير، والعلم، والفضيلة، وقابلية التفكير العالمي” ومن ثم تحقيق التحول الكبير بمحوره القرآني وسجيته الفطرية.
فحين يسرى في أبناء الشـعب كله روحُ الإحياء، ينبلج فجرُ الانبعاث بعد الموت، أو النهضة العظمى، ويسترد شعبُنا الأمانة التي ضيّعها منذ سنين طويلة، فيصنع من الدنيا زاوية جنة كما صنع في الماضي.
وهو من وجهة، ينسج من آفاق القابل رؤيا مثالية تستنهض الهمم. ومن وجهة أخرى، يمحّص ويعلل حاضر العالم الإسلامي بمعضلاته وأزماته والعوائق الاجتماعية والتاريخية المعرقلة لتجديد بنـاء الفكر الإسـلامي. ولا يفقد -فضيلته- في خضم ذلك ثقته بهذا الشـعب الذي لم تخمد فيه جذوة الانبعاث أبدا. ولا بالآمال “الملّيّة”( ) التي تشبعت بها روحه.
وبعد تلخيص ملاحظاتي على الكتاب، أعرّج -مع ضعفي وعجزي- إلى بلاغة الأستاذ وأسلوبه الرصين في كتبه كلها. لقد اشتهر الأستاذ فتح الله كولن بانشداده إلى شعبه ومحركاته الحيوية التاريخية ووقوفه العميق على معطيات الفنون المتنوعة في الأدب والهندسة والموسيقى وغيرها من الفنون التي ارتقت إلى الذرى في مسيرة التاريخ لهذه الأمة العظيمة. ونحن نشهد وَلَهَهُ وعشقه لجذور الأمة الروحية ومحركاتها الأساسية في كل ما كتبه. وهل يجوز عليه غير ذلك، وهو وارث تلك الثقافة والحضارة؟
أما بلاغته ورصانة لسانه التركي، ففيهما ما يذكّر بقوة الأمة التركية يوم كانت أمة عظيمة، لها حشـمتها وإحاطتها وكليتها الجامعة المحتوية على عناصر وأجواء كثيرة. فكأن بلاغته ورصانة أسلوبه حلقة في سلسلة تمتد إلى زمان ثراء التركية ورفاهها. فصياغته للتركية -كسبيكة الذهب- أصيلة وغنية، بسلاسة لسانه، وغنى معانيه، وقدرته على تصوير الأشـياء والإنسان والكائنات. ولا عجب مادام مستمدا من المحركات الحيوية للثقافة التركية في ذروة ارتقائها. فأسلوبه في التركية مذاب في القوالب القرآنية ومفعم بمؤثرات الحياة الإسلامية ومصطبغ بألوانها الزاهية ومرتبط بحلقة في سلسلة الأدبـاء الترك وأهل الصنعة العظام. هذا الأسلوب المتوشح بآثار تقاليد التصوف في الأدب، استمرار ودوام للمستوى الرفيع المنتقل إلى أوائل القرن العشرين والمنساب من بين أنامل ممثليه خالد ضياء، ومحمد عاكف، ويحيى كمال، ورفيق خالد، ورشاد نوري، ويعقوب قدري، وأمثالهم. وأحسب أن هذا محصلة تصديق دقيق وعميق لفضيلة الشيخ بأن حضارة ثرّة لا تنقل إلى الزمان القابل إلا بلسان بليغ مقتدر على بيـان مضامينها. وأن لفضيلته في التركية تصرفات خاصة به، وتركيبات واشتقاق أوصاف وأسماء. ومن هنا أزعم -أنا الضعيف- أن الحاجة ماسة إلى قاموس بمعاني المفردات التي يستخدمها. ومَن يمحّص آثاره بحثاً وتدقيقاً، عن دراية باللسان التركي، سيجد تصرفات ذاتية ومفردات ثرية في أسلوبه. وأزعم أن هذا القاموس يدلنا على المستندات والعناصر الأساسية لخزينة الأستاذ الثقافية وعالمه الفكري.
وأختم هذا التقديم بأبيات لمولانـا جلال الديـن الرومي (مترجمة)، أراها معبرة عن محور هذا الكتاب:
ما أحسن أن تهاجر من أرضٍ كل يوم،
ما أجمل أن تحط في مقامٍ كل يوم،
ما أطيب أن تنحدر، زلالاً بلا جمد ولا كدر،
أمس، رحلت نفسي الحبيبة، أمس،
فالكلام كله يرجع إلى أمس،
وينبغي أن نقول شيئاً جديداً الآن.
علي جولاق
إسطنبول / أسكدار
كانون الأول/ سنة 1997