إننا كأمة لا بد لنا اليوم أن نعرف البرامج والخطط التي نسير بها إلى المستقبل ، والمراحل التي نريد التنقل عَبرها في مسيرنا. لقد أحاط بمجتمعنا في ماضينا القريب أحداث مأساوية زعزعَتْنَا، وفَتحت عيوننا على العصر في ضبابِ ودويِّ صواعقَ كأنها قيامة حمراء! فكان عسيرًا جدا -بطبيعة الحال- أن نبصر بوضوحٍ ونقاءٍ الغايةَ والهدف الذي هو “إحياء أمتنا”، وأن نستدل على الاتجاه القصير الصائب للوصول إلى ذلك الهدف وقد وجدنا أنفسنا في غبش ذاك الضباب والدخان ومركزِ رجة الكثير من الزلازل. بل لعل ذلك كان محالاً بواقع الأحوال الداخلية والخارجية.
نعم، كان عسيرًا أو محالا، لكن العجيب أن تتشكل رؤى هذا المجتمع في “الانبعاث من جديد” وأن يتوجه إلى قيمه الذاتية، متزامنا مع هذا الوقت العصيب بعينه، بعدما سيق إلى التضعضع في كل ما هو ذاتي فيه وهُيء ليُستَلبَ وجُعل “قابلا للاستعمار”. وكان هذا حالاً خارقًا للعادة؛ لأن الشعور الفردي كان مهزوزا من الأساس، والشعب كان حائرًا ومضطربا في قلب أشد الزلازل وأرهبها، وجموع البشر كانت مقصومة الظهر في مآس مفزعة من أندر ما في التاريخ.
وفي وسط ذلك الضباب والدخان الكثيف الذي لم يكتمل تشكُّل الوجدان والرأي العام الاجتماعي بعدُ، لم يكن هناك غيرُ أفراد منقطعين عن بعضهم البعض، يكدُّون من أجل الوصول إلى المستقبل بدافعِ: أنْ يجدوا لقمتين ومأوى؛ ويعني ذلك أنهم يحسبون المراوحة في مكانهم سيرًا وتقدما، غافلين عن غاية حياتهم وعن وجود قيم سامية تستحق كل شيء حتى الموتَ في سبيلها. نعم، كانت الأفكار مشتتة والإراداتُ مهزوزة والهممُ مشلولةً والآفاق مظلمة والقلوبُ خاوية. ولكن مع هذه المثبطات كلها كان المجتمع يصنع كل يوم أحلامًا جديدة ويُسَرِّي عن نفسه بالأماني ثم يرجع خاوي الوفاض مما أمل في كل يوم جديد ببرنامج جديد!
فحديثه عن تصاميمَ تشبه أحاديث النيام، وحديثُه عن مشاريع، ولو ذات نطاق ضيق، كانت تتزامن مع هذه المرحلة المشؤومة التي تَضاعَف فيها وقْعُ النكبات عليه وتوالت عوامل التعرية الروحية. ولقد بدا كل شيء في البداية كردِّ فعلٍ للأفكار المستهان بها والمعتقداتِ المتعرضة للتزييف والضمائرِ المقموعة. ثم أعقب ذلك حركات مستشعرة واعية وأنشطة مستديمة. فمن اللائق أن نعتبر تلك البداية بداية حقيقية للانبعاث بعد الموت لأمتنا. وكان طبيعيا أن يَظهر بعد هذه المرحلة -كما ظهر قبلها- مَن يريد أن يتحكم في هذه الحركة الواعية المستشعرة والطاقةِ الحاصلة من إحياء النفوس والأرواح، ويوظِّفَها كما يهوى ويشتهي… وقد ظهر فعلا. ولكن جموع البشر لم تَعُد تَقبل أن تقع -كرة أخرى- في موقع “القابلية للاستعمار”، بعدما بدأت تُدرِك ذاتَها بذاتها وبمقوماتها الداخلية الذاتية.
ومع الزلات والكبوات، كان الانخراط يمضي ويدوم في هذا الإحياء الذي صارت الجموع تستشعره في عوالمها الداخلية وفي أرواحها وقلوبها. وسيحظى الجميع -الجميع من غير استثناء- بوجودٍ ذاتي جديد، عاجلا أو آجلا. صحيح أن موانعَ كأمثال ذلك الضباب والدخان القديم لا زالت تُعيق الرؤية السليمة والإحساس السليم للمجتمع، لكن كثافة الضباب والدخان اليوم ليست كالقتام الذي عرفناه؛ فبشيء من الهمة والجهد صارت القلوب قادرة على أن تنهَلَ من منابعها الذاتية وأن تحلم بتحقيق رؤاها الحضارية.
غير أنه ينبغي اليوم أن نحدد إطار الفهم لتلك الحضارة، ونعيد النظر في كنهها (بتعريف جامع ومانع)، ونقف على المعنى والمحتوى لأمسنا، وفوضويةِ يومنا وغموضه، والمعالجات المتصوَّرة لغدنا… ثم نتعرفَ على صوت هذا العصر مع الحفاظ على الأصل والذات من جهةٍ، وأَخْذِ معالجات الزمان الحاضر وتفسيراته بنظر الاعتبار من جهة أخرى. وبدهي أن هذا عمل شاق، لكننا قادرون على القيام بأعبائه بعناية الله جل جلاله، ما دمنا قد ألقينا بأنفسنا في هذه الطريق.
ومن مقاربة أنتروبولوجية (Anthropology)،( ) نجد أن الحضارة -والتي يمكن أن نفسرها بأنها مجموع النشاطات المتعلقة بتنظيم الحياة الإنسانية، أو التصورات الفكرية والاعتقادية والفنية لأي أمة، أو كل الأوصاف الخاصة بوجودها المادي والمعنوي- مفهومٌ له أشكال مختلفة وعديدة، وذلك حسب الرؤى والفهوم والفلسفات والقدرة على التلقي. ومهما كثر التنوع في التفسير، فلا شك أن الرؤية السليمة ليست تلك النوعية والأساليب من الحياة التي انتقلت إلينا من رجال فترة الاستعمار فتقطعت أنفاسنا لهثًا وراءها منذ سنين طويلة، ونزعنا من أجلها عن أنفسنا كثيرًا من قيمنا. ولو كانت كذلك، لفَقَد الكفاحُ العظيم ضد الاستغلال والاحتلال كلَّ معانيه وجدواه.. والواقع أن هدف الكفاح كان واضحًا، وهو الاستقلال التام في كل النواحي.
فإن كنا الآن نفكر في إعادة بناء الذات من جديد، ونبحثُ عن أسلوبنا الذاتي الحضاري، فينبغي أن نتخلص من احتلال المفاهيم والأفكار الغريبة في داخلنا، والمبرمجةِ على تخريب جذور الروح والمعنى فينا، وأن نتَّبع -بالضرورة- سبيلا يُمكِّننا من العمل على طبع فكرنا الذاتي ونظامنا الاعتقادي الذاتي وفلسفتِنا الذاتية في الحياة، على نسيجنا الحضاري الخاص.
وبغضِّ النظر عن التحليلات الأنثروبولوجية الحديثة لابد لنا -وبقدر المستطاع- أن نستخدم جميع الوسائل المشروعة للوصول إلى الهدف الجليل الذي يُمليه علينا فكرنا الذاتي، ونجدَ حلولاً بديلة للتخلص من الفوضى التي نعيشها. وعلينا –إذ نبحث عن الحلول البديلة- أن نأخذ بنظر الاعتبار كلَّ الحيثيات التي تتعلق بموقعنا الجغرافي والاجتماعي.
ولئن كانت الحضارة عنوانًا أو مصدرًا لمجموع الأحوال والأشراط المادية والمعنوية وكانت هذه الأحوال والأشراط واعدةً بتلبية حاجة أفراد ذاك المجتمع من أطفال وشباب وشيوخ ومسنين بل ملبيةً لها بالفعل في كل مرتبة من مراتب الحياة وفي كل مرحلة من مراحل التطور… فإني أحسبُ أن الأصوب هو أن ننظر إلى القضية بعينٍ عملية إلى جانب المنظور الأنثروبولوجي، بصورة قد تتعدى علم الأنثروبولوجيا البحت. وإذ نفكر في هذا، يَلزمنا ألا نُهمل المرحلة الراهنة لتطور المجتمع. فإننا إذا اقتدينا -بوضعنا الحالي- بدول سبقتنا في وتيرة الإمكانات الحضارية بأشواط بعيدة، أو بأخرى تقطع المسافات بسرعة البرق في الطريق الذي نمشي فيه مرة ونكبو أخرى، ومعنا آخرون ممن يقاسموننا الخطوط والتوجهات نفسها، وذلك للوصول إلى الغاية… فأحسب أننا سنقع تحت صفعات الخيبة عند الفشل في نوال المقصود ونعجزُ عن الوقوف على أقدامنا تحت وطأة الخذلان والفشل.
إن المجتمعات المتطورة والمتقدمة اليوم كانت من قبلُ تعاني من مثل ما نعانيه، وكانت تقوم وتقعد في تخبط كتخبطنا وتكتوي بنارِ عذابٍ كعذابنا. ثم جاءتها أيامٌ فُتحت فيها أبواب التجديد على مصاريعها بفضلِ ما كانوا يتمتعون به من شوق البحث وعشق العلم وحثيث العمل ومكافأةِ من وُفقوا، بأجزل المكافآت. فتَحققَ النجاح إثر النجاح مما أدى إلى فوران العزم وشحذِ التوق. وصارت البيئة عندهم مشاتلَ تحتضن فسائل العبقرية… فتَتَابَعَ الاختراع؛ من مكائن البخار إلى مصانع النسيج، ومن مختبرات الأبحاث إلى المطابع… وبلغوا بعد مدةٍ عصرَ العلم والعقولِ الألكترونية.
ولما بادر الذين يقدِّرون العلم في تلك الأيام بمكافأة الكشوفاتِ والاختراعات والأبحاثَ العلمية، صاروا وسيلة لانكشاف القابليات العظيمة في كل مكان لِتجدَ فرصتها في النماء والتطور، فكأنَّ أطراف أرضهم معرض العجائب لأعمال النوابغ الذين لا يَعرفون الفتور.
وكما تعاقب ظهور العلماء في عالمنا الإسلامي من أمثال ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي والزهراوي إبان تحقُّق الوسط والبيئة الشبيهة، كذلك استَخدم الغربُ ما تَوارَثَه من المكتسباتِ خير استخدام وبأوسع وجه ممكن في ذلك الوسط، واستطاع أن يسِمَ القرون الأخيرة بسِمَتهِ.
لذلك، من الغلط أن نحصر حاضر “الغرب” في آثار جهود علماء ذوي قابليات راقية، مثل كوبرنيك وغاليلو وليونارد دافينشي ومايكل أنجيلو ودانتي أو أديسون وماكس بلانك وآينشتين؛ فلا يمكن أن نُرجع “النهضة العلمية” أمس ولا الفوران العلمي والتكنولوجي اليوم، إلى مساعي عدد قليل من أمثالهم فحسب. وإلا، فإننا سنواجه مشاكل نعجز عن إيضاح أسبابها بالقاعدة المعروفة بـ”تناسب العلية”. فإن النجاحات الخارقة للعادة، المتحققة أمس واليوم، والتكوينات العالمية الكبرى، مرتبطةٌ -إضافةً إلى عبقرية الأفراد ونبوغهم- بالبناء الاجتماعي المولدِ للعبقرية، والوسطِ المناسب لتنشئة المكتشِفين، والبيئةِ العامة الحاضنة للقابليات. فنقول بهذا الصدد: إن الحديث عن الوسط والبيئة العامة مازال يرِد حيثما كان يرِد ذكر همة أصحاب الاستعدادات السامقة وجدِّهم وجهدهم، بل كثيرًا ما يَظهر الدهاء والقابليات لأصحاب المواهب العظيمة والعباقرة السامقين بقدر ما تسمح به البيئة العامة. وتَوَقُّعُ ما يخالف ذلك غير مُجْدٍ اليوم أيضًا.. فبدهي أنه ما من أحد يَقوى على تغيير قواعد “الشريعة الفطرية”. فالذي يناطح السنن الكونية كلَّها فسيخرُّ منهزمًا، عاجلا أو آجلا. إن العبقرية في أرضٍ غير أرضها محكومٌ عليها أن تكون كعصفٍ مأكول، كما يُحْكَمُ على البذرة بالفناء في أرض لا تُرعى فيها بالهواء والماء والقوة الإنباتية.
إذن علينا أن نبحث عما نأمله لغدنا، في نقطةٍ تتلاقى فيها البيئة الصالحة وعشقُ العلم وعزمُ العمل والبحث المنهجي. فإذاما أثارت البيئةُ الصالحة العشقَ العلميّ وألهبت العزائمَ على السعي والإنجاز، فستشعر القلوب الحساسة بذلك في أعماق كيانها بعملية امتصاص خارقة، ثم تقوِّمه، ثم تضعه موضع التنفيذ في إطار منهجية معينة. وبعد ذلك، تعمل “الدائرة الصالحة”( ) للارتقاء بإلهاماتٍ وتداعيات وتركيبات وتحليلات جديدة.. تعقبها –باستمرار واطرادٍ- الجهودُ الفكرية والنُّظُم المنسجمة مع مقوماتنا الذاتية والمتوافقةُ مع رؤيتنا ومبادئنا الحضارية.
لكن الحاصل عندنا كان دائمًا عَرْضًا خَلَّابًا لما أنتجه غيرنا تحت اسم الحداثة أو النهضة الإسلامية، وإن كان أكثر هذه المنتجات يناقض مرتكزاتنا الأساسية. فلم نفلح في تفهم “الحداثة” أو “النهضة” بمقوماتها الذاتية، أو -قل إن شئت- ذهلنا عن ذلك. ومن هذا الوجه، نستطيع القول بأنَّ تخلف عالمنا عن اللحاق بما بلغته الدول المعاصرة، وعجزَه -مع كده وجهده- عن تحقيق النهضة المأمولة، ليس بسبب الوضع الجغرافي لبلادنا أو نقص الإمكانات أو ضعف القدرات والقابليات لإنساننا، بل لقصورٍ عن فهم كنه التحديث ونقصٍ في الفكر، والاكتفاءِ بالقوالب الفكرية النمطية كبديل عن حب العلم وعشق الحقيقة.
وأظن أن التعرف على أنموذج جارتنا القريبة منا: ألمانيا، وعملاقِ الشرق الأقصى: اليابان، يزيح عن أنظارنا ستائر كثيرة لنطلع على نواقصنا. فألمانيا خرجت من حربين عالميتين مثخنة الجراح؛ فكان حالها في النصف الأول من القرن العشرين خرابًا وركامًا ومأوى للبوم الناعب في كل طرف، وكأنها هي التي وصفها محمد عاكف في بيت شعر (ترجمته):
الديار خرائب،
والصحارى خالية موحشة،
والأيام محرومة من العمل والكد،
والليالي جاهلة بمعنى الغد.
لكنها تغلَّبت على المثبطات، ولمت شعثها وجمعت أشتاتها في زمن قصير، وانتصبت بلدًا عملاقا أمام العالم. ولم يكن أحد يتفوه بكلمة عن الوحدة الألمانية، حينما كنا نحلم نحن بأحلام التحديث في أوائل القرن التاسع عشر. وإذ صارت ألمانيا بلاد الأحلام متحدية كل هذا الخراب، لا زلنا نثرثر عن أحلام التحديث. وقد يقال: “إن ألمانيا غيرت كفنها إلى قميص مرتين لكونها بلدا غربيا محظوظا، فحققت انبعاثات بعد موتها مرات حسب فلسفة حياتها… إذ ما كانت ألمانيا قادرة على القيام من كبوتها لولا حظها من القرابة الدينية والثقافية من دول أوروبا”. ولئن قَبِلْنا بهذه الفرضيات والتقديرات في شأن ألمانيا، فثم “يابان” الشرق الأقصى التي تعرضت إلى الحصر والتحديد من العالم الغربي كله ردحًا من الزمن.
إن مشاريع التحديث عندنا تسبق اليابان بنصف قرن من الزمان. إنها بدأت بالسعي الحثيث في طريق التحديث بعدنا بخمسين أو ستين عامًا… فاجتازت كل العوائق وسبقتْنَا في طفرة واحدة مع أنها كانت قد أصيبت بنكبتين عظيمتين في تاريخها القريب، فأخذتْ موقعَها بين العوائل الكبيرة والقوية التي تتولى شؤون العالم. وإذ نسلي أنفسنا ونُسرِّي عنها بأناشيد الولادة والانبعاث من جديد، بدأ اليابانيون بجني ثمار نهضتهم. وإذ ينهش بعضنا بعضًا بعد مائة وخمسين سنة من المسير بمناقشةِ صحةِ نقطة الانطلاق بدلا من النقاش حول الهدف المنشود، سد اليابانيون الفجوة بينهم وبين الغرب في زمن قصير لا يعدو الأربعين عامًا، واكتسبوا قد رةَ منافسةِ عصرهم ومنازلته. فاليابان اليوم قوة عملاقة؛ بقدرة اقتصادها ونشاط مبادراتها، وطاقتها الاستثمارية الفعالة، وسُمْعتها الجيدة على مستوى العالم… وقد ظلت اليابان حَذِرة وانتقائية ومُخْلصة لهويتها القومية إبان تحقيقها التحديثاتِ المتتالية وتبشيرِ شعبها بوعود المستقبل المرفَّه، وأثناء اقتباسها من العالم ما تقتبس، وأخذِها ما تأخذ أو تركِها ما تترك.. فلم تستخف بتاريخها، ولم تلعن ماضيها، ولم تنكر جذورها المعنوية والروحية.. بل ما فتئت تفكر مليا في المهاوي السحيقة بين حالها المتخلف وبين الذرى التي تصبو إليها، وتُقَوِّم الحال بعقلانية وواقعية، فخططت مشاريع قابلة للتطبيق، وآمنت بأنها ستحل معضلات التخلف كلَّها بمنظومة اجتماعية تقوم -إلى حد كبير- على الأسس الأخلاقية، ومَلَأت الفجواتِ الناجمةَ من نقص القدرات وزيادةِ الحاجات، بالاعتزاز الوطني والانتساب القومي والعز، والحركةِ المنظمة الهادفة وتنظيمِ المساعي والجهود. فنجحت في الاحتفاظ بهويتها الذاتية، وصارت أنموذجًا يَذكُره التاريخ كشعب أنجز عجائب العصر.
إنَّ ما فعلناه في تاريخنا القريب هو الكدح في بناء الحضارة فوق إنجازاتها السابقة وأنعُمِها وثمراتها. أما اليابان وأمثالها من البلاد المتقدمة، فقد أقامت كل شيء على أسس الفكر الحضاري والمفاهيم والسلوكيات الحضارية. ومع تقديري وتوقيري لشيء من التطور الحاصل عندنا، فإني أظن أن هذه النظرة المنحرفة -في عالمنا الإسلامي- هي السبب الرئيس في مراوحتنا في مكاننا بينما يتسابق الآخرون من نجاح إلى نجاح؛ فبينما كنا نكافح نحن في استكشاف طرق سهلة ورخيصة للحصول على نعم الحضارة ووسائلِ تَقَاسُمها، أقامت الشعوب المتقدمة بناءَ كلِّ شيء على الإنسان والأخلاق والتعليم والثقافة.. واجتازت بسرعة الطير المهاويَ التي سقطنا فيها، فارتقت إلى القمم التي قصرنا عنها.
ولننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى؛ إن مجموع النتائج والمعطيات لحضارة معينة هي تلك الحضارة عينها. وعلينا أن لا ننسى أن أهم أركان ظاهرة الحضارة هو الإنسان المؤهل، وأقوى أسسها الحيوية هو دولة حرة ومستقلة، وأثمن رؤوس أموالها هو الزمن. ولا نشك أن الدول المتقدمة قد استغلت هذه المقومات بأحسن وجه. وعلاوة على استغلالها هذه المقومات استغلالاً حسنا، لم تهمِل أبدًا تقسيمَ الوظائف، واحترامَ الاختصاصات والاهتمامَ بالإنسان ومكافأةَ النجاحات واستثمارَ الإمكانات الأولية التي وهبها الله تعالى لها استثمارا مُجْدِيًا؛ وفي المقابل إذا وقعت هذه المقومات التي تساوي قيما فوق القيم في أيدي المجتمعات التي لم تنظِّم مساعيها تنظيمًا دقيقا، ولم توزِّع الواجبات والأعمال توزيعًا جيدا، ولم تتعرف إلى أسرار ثرواتها المكنوزة والظاهرة، ولم تتفهم القيمة الحقيقية للإنسان، ولم تستثمر الزمن استثمارًا مجزيا… ففي هذه الحالة ستكون هذه المقومات كالمتاع الذي يقع في يد بائع لا يقدِّر قيمته فيبيعُه بثمن بخس دراهم معدودة.
إن كل الأمم التي تركت حضاراتُها آثارا وبصمات في التاريخ والخرائط الجغرافية لم ينقش اسمها على صفحات التاريخ بأحرف بارزة إلا بمثل هذه المثابرة في التقويم والتنظيم، والقابليةِ في التركيب والتحليل، والتعبئة الروحية والفوران المعنوي؛ ففي الخط التاريخي الطويل، الممتد من البراهمانية إلى البوذية، ومن اليهودية إلى المسيحية ثم الإسلام، هناك أمم عديدة تربت في مهد الإيمان والعشق والتصورات الروحية والمعنوية فأكسبت الأرضَ والزمان والإنسان قيما لا تقدر بثمن.
لكن الواقع أن الإسلام يمتاز بأوجه كثيرة عن جميع الأفكار والنُّظم القديمة والحديثة، الدينية واللادينية. وابتداءً، فإنه من المسَلَّم به أن حركات التجديد والتحديث الواقعة في جميع النظم غير الإسلامية، أدت إلى إبعاد الدين عن مركز الحركة. أما في الإسلام، فـعلى خلاف ذلك مطلقًا قد تولى الدينُ رسالةً مهمة في مركز الحركة التجديدية، وتحولت كلُّ حملة إلى تماسك ونضوج واعدٍ بالمستقبل، بتغذيتها المستمرة من معانيه وروحه.
وما زال إنساننا منذ سنين ينتظر من روح الدين بارقة من هذا النوع كلما هم بالقيام بعمل. وبالفعل لاحظنا أن لمعان بارقة من هذا النوع ولو من بعيد، أو رؤى تحمل رموزا ودلالات حوله، قد كفت لانبعاثِ أرواح بالية منذ مئات السنين.
فما بالك إذا اطلعنا على نتائج الجهود التي تبدو الآن ضعيفة ولكنها في الحقيقة مهمة…؟! فإنني أظن أن الآمال حينذاك ستتحفز وتنشدُّ بجدةِ “انبعاث بعد الموت”، وتنهض الإرادات، وتجيش القلوب بالإيمان، فإذا بنا نُحَقِّق المشاريعَ الحضارية المترقبة منذ مئات السنين واحدا تلو الآخر. هذا، ما لم نستسلم للعوائق المصطنعة والموقوتة التي تريد أن تقطع علينا السبيل، وما لم نتطلع إلى الأجور الدنيوية أو الأخروية لخدماتنا التي نحن ملزمون بأدائها والإيفاء بحقها، وحَصَرْنَا الغاية في طلب رضى الحق تعالى وحده.
إن التصور للديمقراطية والحرية، -ولو بوضعهما الحاضر- قد خلّصت شعبًا عاش رهين الغفلة، وجهزته بأحاسيسَ وأفكارٍ وقدرات للعبور إلى الحضارة… فإذا لم ندمر التوازناتِ ضد مصالح أمتنا، في مواجهة الأحوال والمعادلات الداخلية والخارجية، فسنقتدر في العاجل القريب أن نقول: هاكم مشاعرنا الذاتية ومنظومتنا الفكرية وقراءتنا للحياة ورؤيتنا الحضارية وثقافتنا الأصيلة…
المصدر: مجلة “يَنِي أميد” التركية، أبريل 1998؛ الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغْلو.