نظام الحكم في تركيا نظام ديمقراطي منذ الخمسينات بالرغم من كل ما يعانيه من تعثّرات. فالديمقراطية هي النظام الذي تتّجه إليه أمم العالم اليوم. لقد بدأت البوادر الأولى نحو انتقال تركيا إلى الديمقراطية منذ أواخر الدولة العثمانية عام 1876م من طرف السلاطين العثمانيين الذين كانوا في الوقت نفسه خلفاء العالم الإسلامي، حيث شكّل النوّاب من غير المسلمين في أوّل برلمانٍ مُنتَخَب ديمقراطيًّا نسبةَ الثلُث تقريبًا. لذا من الخطأ أن ننظر إلى الإسلام على أنه يتعارض مع الديمقراطية.
الديمقراطية والإسلام
الديمقراطية هي النظام الأنسب لمبادئ الحكم في الإسلام لكونها تتيح فرصة للنّاخبين لكي يُحاسِبوا المنتخَبين ويسائلوهم، ولكونها نقيضًا للاستبداد الذي يعتبره الإسلام شرًّا وفسادًا. فليس للإسلام مشكلة مع الانتخابات والمساءلة وسيادة القانون وغيرها من الأسس الديمقراطية الأخرى. ولقد أعلنتُ عام 1994م أن “لا تراجع عن الديمقراطية بعد اليوم”، فقُوبلت تصريحاتي بالاعتراض من بعض السياسيين الإسلاميين، لكن الجميع اليوم ينادي بالديمقراطية. الجدير بالذكر أن هناك العديد من التطبيقات والأنماط للديمقراطية في العالم، ومن ثم فلا يمكننا أن نقول إنها بلغت حدّ الكمال، بل هي في طريقها إلى الاكتمال.
الديمقراطية هي الأنسب لمبادئ الحكم في الإسلام، لأنها تتيح فرصة للنّاخبين لمحاسبة المنتخَبين، ولأنها نقيض للاستبداد الذي يعتبره الإسلام شرًّا محضا.
إن البلد الذي يتم فيه حفظ الدين والنفْس والعقل والنسل والمال، ولا تُقيَّد فيه حقوق الأفراد وحرياتهم إلا في الحالات الاستثنائية القصوى كالحروب مثلًا، وتُعامَل فيه الأقليّات بالتساوي مع باقي المواطنين ولا يتعرضون لأي تمييز، ويُتاح للجميع التعبير عن وجهات نظرهم الشخصية والاجتماعية والسياسية بكل حرية والعمل بها، هو بلد متناغم مع روح الإسلام.
وإذا كان الناس في بلدٍ كهذا يمكنهم التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم بحرّية ويؤدّون واجباتهم وشعائرهم الدينية، ويتمتّعون بحريات مثل الملكية الخاصة وحريات أخرى، فليسوا مطالَبين -مسلمين كانوا أو أتباعَ ديانات أخرى- بتغيير نظام الحكم في ذاك البلد. أمّا البلدان التي لا يتمتّع فيها الناس بهذه الحريات، فعليهم أن يحاولوا الحصول عليها من خلال وسائل ديمقراطية دون اللجوء إلى العنف بتاتًا.
الديمقراطية والتطور
أعتقد أنه يمكن للإسلام والديمقراطية أن يتعايشا سلميًّا، ليس فقط في تركيا، بل أيضًا في البلدان المسلمة، وفي البلدان ذات الأغلبية والكثافة المسلمة. للأسف يلاحظ أنه في البلدان التي يتم فيها شيطنة الديمقراطية، تكثر انتهاكات حقوق الإنسان، والاضطرابات الأخلاقية والقانونية، والنزاعات والصراعات الدينية والعرقية.
ليس للإسلام مشكلة مع الانتخابات والمساءلة وسيادة القانون وغيرها من الأسس الديمقراطية الأخرى.
إن الديمقراطية حاليًّا تتطور لتغدو قيمة مشتركة للجنس البشري بأكمله. ففي البلدان التي تتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي، يحق للمسلمين من خلال مؤسسات المجتمع المدني ممارسة دينهم وتطبيقه وتمثيله بل ونشره وتعليمه أيضًا. ومن ثم فإن وظيفتنا الأساسية أن نمارس قيمنا الإسلامية ونتمثلها حيّة سواء أفرادًا كنّا أو مجتمعًا مدنيًّا.
الديمقراطية في تركيا
أما بالنسبة لتركيا، فلا يمكن وصفها دولة ديمقراطية بالكامل، بل هي في طريقها إلى ذلك. فالمتدينون الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد في الماضي، مثل الطالبات اللواتي مُنِعْنَ من ارتداء الحجاب في الجامعات، قد نالوا مؤخَّرًا العديد من حقوقهن نتيجةً لمساعي الانضمام للاتحاد الأوروبي؛ ومن ثم فإن عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد عادت بالكثير من الفوائد على تركيا من هذه الجهة، وتم إدخال إصلاحات ديمقراطية جدّية للبلاد في إطار هذه المساعي.
وإذا استمرت هذه الإصلاحات واستطاع النظام الديمقراطي في تركيا تحقيق معايير الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات، فباعتقادي لن تقف هوية تركيا المسلمة حجر عثرة أمام عضويتها الكاملة. حتى لو قام متعصبون كارهون للإسلام في أوروبا بمنع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فإن المكاسب التي حقّقتها تركيا أثناء محاولتها الحصولَ على العضوية تبقى انتصارًا مهمًّا للديمقراطية فيها. إلا أن تركيا -مع الأسف- قد بدأت مؤخّرًا تتراجع عن تحقيق تلك المعايير الديمقراطية للاتحاد الأوروبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: كلمات شاهدة، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانيبية من تصرف المحرر.