إنّ إنفاق الجهد في سبيلِ الحق والحقيقة، وبذل الأموال والثروات واستغلالها في هذا السبيل؛ كلها أمورٌ يمكننا أن نُدرجها في قائمة واحدة ألا وهي الإنفاق من حيث فلسفتها الرئيسة عمومًا، وكما ذُكر الإنفاقُ بين الآيات المكّية على إطلاقه يمكننا أن نفهم الأمر هنا على إطلاقه أيضًا، بمعنى أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/3)، فكما رأينا جعلت الآية الكريمة من إنفاق كل ما نستطيع إنفاقه من النعم التي أسبغها الله علينا غايةً وهدفًا، وعلى نفس الشاكلة فإن العمل بروحِ التفاني التام وفهمِ الجهد المبذول في ساعات العمل على إطلاقه كما جاءت الأحكام المكية على إطلاقها أيضًا هو نتيجة إيجابية لمثل هذا الأفق من التضحية.
وهنا لا بد ألا نغضّ الطرف عن المسألة التالية: فأحيانًا نقول على سبيل التشويق والترغيب لذلك الإنسان الذي نذرَ روحه للحقّ والحقيقة: “عليك أن تُنفق بما يزيد عن حاجتك، وأن تركض ركض الفرس العربي الأصيل دون تعب ولا نصب”.. وهكذا نفضل استخدام هذا الأسلوب في الترغيب والتشويق، وتدعونا الحاجة أحيانًا إلى أن نطلب من الإنسان أن يسعى لبذل كلِّ ما لديه، ولكن علينا عامة أن ننظر بعين الاعتبار إلى الطبيعة البشرية سواء في الإنفاق أو في تنظيم الجهد والأعمال.. بمعنى أنه يجب علينا ألا ننسى أننا بشر ولنا أُسَرٌ وعوائل، وأننا مضطرّون إلى تأمين سبلِ المعيشة لهم، كما يجب أن ننتبه إلى ألا تخرج الأمور التي نكلِّف بها الآخرين عن حدود الإمكان.
أجل، قد تكون هناك بعض القامات الفريدة التي ركضت ركض الفرس العربي حتى تقطعت أنفاسها، وتوقَّفَ قلبُها دون وعيٍ منها أثناء ركضِها، ولكن ينبغي ألا نتوقّع هذه التضحية من الجميع، وألا نُخضع الجميع لمثل هذا الأداء ومثل هذا البرنامج.. علينا أن نراعي الوضع العام، ونقسم أعمالنا وفقًا لذلك.
أجل، قد تكون هناك بعض القامات الفريدة التي ركضت ركض الفرس العربي حتى تقطعت أنفاسها، وتوقَّفَ قلبُها دون وعيٍ منها أثناء ركضِها
منهج ورثة النبوّة في تنظيم الحياة
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي صلة بموضوعنا: “إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ“[1]، بمعنى أن الدين ليس بالأمر الشاقّ الصعب مما لا يطيقه الإنسان، فمن الممكن القيام بأوامره في راحة وطمأنينة؛ عن طريق تنظيمنا لأوقاتنا وتقسيمنا لأعمالنا، ودعمنا لبعضنا، ولكن مَن شادّ الدينَ غلبَه وقطعه، ومن ثمّ فعلى الإنسان أن يتناول الأمر باليُسرِ كما أسلفنا حتى يستطيع القيام به في صباه وشبابه وشيخوخته، وأن يعايش دينه ليس على مستوى الفرد فقط بل على مستوى الأسرة والمجتمع.
وقد يوجد دائمًا أناسٌ نذروا حياتهم كلَّها في سبيل الحق والحقيقة، وأغلقوا أعينهم عما سوى خدمة الدين، وتجرّدوا تمامًا عن الدنيا.. وإن هذا الاتّجاه لا بأسَ فيه ما دامَ أربابه لا يجبرون الآخرين عليه ولا يُكلّفون غيرهم به.
وإنَّ من أربابِ هذا المنهج المتصوفةَ الخلوتيين الذين اعتزلوا الدنيا، وعاشوا حياتهم في عزلةٍ وانزواء، فأغلقوا أبوابهم على أنفسهم حتى لا ينشغلوا بشيء ولو طرفة عين عن العبادة لربهم I، ولكن علينا ألا ننسى أن هذا ليس سبيلَ ورثة النبوة.. إننا نقدّر هؤلاء الناس، ونتوّج بهم رؤوسنا، ولكن سيد الأنام (عليه ألفُ ألفِ صلاة وسلام) لمّا كان يبلغ رسالته لأتباعه كان يُخبرهم بأن من يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم[2]، ومن هنا فتقع على كلِّ فردٍ مسؤوليّات ومهام، عليه أن يقوم بها ويؤدّيها بإتقان في سبيل رفعة أمّته، ولا سيما أن رفعة الإنسان منوطةٌ -من جهةٍ ما- برفعة أمّته والأجيال القادمة، ولذا يجب على الإنسان أن يُطوّر من خططه الكبرى العامة التي يراعي فيها المجتمع ككل، وأن يبذل جهده لتحقيق هذه الخطط، ولكن إلى جانب هذا عليه أن يقوم بتنظيم أعماله، حتى لا يعتري دينه وديانته وقلبه وروحه أيُّ خلل أو قصور، وألا يتخلف عن السعي بقدر الإمكان عن سبيل الله.. ومن ثم يجب على الجميع أن يقوموا بالوظائف الملقاة على عاتقهم، فلا يتركون ثغرة أو خللًا في أي مرحلة من مراحل الحياة وفي كل مناحي الحياة إلا سدّوه، وأن يقوموا بتنظيم أعمالهم وتقسيمها إن كانوا يرومون إتقانَ أعمالهم وإبرازَها على أكمل وجه، وجنيَ الثمار من ورائها.
كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه من خيرة الصحابة وأكثرهم زهدًا وتقوى، وهو ممّن يسمعون فيفهمون عن النبي صلى الله عليه وسلم خير الفهم، كان هذا الصحابي الجليل يقوم ليله ويصوم نهاره، وأحيانًا ما يواصل صومه يومين أو ثلاثة.. حسنٌ، إلامَ يُمكن الوصولُ إليه جرّاء هذه الحياة التعبدية؟ إن الإنسانَ بهذه الحالة إن كان متزوِّجًا فسيُؤدّي ذلك إلى إهماله حقّ أسرته.. فمثلًا إذا تفرّغ الإنسانُ للعبادة حتى الصباح قد لا يتمكّن من رؤية أولاده والجلوس معهم ومحادثتهم، وقد يقصِّر في القيام بالوظائف الأخرى التي أُنيطت به.. فلما وصل نبأُ عبد الله بن عمرو بن العاص إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ“[3]، وهكذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم من خلال هذا التحذير النبويّ إلى التكاليف الموضوعية التي يطيقها الإنسان، كما سلَّطَ الضوءَ على ضرورة تنظيم الوقت وتقسيم العمل.
ولنرجع إلى موضوعنا مرة أخرى ونقول: علينا أن نكون متوازنين في فهمنا لمسألة الخدمة والإنفاق.. فمثلًا لنفترض أن صاحب مصنع جاء إلى مؤسّسةٍ خيرية وقال للموظفين هنالك: “إنني أريد أن أتبرّع بمصنعي كلّه لهذه السنة من أجل الخدمة، فلكم أن تستخدموه كما تشاؤون”، بل لنفترض أن عددًا آخر من أصحاب المصانع قد فعلوا الشيء نفسه، وتبرّعوا بمصانعهم، علينا حينذاك أن نفكر في الخلل الذي قد يعتري منظومة العمل، فهل بإمكان هذه المؤسسة الخيرية أن تشغّل هذه المصانع كلها؟ وهل بإمكان أصحاب المصانع هؤلاء أن يفعلوا الشيء نفسه كلَّ عام؟ علينا أن نأخذ كلّ هذا بعين الاعتبار؛ ونطلب من هؤلاء الراغبين في التبرع بأن يواصلوا تشغيلهم لمصانعهم وفق النظام الذي وضعوه بأيديهم، وليُنفقوا ما يشاؤون دون انسلاخٍ تامّ من أموالهم، وبذلك سيساهم ذلك الشخص في أعمال الخير كلّ عام، وسيواصل رعايته وتمويله لمثل هذه الأنشطة، وإلا فإن تبرّعَ بكلّ ما لديه ستأتي السنة القادمة وليس في يديه شيءٌ يتبرّع به، ويكتفي بالنظر إلى الجميع وهم ينفقون ويتبرعون.
ما يعِدُ به تنظيم أوقات العمل
من الأهمية بمكان أن نراعي مسألة تنظيم الأعمال إلى جانب روح التضحية في سبيل خدمة الحق.. وكما جاء في نهاية سورة الشرح يمكننا أن نستريح من أعمالنا بتنوّعها؛ وذلك بالانتقال بين الأعمال التعبدية والأعمال الدنيوية والعكس؛ إذ علينا أن نزيح عن أنفسنا الأرق الروحيّ بالعمل الجسدي، والتعب الجسدي بالانتشاء الروحي.. وبذلك نملك بنيةً روحيةً وجسديةً قويةً متينةً فاعلة.
أجل، إن تنظيم الوقت بشكلٍ جيّد أمرٌ يقتضيه الدين، كما أنه وسيلةٌ مهمّة تُفضي إلى إحراز النجاحات فيما نقوم به من أعمال
ثمّة معلِّمون ومربون من أصحاب التضحية والروح الحِسْبية؛ يقومون بوظائفهم داخل الوطن وخارجه، في المدارس والأندية الثقافية وغيرها من المؤسّسات في سبيل خدمة الإنسانية؛ فهؤلاء سواء عاشوا على الكفاف أو تقاضوا راتبًا في صورة منحة، أو قُدّر لهم راتبٌ معتاد، أيًّا كان الراتب الذي يتقاضونه، فالمتوقّع من هؤلاء هو أنّ يتكفّلوا -فوق ساعات العمل، وبعد أن يضمنوا سبل الإعاشة لأولادهم- بتدريسِ الطلاب أربعين ساعة إن لزم الأمر، وأن يكونوا معهم صباح مساء، وإن كان بمقدورهم فليقوموا على تربيتهم وإرشادهم في أيام الإجازة أيضًا.
أجل، ليت هذه الأرواح الحِسْبية تساعد طلابها في دروسها؛ بغيرةٍ وعزمٍ نبويّ، وأن تستمع لآلامهم، وأن تحنو عليهم وترحمهم رحمة الأم وشفقتها على أبنائها، إلا أنه يمكننا من خلال هذا الفهم لساعات العمل أن نعدّل من حياتنا العلمية والمعرفية التي انهارت وفسدت منذ زمنٍ طويل، ولكن قبل أن نكلّف الناس بمثل هذا المستوى من التضحية علينا أن نُعيد تأهيلهم في هذه المسألة، وأن نعوّدهم على ذلك، ثمّ نستودع إرادتَهم هذا المفهومَ من التضحية، وينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أبدًا ونحن نقوم بهذا أن هذه التضحية ليست بالأمر الذي يُجبَرُ الناسُ على القيام به. أجل، إن أردنا أن نجني ثمارًا يانعة من وراء الخدمات التي نقوم بها فعلينا أن ننفق وقتًا أكبر في سبيل ذلك.
فمثلًا لو أنكم تولّيتم أمرَ الإدارة والإشراف على الطلاب في مدرسةٍ ما، فعليكم بعد أداء وظيفتكم الإدارية نهارًا في المدرسة أن تقوموا بالمسؤوليات الملقاة على عاتقكم خارج ساعات العمل كمتابعة الطلاب في غدوّهم ورواحهم للأماكن التي يصحُّ أو لا يصحّ أن يذهبوا إليها، والثمرة تأتي بإذن الله وعنايته وفضله على قدر الوقت الذي خصصتموه لهذا الأمر، وعلى قدر الجهد الذي بذلتموه فيه.
قراءة الأوامر التكوينية قراءة صحيحة وتنظيم الوقت
بعدما أوضح فضيلة الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله أن تنظيم المساعي هو أحد الأسس المهمة في الترقي ذكر أن هذا “لا يتمّ إلّا باتباع الأوامر المقدسة في الدين، والثبات عليها، مع التزام التقوى من الله سبحانه وابتغاء مرضاته”[4]، وأما التقوى فهي اجتناب المحرمات، وأداء الفروض، واتقاء الشبهات، وتحرّي الإنسان للأمر، ومحاسبته لنفسه هل هو من حقوقه أو من واجباته أو أنه لا يندرج ضمن أي واحد منهما؟ هذا كلّه أمر مرتبطٌ ارتباطًا مباشرًا بالتقوى، ولذا فإن الشخص الذي يُعهد إليه بعملٍ من الأعمال إن لم يُحسن استغلال وقته، ولا يركّز في عمله، ولا يؤدّي وظيفته التي أُسندت إليه بحقها فهو مسؤول أمام المؤسسة التابع لها، كما أنه مسؤول قبل ذلك أمام ربه جل جلاله.
ولا يعزب عن علمكم أن للتقوى بعدًا آخر، وهو مراعاة الأوامر التكوينية إلى جانب الأوامر التشريعية.. فمثلًا يندرج تحت مسألة مراعاة الأوامر التكوينية؛ حسنَ استثمار الوقت، والنظر بعين الاعتبار إلى ما يجري في الدنيا التي نعيش فيها، ومراعاة وجود الحاسدين الذين يحيطون بنا كالدوائر المتداخلة وذلك بمباشرة الأعمال التي نقوم بها بحكمةٍ ومنطقية، وابتغاء الكمال في تسيير أعمالنا دون إحداث أيّ مشكلة، ومن هذا المنطلق فإنني أناشدكم الله متسائلًا: هل يجوز أن يضرّ الإنسان بنفسه وخدمته وأمّته بعدم مراعاته لمثل هذه الأمور؟!
أجل، إن تنظيم الوقت بشكلٍ جيّد أمرٌ يقتضيه الدين، كما أنه وسيلةٌ مهمّة تُفضي إلى إحراز النجاحات فيما نقوم به من أعمال؛ بمعنى أن علينا أن نُنظّم أمورنا؛ من قَبيلِ متى نستريح، ومتى نعمل، وما الوسيلة التي تؤدّي إلى الفوز والنجاح، ومتى نشحن قلوبنا روحيًّا، ومتى نُفرغ ما شحنّاه، وهكذا… وهذا يتطلب منا أن نتحرّى الدقّة البالغة، وأن نعالج كلَّ شيءٍ أوَّلًا بأوّل.
فإن التواعد على اجتماعٍ ما، وتحديدَ موعدٍ له يُعدّ بمثابة تعهّد ضمني.. ويُخشى على مَن لم يُراع هذا أن يدخل ضمن مَن توعّدهم الله I بقوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾
تقسيمُ العمل ومراعاةُ الوقت
من جانب آخر فمن الأهمّية بمكانٍ تقسيمُ العمل إلى جانب تنظيم الوقت؛ بمعنى أنه لا بدّ من حسن اختيار المرء الذي سيُباشر العمل، إلى جانب تحديد المجال الذي باستطاعته أن يحقق النجاح فيه، وهذا يتأتّى بمعنى أدقّ وبشكلٍ كامل على يد المسؤولين عن العمل، فقد كان من أبعاد فطنته صلى الله عليه وسلم أنه كان يُحسن توظيف المرء المناسب في المكان المناسب. أجل، لم يكن هناك أيُّ داعٍ لتغيير الشخص الذي استعمله في مكانٍ أو مهمة ما؛ لأن النجاح كان يحالفُ الشخص الذي عينه دائمًا، وهذا الأمر منوطٌ أيضًا بمعرفة المسؤول بماهية الأشخاص واختبارهم والكشف عن مهاراتهم، وإن معرفة القابليات في ظلّ الظروف الحالية، واستغلالها في أماكنها أمر منوطٌ من ناحيةٍ ما بالعقل المشترك والوعي الجمعي.
وثمة فائدةٌ في الإشارة هنا إلى هذا الأمر الأخير: كثيرًا ما تُعقد الاجتماعات والبرامج على فترات متفاوتة في مؤسسات الدولة أو المؤسسات الخاصة، ولا جرم أن هذه الاجتماعات والبرامج تُنظَّم في وقتٍ محدد؛ لأن الوقت قيِّمٌ وثمينٌ، ولا حقَّ لأحد أن يُضيّع وقت أخيه أو يُهدِره وقته الثمين؛ لأن هذا الأمر يُوجب المسؤولية أمام الله تعالى، ولا سيما أن هناك أعمالًا قد يتسبّب التواني فيها -ولو لنصف ساعة- في ضياع العمل الذي لا بدَّ من القيام به، فقد يؤدّي تأجيل الأمر بعضَ الشيء إلى وقوع سلبيّاتٍ خطيرة وخسائر بالغة.
من جانبٍ آخر فإن التواعد على اجتماعٍ ما، وتحديدَ موعدٍ له يُعدّ بمثابة تعهّد ضمني.. ويُخشى على مَن لم يُراع هذا أن يدخل ضمن مَن توعّدهم الله I بقوله: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (سورة الصَّفِّ: 61/2)، وإذا نظرنا إلى سبب نزول الآية -رغم أن الآية يتعلّق محتواها ومعناها بمساحة أكبر تتجاوز سبب النزول- فإننا سنجد أنها نزلت فيمن لا يتمسكون بوعودهم أيضًا، ومن ثَمّ على الإنسان إنْ وعد بحضور اجتماعٍ ما أن يبذل قصارى جهده أن يكون هناك في الوقت المحدّد، بل عليه إن اقتضت الضرورة أن يذهب قبل موعد الاجتماع بمدة وينتظر أمام الباب، فانتظارنا للآخرين أولى من انتظارهم إيانا، ولكن إن اعترضت هذا الإنسان مشكلةٌ تعوقه عن حضور الاجتماع في موعده المحدد له فعليه أن يتصل هاتفيًّا معتذرًا عن عدم تمكّنه من الحضور؛ حتى لا يتسبب في ضياع وإهدار وقت أصدقائه.
فضلًا عن ذلك لا بد من ترتيب الموضوعات التي سيتمّ التحاور حولها خلال الاجتماع، وأن تُدَوّن بدقّةٍ بالغة في مكانٍ ما، وألا تُترك المسألة لفوضى الارتجال، ومن المهمّ بالنسبة لنا أن تُسجّل هذه الموضوعات بعقلٍ وحسٍّ وقلبٍ سليم؛ وبذلك تظل الموضوعات التي سنناقشها في إطارٍ معين، وإلا قال هذا شيئًا، وقال ذاك شيئًا آخر معارضًا له، وقال ذلك شيئًا آخر تمامًا، وعند ذلك تتدخّل العواطف، وتتشعّب الموضوعات، والحال أن علينا أن نتقيّد بالملاحظات التي سجّلناها من قبل، فإن كانت الملاحظات التي سجلناها تعتمد على عقلٍ سليم فلن تخرج عن الإطار الذي حددناه لها، وبذلك لا يضيع وقتُنا سُدًى.
وهناك مسألة أخرى كثيرًا ما نوهت بها في مناسبات مختلفة، وهي عدم إطالة المكالمات الهاتفية دون داع، فأحيانًا تطول المسائل التي نتحدث عنها في الهاتف، ويشكّل الجزءَ الأكبرَ فيها ألفاظٌ مثل: يعني.. وكيف.. ونعم.. بيد أننا لو دوّنّا هذه الموضوعات التي نتحدث عنها في الهاتف من قبل لقرأناها من المكان الذي دونّاها به، ولما أسرفنا في استعمال الهاتف، ولا ضيّعنا وقتَنا دون داع، فأحيانًا يكون هناك أمرٌ لا يستغرق الحديث عنه سوى دقيقتين ولكنه يطول إلى أكثر من نصف ساعة لأنه لم يُعدّ ويُدوّن من قبل، بيد أن الأطباء يقولون: إن إطالة الحديث في الهاتف ينتج عنه ورمٌ بالمخ والعياذ بالله، وبما أننا نثق في كلام الأطباء في هذا الموضوع فعلينا أن نتحرّى الدقة، حتى لا نقترف ذنبًا.
حمادى القول: إن علينا نحن المؤمنين أن نضع نظامًا ومعيارًا معيّنًا لأحوالنا وسلوكياتنا، فيجب أن نتقيّد بالانضباط في قيامنا وقعودنا وحركاتنا وحديثنا، وأن نعيش حياتنا وفق المنهج والمبادئ السماوية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] صحيح البخاري، الإيمان، 29؛ سنن النسائي، الإيمان، 28.
[2] انظر: سنن الترمذي، القيامة، 55.
[3] صحيح البخاري، التهجد، 20؛ صحيح مسلم، الصيام، 181.
[4] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السابعة عشر، المذكرة السابعة، ص 170.
المصدر: من كتاب “جهود التجديد”