سؤال: كيف نستلهم وعي الصحابة ونحافظ عليه؟
الجواب: وعي الصحابة هو أفق الوعي، في مستهَل حديثنا ندعو الله تبارك وتعالى ونتضرع إليه أن يُبصّرنا بهذا الوعي لنستشعر حقيقته، وأن يجعل من وعينا بخدمة الإسلام معينًا لآلامنا متدفّقًا على الدّوام، وأن يُشيع بهذا الوعي نوى تلك الآلام في صدورنا، وأن يشغلنا عن أولادنا وعشّنا الدافئ بما فيه من راحة وسكينة حتّى ينعم الآخرون بتلك السكينة.
واليوم لو كنت أهلًا لابتهلت إلى الله الآن أن يهبني بذور هذه الآلام؛ فأطوّف بها في البيوت كلها، وأنثرها على صدور هؤلاء المؤمنين الذين يغطون في سباتهم ولا يستيقظون حتّى يتحسّروا ويتأوّهوا، فإذا ما باتت عقولهم تمتعض من تلك الآلام هبّوا من رقادهم، وطوّفوا في ردهات منازلهم ودهاليزها، فإذا رأيتهم حسبتَهم مجانين، ولستُ أرى النابهين الذين يصنعون المستقبل سوى هؤلاء المجانين.
بل إنّ لنا أن نذهب إلى أنّه لا يكمل دين من لا يهمه أمر دينه أو من لم يُصَب بمسّ الجنون أسًى له وحزنًا عليه. أجل، إننا لننشد وعيًا في مثل هذا المستوى، والحق أنه شاقّ؛ إذ الألم مصدره، والتضجر صبغته، بيد أن ما جاءنا منه سبحانه فأنعِم به وأكرِمْ، سواء كان وردةً طريّة أو شوكةً قويّةً، فإنعامه شائق، وقهره رائق، ولا ريب أن المكابدة والمعاناة في سبيل الدعوة أعذب من هذا كلِّه.
وتتصدّر الرّاحة والدّعة قائمةَ العوامل التي تفسد الإنسان، وحيثما هبت رياح الفتور فثمّة نفر يسترخون تحسبهم أمواتًا كأنما غشيتهم رياح السموم، وبدهي أنّه لا يتسنّى لنا فعل شيء في هذا الصنف من الناس.
لا بد لنا من جوار صُهارة المعاناة ونيران الآلام في سبيل مستقبل شعبنا ومصيره؛ فالجرانيت -كما تعلمون- يتشكّل قريبًا من صهارة البركان ويتصلَّب ثمَّة حيث يطوِّق الصُهارةَ ويَحُولُ دون اندياحها، فلا مناص من أن نحيا في أُوار اللهب والنيران بل حتّى في حمم البركان، كلّ ذلك في سبيل أمّتنا وبلادنا وفكرنا… وهذا هو عين الوعي الذي نبتغيه، لكن من أين السبيل إلى ذُرَى معاليه؟
لا أُخفيكم أنّ بلوغ مثل هذا الوعي دونه خرط القتاد، بيد أنني سأبذل وسعي لاستعراض شيء من خصائصه وسماته في بضعة محاور:
1- التفكر في الآيات الكونيّة: فلا بد من سبر أغوار كتاب الكون يوميًّا، وإجالة النظر في الوجود والحوادث على الدوام، ومراقبتها وتأمّلها عن كثب، فالتفكر مكّوك ينطلق بالإنسان ويجول به أرجاء الكون كلّه دَفعةً واحدة، بل إنه لَيمضي به قدُمًا لِيخبُرَ أغوار الحوادث والموجودات.
والتفكر ميناء يمخر من خلاله الإنسانُ عُباب الكائنات ليرسو على ضفاف الأسماء الحسنى فإذا بها تُسْلِمُهُ إلى مسمَّاها المقدّس، فيغشى دائرة الصفات في دهشة تغمره وحيرة تقهره، فإذا ما بلغ الإنسان تلك الرتبة اصطبغت مشاعره برضوان من الله وطاوعَت أفكارُه أوامرَه؛ وإن شئت فقل في تلك الرتبة إنها مرتبة “الفناء في الله”، ومن بلغ هذا المقام ألفيتَه يعمل لله، ويتحرك ويسكن ويأكل ويشرب في سبيله، ويطوّف في دائرةٍ يرضي بها ربّه ويبتغي بها وجهه.
إن مكّوك الفكر يرقى بالإنسان إلى الله صُعُدًا؛ لذا رُويَ: “فِكْرَةُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً”[1]، إذ إن العبادة ترقى بالإنسان إلى ربّه أفقيًّا، أما التفكّر فيقرّبه من الله ويرقى به إليه سبحانه عموديًّا؛ ومن هنا شبهتُ التفكر بالميناء والمكّوك؛ فالإنسان بالتفكر كأنّه صاروخ يرتقي قممًا، يبلغ آفاق سماء القرب الإلهي بلمح البصر، فتحفّه السكينة ويغشاه الاطمئنان.
2- وردٌ دائم من الكتب المفيدة التي تفيض علينا بالعطاء والبركة على قدر صلتنا بها، وتخصيص وقت مبارك لقراءتها يوميًّا، وجعلها جزءًا من حياتنا.
3- العكوف على قراءة الآثار التي استعرضت حياة الصحابة الكرام رضي الله عنهم للتأسّي بها، فهذا من شأنه أن يشحذ طاقتنا الميتافيزيقية الدافعة، ونستكشف به طريقنا نحو استلهامنا لوعي الصحابة، فهم الأسوة، وهم مشاعل الهدى، بل هم أشبه بالنجوم التي في السماء كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: “مَثَلُ أَصْحَابِي مَثَلُ النُّجُومِ، مَنِ اقْتَدَى بِشَيْءٍ مِنْهَا اهْتَدَى”[2]؛ وعليه، فمن لم يتجمّل بالصفات التي امتاز بها الصحابة الكرام من تطوّع ومحويّة وإيثار ولم يتحمّل ما كانوا يكابدونه من ألم ومعاناة، ولم يظفر بذاك الوعي الذي قامت عليه هذه الصفات جميعها فأنّى يُدرِك شأوهم أو يَعمل على شاكلتهم؟
هلمَّ لتشهدوا عامّة ما حاولت عرضه عليكم من خصائص هؤلاء الصحابة لا سيما إيمانهم وحركتهم التي بذَّت المعايير الإنسانيّة كلّها: تخيلوا في هذا المقام إن شئتم حياة عبد الله بن جحش أو سعد بن الربيع أو عكرمة بن أبي جهل الذي لم يُمضِ من حياته في الإسلام سوى سنة ونصف، أو عمه الحارث بن هشام، وإن الأماني ستنبعث فيكم إبّانها تترى فيما أرى، ولسوف تلهجون بلسان واحد: يا ليتني كنت مصعبًا، أو ابن جحش أو حمزة أو ابن هشام أو عكرمة…؛ أولئك الذين أشفى بعضهم على شفا جرف جهنم، وبغتةً رأيناهم عانقوا الإسلام بضع دقائق في آخر رمقٍ من حياتهم وقالوا: “بسم الله، يا الله” فعرجوا في لمح البصر إلى أعلى علّيّين، فإذا ما عاينتم ذلك جاشت مشاعركم وتمنيتم أن لو كنتم مثلهم وقال قائلكم: “يا ليتني كنت معهم”، ولعل في هذه المشاعر كافّة ما يُلهِب مشاعركم، وتختمر به مِثلَ ما للصحابة من وعي لديكم.
4- ومن الأهمية بمكان ارتياد محاريب العلم والمعرفة التي تخدم الإنسانية حتى يتسنى لنا الحفاظ على ذلك الوعي الذي اكتسبناه، فليس الخبر كالمعاينة، فلربما كانت المعاينة أوقع أثرًا عند كثير من الناس، وهناك أمثلة ونماذج كثيرة على هذا، ولذا فلو شعرنا بضعف في طاقتنا الميتافيزيقية الدافعة فما علينا إلا اللجوء إلى مثل هذا الحلّ، والعمل على تجديد وإنعاش هذا الوعي.
[1] أبو الشيخ الأصبهاني: العظمة، 1/299.
[2]القضاعي: مسند الشهاب، 2/275.