سؤال: كثيرًا ما يقال إننا إذا ما قارنّا أحداث اليوم بما مضى من أحداث على مدى التاريخ، فسنجد أننا نحظى بأنواع وأنواع من اللطف الإلهي؛ فما هي واجباتنا جميعًا وفرادى ليدوم علينا هذا اللطف الإلهي ؟
إن كثرة الحديث عن الرحمات الربانية التي تتنزّل علينا زخًّا زخًّا يدخل في باب ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (سُورَةُ الضُّحَى: 93/11)، علينا أن نذكرها، لِمَ لا ونحن أبناء مرحلة مجدبةٍ وأراضٍ قاحلة متشقّقة أقفرتْ من الرُّوحانيات، وأبناءُ عصر نتلوّى فيه ظمأً إلى قطرةٍ من غيث المعنويات؟! لقد لطف الله بنا ورعانا، فأخرجنا من تلك الأيام القاحلة إلى هذه الأيام، بيد أن إحاطة عناية الله بنا ولطفه وكرمه شيءٌ، ودوام ذلك كلّه شيءٌ آخر.
إنني أرى أن الاستقامة على النهج القائم بلا نكوص إلى الوراء ولو خطوة هي أول ما ينبغي أن نقوم به لتستمر هذه النعم وتدوم؛ مثلًا عندما نضبط قنوات المذياع ونعثر بدايةً على القناة التي نبحث عنها، نتوقف عندها، ولا نحرك المؤشر على القنوات الأخرى؛ قد نحركه على القناة حركة خفيفة يمنة ويسرة لنعثر على أوضح ذبذبة؛ وهكذا ما نحن فيه تمامًا، فعلينا من منظور دائرة الأسباب أن نحافظ على الخصائص التي تنزلت بسببها هذه النعم، وذلك مثل الهمّ والدعاء والفكر، ولا تكفي المحافظة عليها، بل علينا أن نعززها ونرقى بها أكثر من ذلك؛ هذه هي أول خطوة لاستدامة اللطف والإحسان المنزَّلِ علينا.
أمر آخر: علينا أن نسعى لبلوغ الذروة في الإخلاص والتقوى والزهد والقرب من الله فيما نضطلع به من أعمالٍ، وأن نسعى إليها ما حيينا، وإلا فلا مفر ألبتة من أن تحيط بنا غوائل “الهجمات الست”[1] إحاطةً تامّة إذا ما مُنِيَ روحُ الفكر والحركة بالضمور، وعندئذٍ قد نقع في شراك إحدى هذه الغوائل التي تهوي بنا في الدوائر الفاسدة العاملة لحساب بعضها المتصلة فيما بينها أيّما اتصال، فنهلك؛ فبين هذه الجراثيم الفتّاكة شبكة اتصال عجيبة جدًّا، إذا دخل أحدها الجسمَ وحطّم مقاومته أرسل من فوره إلى غيره من الجراثيم إشارة: “هيا تعال أنت أيضًا!”؛ وعلى هذا فهي تبدأ الهدم والتخريب في البنية التي تدخلها من خلال تكوين شبكة اتصال معنويّة فيما بينها وكأنها تَبْرُقُ إلى بعضها، وتشكل دائرة فاسدة.
وللتوضيح أكثر نقول: جرثومة الخوف عندما تغزو بنية الإنسان قد تستدعي جرثومة حبّ الراحة والدَّعَة، وإذا ما ضعفت مقاومة الجسد أكثر قد تتلقى جرثومةُ حبِّ الشهرة الإشارةَ، فتنقضُّ على الجسم فورًا؛ فيتعذر على الجسد استعادة طاقته مرةً أخرى ما لم تدركه عناية الله! أجل، لو لم يكن هناك لطف وعناية خاصة، لاستحال النهوض ثانيةً بعد هذه المرحلة.
إذًا علينا أن نسعى لنحافظَ على تنعمنا بلطف ربِّنا، ولنبلغ مراتب أعلى من مرتبتنا الحالية قائلين: “هل من مزيد؟”، لئلا نُمنَى بتلك الهجمات والكروب.
أجل، كلُّ فضلٍ يستوجبُ شكرًا من جنسه، فإنعامُ اللهِ علينا بالإيمان وبالوعي بمهمة إرشاد الآخرين إليه -وتلك هي غايتنا في الحياة كما أشرْنا مرارًا- يقتضي شكرًا من جنسه؛ فبهذا الشكر وباستمراره يستمرّ اللطف والإنعام، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 14/7)، لاحظوا يقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ لكن لم يقل في مقابله: “وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّ كُفْرَكُمْ”، بل قال: ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، فبينما كان سبحانه يدعونا إلى الصراط المستقيم، أخذ يذكّرنا بطريق إحراز النِّعم والوقاية من العذاب؛ فشكرُ نعمة الإيمان يتحقق بإرشاد الآخرين إلى الإيمان عسى أن نحظى بِنِعَمٍ جديدة، وفي هذا المقام نسأل الله أن نزداد يقينًا، وأن نحظى بالقرب منه أكثر، وكان الأستاذ النورسي عندما يفسّر آية: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/3)، يعمِّمُ، فيقول: كما أن للمال زكاة فإن للبدن والذكاء والذاكرة والمحاكمة العقلية زكاة، حتى إنّ للخِطاب زكاة تلائمه أيضًا[2]؛ فأعطِ كلّ ذي حقٍّ حقَّه، وقابل كلَّ نعمةٍ بشكرٍ مِنْ جنسِها كي يتتابع إغداق تلك النعمة عليك.
منهج آخر لا بد من اتّباعه في هذا الشأن، وهو مراقبة جوّانيتنا بالتناصح فيما بيننا كما كان الصحابة الكرام يفعلون، فلو تأمّلنا عصر السعادة، لرأينا كلمات رجوليّة جليّة صريحة تناصح بها سادتنا الصحابة الكرام، فإذا اتخذناها نموذجًا فبوسعنا أن نطبق ذلك فيما بيننا وفق درجاتنا؛ أي يمكن أن نُوعِزَ إلى الآخر بأن يقوّمنا، فنقول: “إذا رأيتني يا أخي على خطإٍ، فخذ بيدي وانهض بي من عثرتي وحذرني، فإنني لن أتكبّر على قبول هذا”. نعم، يمكننا أن نختار شخصًا يقوّمنا إذا ما اعوجَجْنا، ومن المهم هنا ملاحظة المعيار الذي عبر عنه الأستاذ بقوله “دون هتك الستر”.
أرى أنه من الضروري لمن يتضرّع ويتبتّل قائلًا: “إلهي، لا تكلني إلى نفسي طرفةَ عين” أن يفتح هذا الباب لأصدقائه، ويعدّ التوجيه والنصح “أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر”؛ فكل من صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي كان يستمع لنصح شخصٍ ما، وكان السلطان سليمان القانوني يستمع لنصائح أبي السعود أفندي… فمن نحن حتى نغلق الأبواب دون نصائح كتلك، ونصدّ من يوضّح لنا عيوبنا؟
والحاصل أن الله سبحانَه لن يغيِّر ما بنا حتى نغيّر ما بأنفسنا، وللقيام بهذا وتحقيقه لا بُدَّ لنا من إخوةٍ أوفياء يؤازروننا لمواجهةِ أنفسنا الأمَّارة بالسوء، ولا يتركوننا وشأنَنا.
[1]رسالة “الهجمات الست” للأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، يبين فيها كيف يمكن للإنسان سد طرق الدسائس الست لشياطين الإنس والجن، وهي: حب الجاه والشهرة، والخوف، والطمع، والعصبية، والأنانية، وحب الراحة والدعة. (بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: المكتوبات، المكتوب التاسع والعشرون، القسم السادس).
[2] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: إشارات الإعجاز، ص 51.