﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(النِّسَاء:18)
لحظة اليأس هي اللحظة الأخيرة في حياة الإنسان الذي لم يُقبل إيمانه. ولكن من المهم تعيين بداية هذه اللحظة. هذه البداية تكون في الآونة التي ييأس فيها الشخص في لحظاته الأخيرة من العودة إلى الحياة الدنيا والعيش فيها بكامل شعوره. وفي نظرة أخرى هي اللحظة التي ييأس فيها الشخص المشرف على الوفاة والملتفون حواليه من عودته إلى الحياة الدنيا.
أجل! يُقبل إيمان المرء حتى في لحظاته الأخيرة -ما دام مالكاً لقواه العقلية- إن استطاع الإيمان. وهذه هي اللحظة التي كرر فيها الرسول صلىوسلما طلبه الإيمان من عمه أبي طالب. ولكن أبا طالب ذكر -نتيجة لضغوط خارجية- بأنه “يموت على ملة عبد المطلب”. وحادثة أخرى يستحق الوقوف عليها هي حادثة الصبي اليهودي المريض. فقد زار الرسول صلىوسلمه صبياً يهودياً مشرفاً على الموت فلقنه أن يقول: “لا إله إلا الله”فنظر الصبي إلى والده كأنه يستأذنه، فأشار إليه والده بالقبول فانطلق الصبي يعلن إيمانه ويتلفظ بكلمة الشهادة. إذن فما دام الشعور غير مختل فإن أبواب السماء تكون مفتحة لقبول الإيمان.
أجل! لحظة اليأس -أي اللحظة التي لا يقبل فيها الإيمان- هي اللحظة التي لا يملك فيها الإنسان شعوره وهو على وشك مغادرة الدنيا ولا يُقبل فيها إيمانه. ولكن إن حصل العكس، فإنه ينظر إلى نية الشخص في تلك اللحظة وشعوره وقناعته كبذرة ستنمو في الحياة البرزخية وفي حياة الحشر وتكبر لتكون باقة جزاء ومكافأة له.
إذن فما دام الشخص قبل لحظة الاحتضار لم يقطع أمله من العودة إلى حياة الدنيا ولم ييأس منها فإن التوجه من الكفر إلى الإيمان يكون مقبولاً على الدوام. فإن كان الوضع معكوساً كان له حكم مختلف. أي إنه إن تم قطع الأمل من الدنيا وفتحت أستار النظر إلى حياة العقبى فإن الفرصة تكون قد فاتت. لأنه لم يعد هناك مجال للقيام بأي عمل صالح وإن كان كلمة طيبة. والرحمة الإلهية تعطي فرصة للذين لوثوا حياتـهم الدنيوية بالفسق والفجور إن آمنوا وتابوا وذلك حسب فحوى الآية الكريمة ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ (الزمر: 53).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾(النِّسَاء:29)
عندما يقول القرآن “لا تأكلوا أموالكم بينكم بالبـاطل”يستعمل تعبيراً شاملاً. فهو يوجه الأنظار إلى حرمة أكل الأموال العامة إلى جانب أموال الأقرباء وذي الرحم أو استعمال أمتعتهم دون رضاهم. فكما يدخل في هذا الإطار النهب والسرقة يدخل فيه الغصب والربا والميسر والإسراف والسفاهة في صرف الأموال وتحصيل الأموال بطرق غير مشروعة. أما الربح الناتج عن طريق مبادلة الأموال برضا جميع الأطراف، والربح الناتج عن التجارة -وهي المذكورة هنا لأنها أهم طريق ووسيلة للربح- فهو ربح كاف للمعيشة فلا تبقى هناك حاجة ولا ضرورة للولوج إلى طرق الحرام ولا إلى الطرق المشبوهة.
ويمكن فهم ملاحظة ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم﴾ الواردة في الآية على معنيين:
1- إن من يرتكب إثم التورط في الربا أو الميسر أو الرشوة… إلخ من طرق الحرام فإنه يكون بذلك قد قتل نفسه معنوياً وقضى عليها.
2- إن الناس إن دخلوا في أي معاملات محرمة وباطلة وظالمة في كسب الأموال وإنفاقها وكل تصرف من هذا القبيل، وقبول أي مبدأ مستند إلى هذا كالرأسمالية أو الليبرالية المفرطة أو حتى البراغماتية والميكافيلية سيؤدي إلى ظهور نظم أخرى كردود فعل لها كالشيوعية… وهكذا تفتحون الباب أمام القتلة والسفاحين وإلى عمليات التشريد.
أجل! إن دخلتم من البداية في مثل هذه الأنظمة فالنتيجة هي أنكم ستقومون بقتل بعضكم بعضاً. لذا فلا تدعوا الإسلام وتهملوه فتدخلوا في سبل ضالة مختلفة تكون نتيجتها أن بعضكم سيقتل البعض الآخر. أجل! إن حال الدنيا التي يتم فيها تطبيق هذه الأنظمة شاخصة أمام أعيننا وهي تؤيد وتصدق هذه الآية الكريمة.
3- ظاهر الآية متوافق تماماً مع معنى النهي عن الانتحار أي قيام الشخص بقتل نفسه. غير أنه يوجد هناك بعض الجوانب الأخرى لهذه الآية. فمثلا إن الإخلال بالتوازن الموجود بين الطبقات والفئات المختلفة للمجتمع يجر ذلك المجتمع إلى الأزمات وإلى صراعات داخلية. كما أن قيام بعض الجاهلين -انطلاقاً من مفهومهم الخاطئ عن الزهد- بترك الطرق المشروعة للكسب، واختيار الفقر وشظف العيش يجر الأمة إلى الضعف والهلاك. كما أن استيلاء احدهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة أو تحريض الآخرين على هذا الغصب والاستيلاء غير المشروع يجعله مستحقاً للقتل. وهذه بعض النقاط المفهومة من الآية.
وتتجلى رحمة الله الواسعة والشاملة بقيامه بالهداية إلى أسلم السبل، وهذا هو المنتظر من الله الرحمن الرحيم.
﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا﴾(النِّسَاء:31)
عند عرض هذه الآية الكريمة يذكر الحديث الآتي عادة: “اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسـول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسـحر وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق وأكل الربـا وأكل مال اليتيم والتولي يـوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات”.
وأنا أريـد هنا التوقف قليلاً على “التولي يوم الزحف”الوارد في هذا الحديث الشريف. ومعناه النكوص على العقبين والهرب في يوم القتال والجهاد. وهذا هو معنى استعمال تعبير “التولي يوم الزحف”. وهذا يعني أن الكفاح إن كان مستمراً مع عالم الكفر وإن لم يكن كفاحاً وصراعاً حاراً، أي حتى لو كان حرباً باردة ساحتها الثقافة والتربية والتعليم والسياسة والفن… الخ من الساحات المختلفة والمهمة التي يجري الصراع فيها في أيامنا الحالية مثلا فإن المؤمن المنسحب والمتقوقع على نفسه -حتى ولو كان بنية زيادة كماله الروحي- سينطبق عليه هذا الحديث النبوي ويكون آثماً. فإن كان هناك من وعى ضرورة مثل هذه الخدمة والدعوة ثم نكص على عقبيه في أثناء الكفاح مهما كان نوع هذا الكفاح فلا شك أنه يرتكب بذلك إثما كبيرا. هذا علاوة على أن مثل هذا التصرف سيضعف الروح المعنوية في الجبهة الإسلامية، ويُسعد الأعداء ويغمرهم بالفرح، وهذا ذنب إضافي.
وعند ترك هذه الكبائر المؤدية إلى الهلاك -والتي توقفنا عند واحدة منها فقط- فالله تعالى يعد بمغفرة الأخطاء التي لم تقترن بالإرادة والقصد وبمغفرة الذنوب التي لا تعد من الكبائـر. وهذا يعد تطهيراً إلهياً واستحقاقاً لحياة سـعيدة في حياة البرزخ وحياة الآخرة، ونيل سعادة التجول في جنان الجنة ونيل الحظوة والسعادة في رؤية جمال الله تعالى.
أجل! إن الأبطال الذين يعرفون كيف يتمردون على الآثام سيدخلون قبورهم مدخلاً كريماً كالقواد الظافرين. وبنفس مطمئنة يسيحون في الحياة البرزخية، وبنفس الاطمئنان والفرح والحبور سـيدخلون الجنة ويشاهدون ويتطلعون إلى الجمال الإلهي. ذلك لأن الكفاح في سـبيل عدم الوقوع في الإثم يعادل تماما الكفاح في سبيل عمل الحسنات والخيرات. فإن اعتبرنا الجوانب السلبية والإيجابية للأعمال بُعداً من الأبعاد، فإن الثبات في كلا الجبهتين “أي عمل الخير واجتناب الشر”يشكل نجاحاً كبيراً ويوصل الإنسان بسرعة الصاروخ إلى عاقبته الطيبة المقدرة له.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(النِّسَاء:56)
يشرع أكثر المفسرين عند تفسير هذه الآيـة ببيان هول وعظم عذاب جهنم بذكر الحديث النبوي الشريف الذي رواه ابن عمر رضي الله عنه: “يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام وإن عظم جلده سبعون ذراعاً وإن جلده مثل أُحد”.
والإطار العام لهذا الحديث هـو وصف عذاب جهنم ووضع الذيـن يتعرضون لهذا العذاب. وأرى أنه من الممكن فهم هذا الحديث على الصورة الآتية أيضاً:
إن الإنسان يتطور ويترقى من النـاحية الروحية. مثلاً يلتذ أحدهم في صلاته عشرة أضعاف لذتك أنت. إذن فقابليته في التلذذ قد ترقى كثيراً. والأمر نفسه موجود في الشعور بالألم أيضاً. والشخص الذي رهفت عنده هذه الناحية يتألم من أبسط الأشياء، ويصاب بالأرق، وقد يغمى عليه جراء ألم في أسنانه. لذا قال أكرم الأنبياء: “إني أوعك كما يوعك رجلان منكم”. إذن فكما يزداد الألم بكبر الجسم وتضخمه في الآخرة فإن زيادة الشعور بالألم في جهنم -بسبب حكم عديدة- قد يُعَبّر عنها هكذا أيضاً. والحقيقة أنه لا تضخم الجسم بسبب المعاصي والذنوب ووصوله إلى ضخامة الجبال، ولا تضخُّم المعاصي والآثام وتوسعها سعة الروح ليتعذب الإنسان بحسبها “أي حسب هذه السعة”ليس مما ينافي العقل. فسعة العلم الإلهي وقدرته وإرادته المحيطتين بكل شيء تستطيعان تحقيق ذلك في كل زمان ومكان. ونحن نلتجئ إلى رحمته الواسعة ونسأله أن يشملنا بها وأن يعاملنا حسب هذه الرحمة الواسعة.
﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(النِّسَاء:114)
توجد إرشادات عديدة في هذه الآية الكريمة متعلقة بالخدمات الدينية اليوم. ففي عهود كالعهد الذي نعيش فيه وفي العهود الأخيرة من تاريخنا القريب عندما تكون الدعوة إلى الإسلام وتبليغ رسالته الشافية للإنسانية صعباً بسبب بعض العوامل السلبية، فإن هذه الدعوة وهذا التبليغ سيتم سراً وهمساً، أي على قاعدة “وليتلطف”. وتذكر الآية الكريمة أعلاه بأن هناك أجراً كبيراً لمن يقوم بهذا. وكما هو واضح فالله تعالى يضع الثواب بشكل مطلق ودون أي تحديد لكي يثير أشواقنا وَوَجْدَنَا ويزيده كما جاء في الحديث القدسي حول الصوم “الصوم لي وأنا أجزي به”.
المشاعر السيئة والعادات الخبيثة والأفكار المنحرفة السوداء، والحيل المحبوكة ضد المؤمنين، والمؤامرات والدسائس المطبوخة تجاههم أمور سوداء منشأها ومولدها من الشر، لا ينفذ منها أي بصيص من الخير حتى لمن كان من ورائها من الأشرار لأنـهم لن يستفيدوا منها. أما المشاعر الصادقة المخلصة كالأمر بالصدقة ونشر الخير والجمال والمعروف والإصلاح بين الناس فمشاعر مختلفة… ومن يفعل هذا وهو يبتغي بعمله وجه الله تعالى ورضاه ولا سيما في مثل هذه الظروف غير المواتية وغير الطبيعية والتي تقتضي السرية في أعمال الخير فانـه سيكافأ مكافأة عظيمة ويأخذ أجراً كبيراً. أولاً لعمله وثانياً بالنظر للظروف غير الملائمة.
أجل! يمكن تأسيس مؤسسات مدنية مختلفة غايتها تحصيل الرضا الإلهي لتحقيق هذه الأمور الثلاثة مع شروط وجود الشورى في هذه المؤسسات، لأن كل مسألة من هذه المسائل الثلاث لها أبعاد اجتماعية مهمة. وفي أمثال هذه المسائل التي تتعلق بقوانين المجتمع وحقوقه فإن من الحكمة اللجوء إلى حكمة الشورى التي أوصانا بـها الرسول صلىوسلمل في جميع الأمور.
وعلى العكس من هذا، فإن على المؤمنين الحذر من أي تجمع غايته التهامس بالشائعات حول هذا أو ذاك، أو القيام بتشكيل جماعات سرية، والحيلولة دون تشكيلها إن أمكن.
﴿لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ َلأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَ َلأُضِلَّنَّهُمْ وَ َلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ َلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَ َلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾(النِّسَاء:118-119)
هذا الكلام الوقح الذي تكلم به الشيطان مع الله تعالى والوارد في هذه الآية وفي آيات عديدة أخرى: إما أن الله تعالى سمح به وأذن له بهذا. وإما أنه -حسب بيان العديد من المفسرين- ما جال في خاطره وما اقتضته فطرته، وأن الله تعالى أخبرنا به.
وسواء أكان هذا بيان لسان حال الشيطان، أو دمدمة فطرته، فإنه يبين عزمه على الانتقام من عباد الله الذين لم يصلوا إلى مرحلة الإخلاص. وإن اللعبة الشيطانية الأولى التي جرت معه على سطح هذه الأرض، مستمرة اليوم من قبله ومن قبل أتباعه فهم مستمرون في محاولة فتنة الناس وخداعهم بالأماني الباطلة، ومحاولة دفع الإنسان لتبديل فطرته وفطرة الإنسان والمخلوقات الأخرى، وإفساد التوازن في هذه الفطر. وكما أن إقامة التوازن الروحي للإنسانية مرتبطة بالابتعاد عن طريق إبليس، فإن المحافظة على التوازن في الطبيعة -ومن ضمنها الإنسان- مرتبطة بـهذا الابتعاد. والذين يدخلون إلى طريقه الضال في خسران مبين ومن أصحاب الحظ النكد. أما الذين وفقوا للابتعاد عنه فهم المحظوظون القريبون من الله تعالى.