﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(الفَتْح:29)
إذا أردنا إجراء مقارنة مرتبطة بهذه الآية بين اليهودية والمسيحية والإسلام نقول:
أرسـل النبي عيسى عليه السلام إلى مجتمع مادي إلى درجة كبيرة. ولإصلاح مثل هذا المجتمع المادي خرج النبي عيسى عليه السلام بديـن روحاني فاصلح أفكارهم وميولهم المادية.
أما المجتمعات التي أقامت الدين على أساس من الوثنية فمن الصعب جدا التخلص من إيحاءات هذا الدين الوثني والوصول إلى فكر ديني جديد. وقد قام السيد المسيح عليه السلام بتعديل الغلواء المادي للمجتمع الذي بعث إليه وفتح أمامه بابا للروحانية. وفي الوقت نفسه أسس توازنا بالوحي السماوي بين الروح والمادة دون إفراط أو تفريط بأحدهما على حساب الآخـر. ولكن الذين جاءوا من بعده من منتسبي هذا الدين لم يستطيعوا الحفاظ على هذا التوازن. لأنهم اتجهوا بمرور الزمن نحو الروحانية إلى درجة إنكار المادة. والقرآن الكريم يذكر أنهم ابتدعوا رهبانية لم يراعوها حق رعايتها وكانوا يظنون أنهم وصلوا إلى قيم سامية فوق جميع القيم الأخرى، بينما لم يكتب الله عليهم هذه الرهبانية. من أجل مرضاة الله ابتدعوا شيئا لم يكن في روح الدين، ثم غُلبوا على أمرهم تحت ثقل ما ابتدعوه، وابتعدوا عن أصل الدين. بينما كانت الطيبات واللذائذ في الإطار المشروع مباحة وكافية من جهة وضرورية من جهة أخرى. فالحياة العائلية والأولاد من ضروريات الحياة وحاجاتها للإنسان. وعندما استنكف البعض منهم من هذه الضروريات الحياتية لوثوا حياتهم بالأشكال غير المشروعة من هذه الحاجات.
نجد في النصرانية أشكالاً أخرى كثيرة أمثال هذا التغيير والتبديل، فنجد في إنجيل يوحنا “من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر”. وقد يمكن تقييم هذا المعنى وهذا الروح اليوم بالنظر إليه وكأنه شكل آخر من التعبير الآتي الدارج “كن تجاه من يضربك بلا يد وتجاه من يشتمك بلا لسان”. غير أن الخطأ البارز هنا أنه يقود الناس إلى التسليم بالظلم وقبوله وهذا شيء خاطئ. لأن الظالم لا يشبع أبدا من الظلم. وقد تعرضت المسيحية في بداية ظهورها إلى أنواع مختلفة من القهر ومن الضغوط، ولم تجد أمامها فرصة سانحة للتعبير عن نفسها. فأمام هذا الظلم تم تلقينهم بعدم مقابلة الاعتداء بالمثل. ثم أصبح هذا سمة خاصة وطبعاً خاصاً بهم فيما بعد. وتبنوا مبدأ عدم الحرب وعدم مجابهة الاعتداء أو الكفاح ضده والعيش في حياة رهبانية. ولكن عندما نتفحص مدى انعكاس هذا الأمر في الحياة الواقعية والعملية نرى منظرا قاتما لا ينسجم مع هذا المبدأ. لأننا نراهم يقومون في مختلف أرجاء العالم بسلوك مخالف تماما لهذا المبدأ مع الأسف ويشبعون الحاجات الفطرية الموجودة لدى الإنسان بطرق غير شرعية، وبالتسبب في حروب لا تزال آثارها تمتد إلى يومنا هذا، وفي القضاء على أنفس بريئة ظلماً ودون وجه حق.
إن الحركة الإصلاحية التي جاء بها السيد المسيح عليه السلام، فتحت الطرق المؤدية إلى مفخرة الإنسانية وخاتم الأنبياء صلىوسلمل الذي كان قد بشر به أيضاً. ولكن الذين جاءوا من بعده قاموا كرد فعل للإفراط اليهودي المادي بالتفريط وأنكروا المادة. والآية الطويلة في آخر سورة الفتح تشير إلى هذا الموضوع وتنيره. ونحب إيضاح بعض الأمور فيما يتعلق بهذه الآية:
تبدأ الآية بـ﴿مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ﴾، أي بدأت بالتأكيد على نبوة ورسالة رسولنا صلىوسلمر . ولأنه تم بيان هذه الحقيقة في أماكن مختلفة من القرآن، فقد ذكرت هنا بشكل مجمل. أما هذه الآية فقد قامت بتسليط الأضواء على الناس الموجودين حواليه من صحابته بمختلف أوصافهم وصفاتهم، وبجوانبهم المختلفة.
حقيقة ﴿مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ﴾ حقيقة مهمة وحيوية جدا وقد قال الشاعر سعد الشيرازي وكذلك الأستاذ النورسي عنها في كتابه “المكتوبات”: “من المحال وجود أمان أو طريق آمن دون ذكر “محمد رسول الله”. وقال المفكر والأديب التركي المعروف “نجيب فاضل”عند بيـان هذه الحقيقة بأن الفيلسوف باسكال جرى خلف الحقيقة وأوشك أن يدركها، ولكنه لكونه لم يقل “محمد رسول الله”لم يلحق سفينة النجاة وفاتته مع أنه كان قد بلغ حافة الميناء. أجل!… فمن لم يصل إلى رسولنا صلىوسلمر فمن الصعب عليه بلوغ ساحل السلامة.
والآن لنرجع إلى جهة علاقة الآية مع موضوعنا: كل من بلغ معية النبوة مع النبي بلغ المعية الإلهية. فمن هذه الجهة يجوز أن تكون المعية مع رسولنا صلىوسلمق في العالم المادي وعالم الخلق كمسقط هندسي للمعية الإلهية في عالم الأمر. وعندما نقول المعية النبوية نقصد ما جاء في آية ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾. أما تكملة الآية فتتحدث عن مزايا وصفات هؤلاء الذين استطاعوا الوصول إلى هذا الأفق.
إحدى هذه المزايا أنهم ﴿أشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾. أي أنهم أشداء على الذين قاموا بإخماد قابلية الإيمان في نفوسهم، وكذبوا بكل آيات الله المبثوثة في العالم أمام الأنظار، وانحرفوا إلى الإلحاد والإنكار وحاولوا إطفاء نور الله بأفواههم.
المزية الثانية أنهم ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُم﴾ لأنهم ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُـجَّداً يَبْتَغُونَ فَضَلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً﴾، أي أصبحوا في أكثر الأوضاع قربا من الله. وهم في الوقت نفسه يعلمون أن كل شيء هو من فضل الله تعالى. وغايتهم في نهاية المطاف هي إحراز رضوان الله تعالى والحصول عليه، لـذا نرى أن ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أثَرِ السُّجُود﴾.
﴿ذَلِكَ مَثَلُهُم فِي التَّوْرَاة﴾ والتوراة هي الكتاب المنـزل على موسى عليه السلام ولكن حرف من بعده، فأخذت الأهواء فيها مكان أوامر الله تعالى، وأخذت المادية مكان الروح. وعندما تتناول التوراة وصف الأمة المحمدية تتناولها من الناحية المعنوية والروحية. ومن جهة أخرى ﴿وَمَثَلُهُم فِي الإنْجِيل كَزَرْعٍ﴾ والزرع شيء مادي يظهر من البذور. والبذرة جسم مادي محمل ببرنامج الحياة مثلها في ذلك مثل البيضة التي تحمل عقدة الحياة أو مثل الحيوان المنوي في الإنسان. ﴿أَخْرَجَ شَطْئَهُ﴾، والشطء أي ورق الزرع أو فراخ النخل شيء مادي أيضا. وفي كلمة “الشطء”تكمن موسيقى كأنها تصور ظهور الزرع. وكل كلمة في هذه الآية مختارة بصورة دقيقة وكاملة، ومشغولة مثل تطريز الدانتيللا.
﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ أي نما وكبر، وهنا أيضاً نجد التشبيه مادياً، لأنه ليس من الممكن استغلاظ الروح أو الناحية المعنوية.
﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ أي قام على ساقه واستوى. وسوق الإنسان هو ساقه، أما في النبات فهو جذعه.
﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ أي يفرح به الزارع الذي بذر البذور في الأرض.
﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّار﴾ ولا تكون هـذه الإغاظة إلا بعد ملء عيـون الآخرين بما يدهشهم ويخيفهم. وكل هذه الأمور متعلقة بالمادة.
إذا تأملنا الآية نرى أن التشبيهات الواردة في الإنجيل تعكس فهما مادياً صرفاً، وتجلب الأنظار إلى الجوانب المحسوسة من الأشياء. أما الحقائق المذكورة في التوراة فلا يوجد في أي واحدة منها ما يمكن لمسه أو رؤيته، أو أي شيء متعلق بالمحسوسات، بل كلها حقائق مجردة كأنها متعلقة بعالم الأمر ومن المفاهيم المعنوية. وهذا الأمر الدقيق مهم جـدا من ناحية فهم وضع سيدنا المسيح عليه السلام. فقد كلف السـيد المسيح عليه السلام بمهمة تعديل مادية اليهود. والإنسان الـذي يأتي بمثل هذه المهمة والوظيفة يجب تجهيزه بما يساعده على هذه المهمة. لقد نشأ أول ما جاء إلى الدنيا في أسـرة جيدة. وتولت مريم عليها السلام التي لا يمكن ذكر امرأة أخرى يمكن أن تدانيها من ناحية التربية. ويذكر القرآن في آيـات مختلفة -بانتقاء ممتاز للكلمات- صفاتها ومزاياها. فهذه المرأة العظيمة كانت مهتمة بعفتها إلى درجة أنها وجلت جدا حتى أمام الملك الذي بدا لها.
كانت أم مريم قد نذرت ما في بطنها لله، أي ليكون خادما في المعبد. ولكن عندما ولدت أنثى حزنت وتأثرت ﴿قَالَتْ رَبّي إنِّي وَضَعْتُهَا أنْثَى﴾. ولكن بما أن النذر كان لجعل المولود خادماً في المعبد فقد تركت مريم في المعبد على الرغم من كل شيء. ونشأت مريم في الجو الروحي للمعبد، ثم حملت باليد المسيح عليه السلام -الذي جاء بمهمة متميزة- بشكل خارق وغير اعتيادي.
والخلاصة أن السيد المسيح عليه السلام ولد من أم كانت حياتها مملوءة بالأشياء الخارقة وغير الاعتيادية، ونشأ في عناية الله وصيانته كإنسان اسـتعلى فيه الجانب الروحي. لأنه أرسـل إلى مجتمع وإلى قوم طغى فيهم الجانب المادي منذ سنوات طويلة، حتى أصبحت المادية عندهم كالدين يصعب جداً هدمه وإزالته أو تغييره وتجديده. مما دفعه إلى النضال مع مثل هذا المجتمع طوال حياته. وعندما أرسل السيد المسيح بهذه المهمة كنبي كان من الضروري أن يكون مجهزا بما يشبع حاجات ومتطلبات مثل هؤلاء الناس، وناضل ضد المفهوم الذي ألّه المادة، وساعده على هذا أنه جاء من غير أب وقام بمعجزات عديدة بإذن الله كإحياء الموتى وإبراء الأمراض المستعصية، وغيرها من المعجزات. وهكذا اسـتطاع تعديل الفكر المادي، وفتح الطريق أمام التفكير المعنوي والروحي، وبذلك مهد الطريق لخاتم الأنبياء والرسل ومفخرة الإنسانية صلىوسلمر .
ولا شك أن النبي العظيم وصاحب مقام الجمع صلىوسلمي الذي جاء بعد هذين النبيين قام بتعديل بعض الأمور المتعلقة بأمتيهما وزمانيهما حسب ما يقتضيه تغير الظروف والزمان، وأن يستخلص من شرعهما -اللذين يبدوان مختلفين عن بعضهما ولكنهما في الأصل أجـزاء من كل واحد- مشربا ومذاقا جديدين، وصراطاً مستقيماً، ولكن هذه الأشياء المستخلصة هي في الحقيقة لمعات من مزاج هذين النبيين الكريمين وأمزجة الأنبياء الآخرين التي تم التعبير عنها في كتبهم.
الله أعلم بالصواب.