﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(الأَنْبِيَاء:10)
يبين الله تعالى مخاطباً الأوائل الذين أنـزل إليهم الكتاب، ثم الذين من بعدهم عن طريق الدلالة والإشارة إلى أنه أنـزل إليهم كتابا فيه شرفهم ورفعتهم، ويذكرهم بهذا بصيغة تأكيدية ليوجههم إلى آفاق الشكر والحمد.
نستطيع ذكر ما يرد للخاطر من هذا الذكر:
1- التذكير بالوسائل الحقة وبالوسائل الصحيحة كالأوامر والنواهي المتوجهة لأهداف حقة. ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ (الزخرف: 44).
2- قد يكون الذكر بمعنى الوعظ والنصيحة لأن “الدين النصيحة”كما جاء في الحديث الشريف الشامل الذي يشير إلى هذا الخصوص. والآية الكريمة في سورة الذاريات تؤيد هذا ﴿وَذَكّرْ فَإنّ الذّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات: 55).
3- في غياب الأمم المحيطة بكم عن مسرح التاريخ بعد استكمال أعمارها الطبيعية واستهلاكها، فإنكم مرشحون -بفضل هذا الذكر النازل عليكم- للبقاء طوال التاريخ، ﴿أوَلَم يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أطْرَافِهَا وَالله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ (الرعد: 41). ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيَتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ (العنكبوت: 67)
ففي هاتين الآيتين إيماءتان إلى هذا.
4- وهذه الآية الكريمة تشير لمخاطبيها آنذاك بالوضع الذي سيتبوأونه في المستقبل وتقول إنكم ستشغلون في المستقبل موقعا مشرفا لن تستطيع أمة أخرى بلوغه؛ وإن هذا القرآن سيحفظ لسانكم ولغتكم من الضياع والسقوط، ويبقى مرجعا لكل من يريد فهم دينه. ونجد هذا المعنى في كلمة “ذكركم”. وهي كلمة لا تفيد معنى الموعظة فحسب، بل تشمل أيضاً معنى بقاء ذكركم وعدم نسيانه، وعدم زواله.
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(الأَنْبِيَاء:87)
هذه الآية بخصوص النبي يونس عليه السلام. وحسب روايات عديدة فإن هذا النبي الكريم -بعد أن آمن قومه- رأى بعض آيات البلاء التي أهلكت كثيرا من الأمم السابقة وإشارات قدومها فترك بلدته قبل أن يتلقى أمرا واضحا من الله تعالى. ولأن هذا العمل يعد -بالنسبة للمقربين إلى الله تعالى- من أمثاله هفوة فقد ألقى إلى البحر نتيجة قدر إلهي مخطط ومدبر، وابتلعه الحوت. وبعد أن انقطعت الأسباب كلها ولم يعد لها أي تأثير، توجه يونس عليه السلام بإدراكه النبوي إلى مسبب الأسباب كلها… توجه إليه وبدأ يدعوه ويسأله. والقرآن يخبرنا عنه فيقول ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أنْ لاَ إلَهَ إلاّ أنْتَ﴾، لا شريك لك ولا شبيه، وكل ما يجري في العالم يجري بأمرك وبإذنك… لقد قذفت في البحر بإذنك، ولن يكون خلاصي إلا بإذنك وبأمرك وبمشيئتك ﴿سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِين﴾.
والحقيقة أن كل نبي صدرت منه هفوة أو زلة سرعان ما كان يتوب أو يوُوب إلى الله ويستغفره. فهذا آدم عليه السلام يقول هو وزوجه: ﴿قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسَنَا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين﴾ (الأعراف: 23). وقال موسى عليه السلام متضرعاً: ﴿رَبّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لي﴾ (القصص: 28).
ولا أعلم شيئاً في هذا الخصوص عن نبينا الكريم صلىوسلمد . ولكن هناك دعاء علمه صلىوسلمي لأبي بكر الصديق رضي الله عنه استعمل فيه الكلمات نفسها: “اللّهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً”.
إذا تناولنا هذه الآية مرة ثانية نراها تعلن عظمة الله ووحدانيته بكل قوة “لاَ إلَهَ إلاّ أنْتَ”.
وبعد غياب الأسباب كلها وزوالها نرى أنّ يونس عليه السلام أيضًا ينبذ هذه الأسباب تماما، وهذا شئ مهم جداً. والحقيقة انه عندما لا تنفع الأسباب يتوجه كل إنسان -شاء أم أبى- إلى الله وحده وهذا هو المعنى الذي تشير إليه الآية ﴿سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِين﴾ (الأنبياء: 87).
هنا يتركز الموضوع حول الاعتراف بعجز الإنسان وبظلمه، ثم التوجه إلى الله وطلب رحمته وشفقته. والحقيقة أن أفضل طريق لجلب رحمة الله ومغفرته هو اعتراف الإنسان بتقصيره، وهذا هو طريق الأنبياء العظام عليهم السلام.
وهنا أمر أشار إليه بديع الزمان سعيد النورسي، وهو كون جملة “لا اله إلا أنت”جملة مشيرة إلى مستقبلنا. أجل! فلو تناولنا الموضوع ضمن قاعدة “الانطباق مع مقتضى الحال”، فإن الله تعالى وحده هو الذي يستطيع أن ينقذنا -سواء على مستوى الفرد أم على مستوى المجتمع- من الظلام إلى النور وأن يوصلنا إلى شاطئ السلامة. ويكون هذا بشعار “لا إله إلا أنت”الذي يحتوي على جميع أنواع التوحيد.
ولكن يجب هنا الإشارة إلى أمر آخر. وهو أن النبي يونس عليه السلام نادى “لا اله إلا أنت”بسبب الظرف الخاص المحيط به. أما نحن فنقول “لا اله إلا الله”بدلا من “لا اله إلا أنت”بسبب الظروف المحيطة بنا.
ويحسن كذاك الإشارة إلى الأمور الآتية، وهي أن دعاء النبي يونس عليه السلام وتضرعه وقع وتحقق في جوف الليل فهناك ظلمات عديدة كما في آية ﴿اَللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظّلُمُاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (البقرة: 257) وآية ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ (البقرة: 17). فهناك عدة ظلمات هنا عند الابتعاد عن النور. ولكن الظلمة الأولى التي تعرض لها النبي يونس عليه السلام هي زلته التي ضببت عالمه الداخلي، ثم كانت هناك الظلمة الحقيقية لليل وظلمة ووحشة بطن الحوت… أي ظلمات عديدة.
وقبل أن يتعرض النبي يونس عليه السلام لهذه المحنة كان -وهو النبي العارف بالله- عارفا بالتوحيد العميق التجريدي، وكان يعني بتضرعه “سبحانك”. يا رب! إنني التجئ إليك وأنا مدرك ومعلن حق ألوهيتك وحكمتها ومقتضى هذه الحكمة، وأعلن عن عجزي وضعفي تجاهك.
أما قوله ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فليس سـوى عد الأنبياء العظام للهفوات الصغيرة الصادرة منهم أموراً جساماً، وهو مثل قول: “هذه حالي وأنت أدرى بها”. وهو مثل قول شاعر كبير:
حاجتي كبيرة وأنت أعلم بها
صمتي كلام ناطق وهو خطابي الحقيقي
لمثل هذا النبي المختار، ولمثل هذا التضرع المختار جاء الجواب من وراء السماوات: ﴿وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ﴾ (الأنبياء: 88).
اللّهم كما نجيته فنجنّا من الغمّ بحرمة من أرسلته رحمة للعالمين، وصلى الله عليه وعلى آله أجمعين.
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾(الأَنْبِيَاء:98)
إنّ ورود المشركين مع ما كانوا يعبدون من آلهة نارَ جهنم، ودخولهما معاً فيها، وتلاومهما هناك بإلقاء أحدهما اللوم على الآخر، تصويرٌ لعجز هذه الآلهة المزعومة وإنعدام قدرتـها على النفع أو الضر كلُّ هذا من التنبيه والتحذير من الوقوع في هذه العذابات الوجدانية العديدة المتداخلة إحداها بالأخرى، تأتي نذر هذه الآية.
وتعبير حصب جهنم -أي حطب جهنم- هنا إلى جانب كونه للإشارة إلى أن المعبودين من دون الله سيتحولون إلى مادة حارقة في جهنم يحترق فيها كل شيء إشارة إلى أن عبادة الأوثان والأصنام خطيئة لا يمكن أن تُغتفر، وأن هذه المعبودات تكون نفسها عين العذاب، وأنهم لا يستطيعون الخلاص من هذا العذاب المحيط بهم.
وكم هو أليم للإنسان -الذي جعله الله أشرف المخلوقات من ناحية الخلق الأولي وما جهزه من قابليات- أن يكون أصماً أبكماً أعمى وأن يشترك في العذاب مع معبودين عاجزين لا يملكون حولا ولا قوة.
ويستعمل فعل “وَرَدَ”في العربية بمعنى أتى وبلغ الماء. وهنا يرد إلى الخاطر صورة أشخاص بيدهم دلاء الماء. واسم الفاعل لهذا الفعل هو “وارد”. ولكن عندما نقارن هذا المعنى مع ما جاء في الآية نجد أن الآية لم تستعمل هذا الفعل بهذا المعنى. إذن فهنا نجد تهكما وسخرية. وهذا يشبه ما جاء في آية ﴿فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ ألِيم﴾ (آل عمران: 21). أجل كان على هؤلاء أن يأتوا في الدنيا وبيدهم دلاء الماء ليستقوا من فيض الحقيقة المحمدية ومن منهلها العذب، ولكنهم لم يفعلوا هذا ولم يستفيدوا من تلك الفرصة، فكانت خاتمتهم هذه الخاتمة الأليمة. ونفس المحتوى نجده في آية ﴿وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُهَا﴾ (مريم: 71).
إن ذكر كلمة “وَرَدَ”هنا يشير إلى الفرصة الثمينة التي أضاعوها والتي قلبت الماء العذب إلى عذاب، وللتعبير عن مشاعر الحسرة والألم.
وقد تكون آية ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ جواباً لمن يخطر على باله بأن نار جهنم لن تحرقه. فتقول هذه الآية بأنكم بالنسبة للنار التي ستحرقكم مثل حطب جهنم، فتعطي لهم درسا وعبرة وتضاعف من حسراتـهم.