سؤال: يزعم قومٌ أنه لا سبيل إلى النجاة إلا بمبايعة مرشد ، فما رأيكم في هذه المسألة؟
الجواب: المرشد لغةً: مَن يجنّب الإنسانَ الطرقَ المعوجّة، ويهديه الطريق المستقيم، ويرشد القلوب إلى الحق تبارك وتعالى، ويُرهِف عقلَ المخاطب وشعورَه وسمعَه وبصرَه ببعض الحقائق ليوجِّهه إلى أفق القلب والروح؛ فكما يُطلق المرشد على الواعظ في المسجد والمتحدّث في مجلس العلم، فكذلك يصح إطلاقه أيضًا على تاجر يحدّث زبونه عن الحقّ والحقيقة فيصبغ قلبه بصبغة إلهامات روحه.
واصطلاحًا: سالكٌ انتسب في بداية سيره إلى مرشد أيضًا، فمرّ بما مرّ به كل سالكي طريق الحق من خلوةٍ وعزلة وأربعينات، وتحمَّل المشاقّ، وقطع الدرجات في السير والسلوك الروحي، ولزم قلة الأكل والشرب والنوم، فوصل إلى رتبة الحيرة والفناء في الله وبلغ مقامًا مرموقًا في طريقه إلى الله، فأجازه مرشدُه في إرشاد الناس.
ويطلق الصوفية على الإذن للسالك بالإرشاد نيابةً عن مرشده: “الخلافة”، وعلى من أُذن له أو كُلِّف بذلك: “الخليفة”.
ولعل مقصود السائل المعنى الاصطلاحي، فيحسن الوقوف قليلًا عند هذا الموضوع:
فراسة المرشد وقابلية المريد
منذ عهود طويلة نشأ رجالٌ عظامٌ وترعرعوا في ربوع طرق صوفية تصل بالناس إلى الحق والحقيقة، منها الطريقة النقشبندية، والقادرية، والشاذلية، والرفاعية، والبدوية؛ ومن السالكين من له قابلية واستعداد، فإذا ما عثر على مرشدٍ كاملٍ تنوَّر به فورًا ونوَّر مَن حوله؛ فهذا الشيخ “ألوارلي محمد لطفي أفندي” ووالده “حسين أفندي” لما وصلا تكية الشيخ “الكُفْرَوي” في بتليس للانتساب إلى طريقته عاملهما الشيخُ معاملة خاصة، وعهد لكليهما بالخلافة فورًا؛ وربما السبب أنه اكتشف ما لديهما من استعدادات؛ فتبرَّم به مريدو الشيخ، فلما أقبل الليل ضيّقوا الخناق على الوالد وولده، وأخذوا يحدثونهما بأسلوب فظٍّ غليظ، وإذا بالباب يفتح على مصراعيه، ويدلف إليهم الشيخ قائلًا: “يا أولادي، إن حسين أفندي ومحمد لطفي أفندي لا حاجة بهما إليّ، وإنما أتَتْنَا بهما فضائلُهما وكمالاتهما”.
أجل، ثمة استعدادات وقابلياتٌ مكنونةٌ لدى بعض الناس، يرتقون بها إلى مقامات عالية ودرجات معنوية مرة واحدة، وهذا يذكّرنا بقوله تعالى: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ (سُورَةُ النُّورِ: 24/35).
ومن المريدين من لديه قابلية واستعداد، إلا أنه يؤثر خدمة شيخه مدة أطول بصدق وإخلاص، فهذا مولانا خالد البغدادي حصل على إجازة في العلوم الإسلامية العليا، ورغم ذلك جاور في تكية السيد عبد الله الدهلوي عشرين سنة يخدمه؛ ثم عاد أدراجه إلى بغداد مرة أخرى؛ والشيخ خالد البغدادي يُعدّ مجدِّدَ عصره؛ ومشربه ومنهجه في الإرشاد يكاد يخرج هو ومنهج الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله من مشكاة واحدة، فمما جاء في رسائل الشيخ البغدادي إلى مريديه: “لا تبتغوا أعمالًا تضطركم لاحقًا إلى دفع دية، واعتزِلوا الحُكَّام والرؤساء، ولا تَمُدُّنَّ أعينكم إلى ما في أيدي غيركم، واستغنوا عن الدنيا، ومن كانت له زوجة فهي حسبه ليتمكن من القيام بخدمة الإسلام…”؛ فإذا ما تأملنا خصائص كلماته وما فيها من حضّ على الإخلاص والصدق والأخوة والاستغناء نجد أن أصل الفكرة فيها وفي رسالتي الأخوة والإخلاص للأستاذ بديع الزمان سواءٌ؛ أترون كيف آثر رجل عظيم كهذا مجاورة تكية عشرين سنة يكنس أرضها.
حتى وإن كان المرشد كاملًا
ولنرجع الآن إلى ما نحن بصدده؛ أجل، في تراث التصوف مقامٌ مَن بلغه من المرشدين العظام تأمّل مريديه بفراسته، وقرأ قابلياتهم واستعداداتهم في وجوههم أو نظراتهم أو لمعان عيونهم، ووجَّهَهم إلى انكشاف هذه القابليات والاستعدادات؛ فإذا ما حان الأوان كلّفهم بالإرشاد في مناطق مختلفة.
وإن عثرنا في عهدنا هذا على مرشدين عظام على خطا الشيخ الجيلاني ومولانا خالد البغدادي ومحمد بهاء الدين النقشبندي وعلاء الدين العطار وأبي الحسن الشاذلي… فعلينا أن نأخذ عنهم العلم لتنكشف في حضرتهم قابلياتُنا واستعداداتنا؛ وليُعلَمْ أنَّ الحقّ جلّ وعلا قد شرَّف أناسًا كثيرين في أزمنة مختلفة بحمل مهمة الإرشاد، وزوّدهم بأساليب متنوعة تتوافق مع مقتضيات عصرهم وحاجاته؛ وعلى ذلك يمكن أن يقال: لو أنّ السيد عبد القادر الجيلاني بين ظهرانينا اليوم، وأراد أن يطبق ما استلهمه من السنّة من منهج وأسلوب يتوافق مع مقتضيات ذلك الزمان وظروفه، لَمَا استطاع أن يعثر بذلك المنهج على علاج لكل مشكلات زماننا؛ وهكذا الإمام الغزالي الصَّرحُ الذي لقبه الناس “حجّة الإسلام”، أعظم شاهد على صدق الإسلام وعلى أنه حقّ، لو أنه أراد اليوم أن يأخذ بحججه في مقارعة التيارات الباطلة التي كانت تهدد الإسلام حينذاك، لتكون وصفة طبية لمشكلات هذا العصر، لَما أغنت شيئًا في حلِّ مشكلات عصرنا المستعصية على الحل؛ ولا تذهبن بكم الظنون إلى أني أُلقي بالكلام جزافًا أو أسيء الظن بالسادة العظام –معاذ الله-؛ كلا، إن هذه القامات الجليلة قد أوفَتْ زمانها حقَّه بل أربَتْ؛ وإنما أريد أن أذكّر بأن شأن الرسالات السماوية ونحوها أن تأتي مناسبةً لأفكار المخاطبين وإدراكهم ومستوياتهم.
ولا ريب أنّ الناس في زماننا سيستفيدون من تلك الشخصيات العظيمة المذكورة وما قدمته للحياة الفكرية والمعرفية من مؤلفات قيمة، ولكن لا بد من أدوات وحجج مختلفة لدحض الكفر الناتج عن استخدام ما أفرزه الفنّ والفلسفة في أيامنا، ولِدحض ما نتج عن العناد والتمرد من كفر خفي وهو النفاق.
أجل، لا يستطيع حلَّ مشكلات اليوم إلا مرشدٌ يُحسن رؤية زماننا وقراءته، ويوجِّه مختبراته إلى مشكلات يومنا، ويستثمر كل إمكانياته ليصف علاجًا لمشكلاتنا؛ فإن وجدناه فلنعتصم به حتى نحلّق نحو أفق القلب والروح، فإن فعلنا ذلك استطاع هذا المرشد الكامل أن يفتح آفاقنا ويزيل عن طريقنا العقبات التي تعترضنا؛ لنقطع الطريق بأقصى سرعة وأكثر أمان.
لكن إن وجدنا مرشدًا كاملًا على هذا النحو يُحسِن قراءة العالَم ويقدِر على حلّ مشكلات عصرنا فلا ينبغي لأحد أن يضيّق واسعًا ويحصر أمر الإرشاد فيه؛ أجل، لو أنكم عثرتم عليه ثم قلتم للناس: “إن لم تتبعوه ولم تصغوا إليه وتقرؤوا كتبه فقد ضللتم ضلالًا بعيدًا” فمعنى هذا أنكم ضيّقتم واسعًا، وأن أنانية الجماعة تحكّمت فيكم، وأسأتم الظن كثيرًا بالمؤمنين الآخرين؛ فلربما يكون فيهم من لا يفكر كما تفكرون ولا يسير على المنهج الذي تسلكون لكنه يقتدي بمرشد المرشدين وأكمل أهل الكمال وسيد السادات عليه الصلاة والسلام، فيدخل الجنة خالصًا مخلصًا بفضل الله تعالى وعنايته؛ نعم، حبُّ الإنسان نهجَه حسنٌ وأمرٌ مهم، لكن مِن الزيغ أن نضمر للآخرين حسدًا وحقدًا في قلوبنا أو أن تشيع العداوة والبغضاء فيما بيينا.
رمحٌ طعَّان في روح الوحدة
يُنسب للشيخ أبي يزيد البسطامي: “الشيطان مرشدُ مَن لا مرشد له، أو شيخُ مَن لا شيخ له”، يفسر بعضُهم هذا القولَ تفسيرًا ضيقًا خاطئًا، ويرون وجوب الانتساب إلى شيخ أو مرشد ذي طريقة صوفية؛ نعم، لقد أمضيت طفولتي في تكايا وزوايا عدّة، فكنت شاهد عيانٍ على بعض من يقولون مثل هذا الكلام.
أرى أن هذا القول ذو مغزى واسع، يشير إلى أهمية المرشد الكامل وضرورته، بيد أن تفسيره تفسيرًا ضيِّقًا كهذا يجعلُه قولًا قبيحًا يغلبُ عليه سوء الظن وأنانية الجماعة، ويتعارض مع عالمية الإسلام وشموله؛ لأن بين أيدينا المبادئ الأساسية للكتاب والسنة، وهي تتسم بالسعة والشمول بحيث تشمل كل القلوب المؤمنة بها.
وقد ذكر الأستاذ النورسي رحمه الله رحمة واسعة أن حصر الفكر ينبع من حُبّ النفس؛ أي إنْ زعم الإنسان أن الحق والصواب عنده فقط، فإن هذا نوعٌ من الأنانية وحب الذات؛ وله نوعٌ آخر، ألا وهو أنانية الجماعة؛ أي أن يعدّ الإنسانُ الحقَّ المطلقَ منحصرًا في أفكار الحركة والجماعة والطريقة التي ينتسب إليها فقط، وما سواها لهوٌ وعبث؛ إن مثل هذا التفكير إنْ هو إلا سوء ظنٍّ خطيرٌ قد يُودِي بصاحبه ماديًّا ومعنويًّا.
إن أنانية الفرد تتعاظم أكثر بقدر استنادها إلى أنانية الجماعة؛ نعم، يمكن للمنتسبين تقليديًّا إلى طريقة صوفية من الطرق الصحيحة المعروفة أو إلى حركة أو جماعة أن يروا منهجهم ومرشدهم على حقّ، وأن يحبوه حبًّا عميقًا، لكن ليس لهم أن يظلموا غيرَهم بتضليلهم، وإلا انحرفوا -وَهُمْ يسيرون على الطريق السوي- إلى سبيل الشيطان دون وعي؛ وقد يعمّ هذا الخطر الجميع، فلو أن بين ظهرانينا اليوم إحدى القامات العظيمة التي أحترمها وأحبها حبًّا جمًّا مثل الإمام الغزالي والعز بن عبد السلام وفخر الدين الرازي ونجم الدين كُبْرى، وقال مثل هذا الكلام، لأبديتُ له احترامي أولًا واضعًا رأسي تحت قدميه ثم قلتُ: “لكنكم يا سيدي قد جانَبكم الصوابُ في هذه المسألة”.
والخلاصة أنه من الخطأ الصِّرف الاعتقاد بأن النجاة لا تتأتى إلا بالانتساب إلى حركة أو جماعة أو طريقة، أو أنه من الضروري الاقتداء بمرشد معيَّن ذي طريقة صوفية وأن كل من لا ينتسب إليه ضالٌّ هالكٌ، إن من يعتقد هذا قد خسر حيث يُؤمل الفوزُ.
اللهم أجِرْ أمة محمد من انحرافات وآفات كهذه في أيام نحن أحوج ما نكون فيها إلى الوفاق والاتفاق.