Reader Mode

كلنا نشاهد حكمة تحيط بالكون بأكمله، فجميع الكائنات خُلقت لمصلحة أو غاية، ولكن الماديين أنكروا هذه الغاية والحكمة في الكون، وادعوا اللامعقولية في سنن الله تعالى وقوانينه الكونية.

إن الله تعالى لا تحكمه الأسباب، بل هو من يحكم الأسباب، لا أحد يُجبره على فعلِ شيء، وهو يخلق ما يشاء ويُوجد، وكل شيء ينصاع لأمره ويخضع لمشيئته تبارك وتعالى، يقول عز من قائل: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ (سُورَةُ الإِنْسَانِ: 76/30)؛ أيْ، لا يسعكم أن تريدوا شيئًا إلا بالشكل الذي يريده الله رب العالمين.

الإنسان لا يريد إلا ما أراده الله له، لأنه سبحانه هو الحاكم المطلق، ولكنه تعالى يُوجِد في كل شيء خلَقه حكمةً، فلو تأمل الإنسان قليلًا، لأدرك ما تحتويه نفسه من معاني الحكمة وألوان الفوائد بكل وضوح، لو تأمل في أعضاء جسمه المتناسقة والمنتظمة فيما بينها ودرسها واحدة واحدة، فسيدرك أن كل شيء في جسمه -حتى الذرة- لم يُخلق عبثًا.

لقد ازدان الكون -ذلك الإنسان الأكبر- بحِكَم شتى، لا مكان للعبثية واللامعنى في أي كائن مثقال جناح بعوضة، حتى الورقة على غصن الشجرة التي لا تتحرك والتي قد تبدو بلا فائدة، لا ندري كم تُخفي في ثناياها من الفوائد، إن الله سبحانه خلق الكائنات بهذه الصورة، وأظهر لنا عبرها تجليات اسمه “الحكيم”.

أجل، هناك حِكَم كثيرة وفوائد شتى تحيط بالكائنات كلها، بدءًا من العالم الكبير (الكون) إلى العالم الصغير (الإنسان) إلى العالم الأصغر (الذرة)، فلا يُعقَل لكائن -مثل الإنسان- قد كُرِّم بين الكائنات كلها أفضل تكريم، وخُلق بين المخلوقات في أحسن تقويم، وزُوِّد في هذه الدنيا بآلاف الحِكم صورة وشكلًا، أن يأتي إلى الدنيا لبضعة أيام، ثم يموت ويندثر تحت التراب دون أن يُبعَث مرة أخرى.

إذا كانت هذه الدنيا عاجزة عن إشباع رغبات الإنسان المادية وحاجياته الجسدية، فكيف لها أن تلبي حاجيات ملكاته الروحية ولطائفه المعنوية التي تمتد مطالبها حتى أقاصي الكون، وبالتالي أنّى لها أن تُشبِع نزوع الإنسان إلى الخلود مثلًا؟ وما دمنا قد سلّمنا من البداية أن الأحاسيس في الإنسان لم تُخلق عبثًا، وأنه يستحيل للإنسان أن يجد في هذه الدنيا ما يلبي نزوعه إلى البقاء والخلود، فلا بد أن يكون هناك عالم آخر يستجيب لهذا النزوع المغروس في فطرته لحكمة ربانية بالغة.

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ (سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 23/115-116)؛ هل ظَنَنْتُم أنكم خُلِقْتُمْ عبثًا؟ وأنكم لن تُرجَعوا إلى الله؟ إن الله تبارك وتعالى منـزَّهٌ ومقدَّسٌ عن مثل هذا العبث. أجل، إن الله الذي أسكنكم الأرضَ وجعلكم أشرفَ خلْقِهِ، ثم لبّى كل حاجاتكم الجسدية والمادية، بل ولم يهمل حاجة أصغر مخلوقاته وفق رحمته الكونية الشاملة.. لا بد أن يُشبِع تَوْق الإنسان إلى الخلود ونزوعه إلى البقاء، وأن يفتح له عالمًا أبديًّا لا نهائيًّا.

قدم على سيد الأنبياء -عليه أفضل الصلاة والتسليم- مجموعة من الأسرى، فرأى صلى الله عليه وسلم امرأة تهرول يمينًا ويسارًا تبحث عن ولدها، إذ كانت تضم إلى صدرها كل ولد وصلت إليه يدها بحنان بالغ ثم تتركه، وما إن وجدتْ ولدها حتى ضمتْه إلى صدرها بحرقة.. تقبّله وتشمّه تارة، وتضمه إليها تارة أخرى، فتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المشهد، فبكى، ثم أشار بإصبعه المباركة إلى تلك المرأة، وقال لمن حوله: “أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ؟”، قال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: نعم يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: “أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟” فأجاب الصحابة الكرام: لا واللهِ يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا”[1].

ما أريد قوله بهذا المثال؛ هو أن صاحب الرحمة اللانهائية الذي لا يرضى بإلقاء عبده في النار، هل يُعقَل أن يرمي به في ظلمات العدم دون إحيائه من جديد؟ أليس ذلك مناقضًا لعدله ورحمانيته ورحيميته وشفقته ورأفته؟ أجل، حتى جهنم الأبدية -قياسًا بالعدم المطلق- لها قيمة كقيمة الجنة في روح الإنسان، إن العَدَم عذاب رهيب لا يمكن وصفه، يجعل روح الإنسان التواقة إلى الخلود تصرخ مرعوبة، وترى في جهنم رحمة لها، وتعتبر عذابها أخفّ من عذاب العدمية المطلقة.

لقد وُضع لكل بضاعة في هذه الدنيا ميزان لتحديد قيمتها، ولكن لم يوضع أي ميزان لوزن نتاج العقل، والقلب، والحس، والروح؛ فليس ثمة ميزان يقيّم ما يَنتُج عن العقل من أفكار، بينما هناك موازين كثيرة تزن وتقيّم المآكل والمشارب.. ويتم تحديد قيمة هذه الأشياء حسب أسعار العملة المحلية والدولية، كما تُستَورد وتُصَدَّر بناءً عليها، ويمكننا أن نحدد قيمة قطعة من الأرض وفق هذه الأسعار كذلك.

ولكن لا يوجد في هذه الدنيا ميزان يمكنه أن يثمّن عقلًا فذًّا أو ذكاءً فريدًا أو كياسةً عظمى.. لذلك لم ينعم -مثلًا- “شكسبير” ولا “فيكتور هوجو” اللذان كانا يتمتعان بذكاء خارق بأي مكافأة مقابل ذلك الذكاء في هذه الدنيا، هذا من الجانب المادي، والآن دَعونا نحلل الموضوع بعمق أكثر، ونتأمل في فطنة نبي من الأنبياء، لنفكر -على سبيل المثال- بالثمار التي نتجت عن عقل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وقلبه وأحاسيسه اللامتناهية، كذلك دعونا نجمع الأحاسيس الوجدانية لكافة الأنبياء عليهم السلام في مكان واحد، فهل ثمة ميزان في هذه الدنيا يمكنه أن يقيّم تلك الأحاسيس يا ترى؟ إذًا فإن الحكمة تقتضي أن يأتي يوم يقام فيه ميزان يستوعب كل تلك المشاعر السامية ويقيّمها، وذلك يوم الآخرة.

يقول المولى عزّ وجلّ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 21/47).

توضح هذه الآية الكريمة، أنْ ليس في هذه الدنيا ميزان يستطيع أن يزن خفايا لدنّيّات الإنسان وبواطنه الجوانية، كما لا نستطيع أن نزن ثمرة إحساس وجداني يزداد تألقًا مع كل إبحارة نحو أعماق القلب، وبالتالي فإننا لا نعرف ميزانًا يقدر على وزن أحاسيس سامية أخرى مكنونة في قرارة الإنسان، كالأحاسيس التي تحثه على إشاحة وجهه عن الدنيا وما فيها، وعدم الرضا بشيء سوى الله سبحانه والقرب منه؛ بل هؤلاء الذين تفيض قلوبهم بهذه المشاعر الجياشة، يتعذر عليهم في أغلب الأحيان تبيّنُها ووصفُها وتعريفها.. إذًا فالحكمة تقتضي يومًا يقام فيه ميزان لكي يزن كل هذه المواجيد الدقيقة دون أن يغادر صغيرة أو كبيرة، وبالتالي فميزان الدنيا أُقِيمَ لكي يَزِنَ أعضاء الإنسان الخارجية، ولم يوضع ميزان يقيّم مواجيده القلبية التي لا يمكن أن تضاهيها صورته الخارجية سموًّا وبهاء وإشراقًا، وإن ذلك الميزان الدقيق سوف يقام في دار البقاء لا محالة.

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (سُورَةُ ق: 50/16)؛ أيْ، نحن خَلقنا الإنسان، ونعلم كل الهواجس والوساوس والمساوئ التي تدور في خلده، ولكن دعونا نعالج الآية من الناحية المقابلة: “نحن خلقنا الإنسان ونعلم ما يموج في أعماقه من مشاعر سامية ومواجيد رفيعة”.

مما لا ريب فيه أن الله سبحانه وتعالى سيبعث الإنسانَ الذي عشّش الشرُّ في باطنه، وضاق أفقه، وتقزّمت رؤيته، وأصابه الجفاف والتسوس والعقم، فبات بلا قلب ولا روح، وفقد قابلية العطاء والإثمار.. سيبعثه حطبًا يابسًا هناك، وبالمقابل، هناك عظماء لا تبرز عظمتهم في ملابسهم البالية المتواضعة، بينما قطرة من قطراتهم تستوعب بحارًا هائجة مائجة، فالله جلّ جلاله يعلم هؤلاء كذلك، ويعلم ما يموج في دواخلهم، إنه تعالى سيضع الميزان من أجل هؤلاء العظماء، ويقيّم مستواهم وفق سمو أرواحهم وعمقها، ويجزل لهم العطاء ويجزيهم خير الجزاء.

فعلى فرض المستحيل، لو لم يكن هناك من موجِب للبعث وإقامة محكمة كبرى في عالم آخر سوى أن توزن أعمال هذا الإنسان المتوَّج بسر “أحسن تقويم” وتُعرَف قيمته الحقيقية، لكفى، علمًا بأنه لا يجب على الله شيء، ولا يُلزمه شيء، ولا يضطره شيء على فعل شيء، ولكن انطلاقًا من تجليات اسمه “الحكيم”، واستشهادًا بالمنح الواردة على عباده من هذا الباب نخلص إلى أن البعث حقيقة لا شبهة عليها.

إن لله حاكمية عظيمة ذات حِكم ومقاصد كبرى، هذه الحاكمية تبدأُ من عالم الذرّات إلى أن تَصِلَ إلى أكبر الأنظمةِ وأعظمِ المجرّات، والشاهد على هذه الحاكمية، هو مُهْره سبحانه وتعالى وختمه المطبوع على هذه العوالم كلها؛ حيث نرى في عالم الذرات، وعالم الإنسان، والكون الكبير، هذا المُهْر الإلهي الذي يؤكد عظمته وقدرته تبارك وتعالى، ثم إن هذه الحاكمية من العزة والعظمة بحيث لا ترضى بتدخل أحد سواها، ابتداء من أصغر دائرة في الخلق، ووصولًا إلى أكبر دائرة.

إنه سبحانه وضع ميزانًا فريدًا في الكون، وهو يدبّر شؤون الخلق بقانون ندرك وجوده ولكننا نجهل حقيقته، وإن القوانين التي أسميناها نحن بأنفسنا، ليست كافية لتفسير الأحداث التي تقع في الكون، فمثلًا، تفسير التوازن القائم بين الأجرام بقانون الجاذبية والدافعية، لا يكفي لفهم حقيقة ما يقع، ولكننا مضطرون للاكتفاء بهذا القدر من التفسير، لأننا لا نملك معرفة أخرى تتجاوز بنا حدود ما نعرفه حاليًّا، والذي يرغمنا على الانصياع لهذا التفسير هو فاعليةُ ذلك القانون في كل مكان، لكن الفاعلية دليل على قدرة وعظمة واضع ذلك القانون فحسب، وليست تفسيرًا وافيًا لما يحدث، فالعلم يصف لنا الوقائع فقط، ولا يجيب على سؤال “لماذا؟” إجابةً كافيةً، ومن ثم حتى لو عجزنا عن الرد على سؤال “لماذا؟”، فهذا لا ينفي وجود حكمة في كل شيء، كل ما حدث في الكون حتى اليوم، وما يحدث الآن، وما سيحدث لاحقًا، يعبّر عن حكمة بالغة الوضوح.

وكذلك ثمة غاية وحكمة في خلق الإنسان.. الإنسان الذي يحمل آمالًا تمتد نحو الأبد، والذي لا تطمئن نفسه إلا بالخلود والعيش في كنف الذات السرمدية سبحانه، والذي ينادي بكل جوارحه “الأبد! الأبد!”، ويتوق إلى جمال الله سبحانه وإلى الجنة في كل لحظة.. وإن أصحاب الأرواح المضيئة يستشعرون هذه الغاية وهذه الحكمة في أعماق وجدانهم لا محالة.

وردتْ في كتب الحديث والسيرة رواياتٌ عدةٌ في “الحنفاء” الذين هجروا عبادة الأوثان واختاروا أن يعبدوا الله فقط، ودَعَوا إلى الله وتوحيدِه والإيمانِ باليوم الآخر قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العصر الجاهلي، منهم زيدُ بن عمرو بن نُفيل، أبو الصحابي الجليل سيدنا سعيد بن زيد رضي الله عنه وابنُ عمّ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمُّه من قِبل جدته في نفس الوقت، يقول عامرُ بنُ ربيعة العدوي: “لقيتُ زيدَ بن عمرو بن نفيل، وهو خارجٌ من مكة يريد حراء يصلي فيه، وإذا هو قد كان بينه وبين قومه سوءٌ في صدر النهار فيما أظهر من خلافهم واعتزال آلهتهم، وما كان يعبد آباؤهم، فقال: “إني خالفتُ قومي واتّبعتُ ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيًّا من بني إسماعيل يُبعث، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فأقرئه مني السلام” ، قال عامر: فلما أخبرتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بخبره، ردّ عليه السلام، وترحَّم عليه، وقال: “رَأَيْتُهُ فِي الْجَنَّةِ يَسْحَبُ ذُيُولًا”[2]

كان زيد بن عمرو يقول: “اللهم لو أني أعلم أحبَّ الوجوه إليك لعبدتُك به، ولكني لا أعلمه”، ثم يسجد على راحته[3].

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي زيدَ بن عمرو في مكة قبل البعثة، فدُعي زيدٌ إلى سفرة فأبى أن يأكل منها وقال: “إني لاآكل مما ذُبح على النُّصب”، ونرى ابنَه الصحابي الجليل سعيد بن زيد يسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: “يا رسول الله، إن أبي كان كما رأيتَ وبلغك، ولو أدرككَ لآمنَ بك واتَّبعك، فاستغفِرْ له”، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نَعَم، فَأَسْتَغْفِرُ لَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً”[4].

إن أصحاب البصيرة والقلوب الواعية، يستطيعون أن يهتدوا إلى الله ورسوله بالتأمل والتفكير في حقيقة الأشياء والأحداث المبثوثة في الحياة، فإن الذين يحللون الأشياء والحوادث في الكون ويتأملون فيها بعمق، يُبصرون ختْم الحق سبحانه وتعالى عليها، ثم يصلون بعد الإبحار في التفكّر الآفاقي والأنفسي إلى الحكم الآتي:

إن الذي لم يتركني مهمَلًا في هذه الدنيا، لن يتركني بعد نزولي إلى القبر أيضًا، وإنه كما يبعث النباتات في فصل الربيع، فسيحيي ذراتي التي أضحت نواة مرة أخرى، ثم يقيم محكمة كبرى للحساب.

[1]    صحيح البخاري، الأدب، 18؛ صحيح مسلم، التوبة، 22.

[2]  الفاكهي: أخبار مكة، 4/53.

[3]  سيرة ابن هشام، 1/226.

[4]  مسند الإمام أحمد، 2/296.

فهرس الكتاب