سؤال: كثيرًا ما تذكرون “اللطف الجبري” في أحاديثكم، فما هو وما أبعاده؟
الجواب: اللطف الجبريّ: النعم التي يتفضل الله تعالى بها على عبده ابتداءً ولا إرادة للعبد فيها ولا اختيار، وكلّ ما للعبد لطف جبريّ؛ ابتداءً من وجوده بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا، إلى خلقه إنسانًا لا حيوانًا أو نباتًا، وولادتِه سليمًا في بلد مسلم… أي يطلق اللطف الجبريّ على النعم التي لا تُحصى من ألفها إلى يائها.
أما أبعاد اللطف الجبري فالإيمان رأسها، فلنُعنَ به، إنه فضل الله على الناس؛ فهو لطفٌّ جبريٌّ وعناية إلهية، فلنبحث فيه في ضوء هذا؛ ويبرهن على ذلك أننا قد نرى من يقول “لا إله إلّا الله” في ظلّ الكنيسة، كما نجد عند المسجد من يقول “بلغتُ السبعين وأنا ملحد، فلن أقول بعد هذا كله إنني مؤمن”، أو “لو شختُ وخرفتُ، وقلت في الإيمان قولًا، فحذارِ أن تصدقوها أو تأخذوا بها”.
قلنا بدايةً إن الإيمان رأسُ اللطف الجبريّ. نعم، تأمّلوا من حولكم، فكم من عاقلٍ يطوّف في الشوارع على غير هدًى، وكم من أشياء حرَمَهم منها زيغُهم السابق، ورؤيتهم وتقديرهم الخاطئ للمسألة، بل احدودبت ظهورهم من ذلك وما اعتدلت، وعجزوا عن رؤية الحق، بل تعذرت عليهم رؤيته؛ ما أصعبَ أن يعتنق الإسلامَ من قضوا أعمارهم في أوهامٍ وفلسفات خاطئة؛ فتشدّقوا بماركس ولينين وإنجلز وماو، لا سيما الروّاد، ما أصعب أن يقولوا لجماهيرهم بعد أن أبعدوا النُّجعةَ في مسارات متعرِّجة: “قضينا أعمارنا في وهمٍ، وضللنا فيما وجّهناكم إليه”.
لقد عجز من هم أعقلُ منّا عن العثور على جادّة الإيمان الصحيحة، وتخبطوا في أودية الحيرة والغفلة؛ لذا ينبغي أن نبحث اهتداءنا إلى الإيمان في ضوء اللطف الجبري؛ فأرواحنا قرابينُ لربٍّ يعرجُ بنا إلى هذه القمم الشامخة.
ومن اللطف الجبريّ أننا تعرَّفنا على منهج يرشدنا إلى غاية علوية سامية وهي إعلاء كلمة الله وتبليغها إلى القلوب بطريقة وسطية توحّد أفراد المجتمع كافةً، وهذا المنهج اقترح على عالمنا الفكري أسسًا أزالت من دائرة اهتمامنا التعصب والتطرف، ولطالما ذكَّرنا وأكَّدَ أنّ علينا أن نتقبّل كل من يقوم بالخدمة أيًّا كان، ومهما كان، وأن نقف له إجلالًا وإكبارًا، ولا نقدح فيه ألبتة، وأن نقدر قدر كل من يخدم الدين مثل المشايخ العظام في بلادنا أمثال الشيخ سليمان أفندي، والشيخ سامي أفندي، والشيخ أسعد أفندي، والشيخ محمد أفندي، والشيخ محمود راشد أفندي، والشيخ الحاج خلوصي أفندي…[1]
أجل، لطالما ذكَّر هذا المنهج وأكَّد أنّ علينا أن نبتهج بأعمال البر والنجاح لهؤلاء العظام الذين نسجوا المشاعر الإسلامية والفكر الإسلامي على منوال الإسلام في العالم كلّه، وأن نحيّيهم أيضًا.
أجل، إنّ الإسلام نظامٌ إلهي يستوعب الناس جميعًا، ويقبلهم بخصائصهم كلّها: بمشاربهم وأذواقهم ومذاهبهم وأحاسيسهم ومشاعرهم…، ونحن من نجمّد هذا النظام، ونقدّمه صلدًا صُلبًا نحن مَن ضيَّقنا واسعًا وقلَّصْناه، وصغّرناه حتى وهِمَ بعض الناس أنه دينٌ لا يعترف للآخرين بحقِّ الحياة.
هذا الفهم العقيم والأفق الضيق أفرز تصرفاتٍ غدت منذ زمن بعيدٍ عائقًا عن فهم الإسلام الرحيب الفسيح، وزَجّت بآخرين في مخاوف عدّة.
ولهذا نماذج شتّى يغَصُّ بها تاريخُنا القريب، وإليها مردُّ جلِّ مخاوف الآخرين منا؛ إذًا أليس من واجبنا أن نمنع تجدُّدَ حدوث شيء كهذا في عصر أُثيرت فيه العواصف والزوابع، واتحد الأعداء في الداخل والخارج تحدوهم رغبة في الحكم على المؤمنين بالعدم والفناء؛ إننا نحتاجُ اليوم أكثر من أيِّ وقت مضى لأن نطبق نصيحة بديع الزمان في هذا الخصوص.
وللطفِ الجبريِّ بُعْدٌ آخَر يُبحث هنا، وهو: تجسيد الروحِ والفكرِ اللذين تمثَّلا في سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما[2]. أجل، قد تُدْرَأ في القريب العاجل فتن كثيرة عند التزاحم على المنافع والمصالح باستغناء فدائيين يؤثرون على أنفسهم، ويجسدون الروح الحَسَني؛ ففي مناخ النضال تدافُعًا على المنافع ترى الواحد منهم يدفع كلَّ شيء بظهر يده، ويمضي حياته في عزلة عن الدينا قائلًا: “لا حاجة لي بهذا”.
هذا الاعتقاد وهذا الفكر لطف وتفضيلٌ إلهيّ ينفع مجتمعنا؛ فقد قطع الفدائيون أنهم لن ينازعوا مسلمًا أيًّا كان السبب، ودستور حِراكهم: “لا حقَّ لمن يثير الشحناء في زماننا حتى وإن كان محقًّا”، وإذا مرّوا بمن يثيرون الشحناء مرّوا كِرامًا.
وأجلّ أبعاد اللطف الجبري ألا تكون لنا إرادةٌ في هذه النعم وأوجه الإحسان الغفيرة التي منّ بها ربنا علينا؛ والإرادة في أهمِّ المسائل شرطٌ عادي لا غير، ويمتنع أن يقال إن لإرادتنا تأثيرًا في هذه النعم.
لقد كرَّمَنا اللهُ بأن خلقنا من بني آدم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 17/70)، وليس هذا فحسب، بل خَلقَنا في مناخٍ يسمو بالإنسان إلى درجة “الإنسان الكامل”، وأحسن إلينا بألطاف خاصة، أي إنّه منحَنا العواملَ والقواعدَ التي سترفعنا إلى هذه الآفاق السامية، ولا شك أن هذا كله إحسانٌ ولطفٌ لا تطوله إرادتنا.
إذًا على الإنسان أن يعدّ هذه النعم أمانةً قيمةً أودعت عنده، لا كمن صادفها في الطريق، ثم ليبذلْ وُسعه لتستمر وتدوم، فعلى من حظي بنعمة أن يحيطها بوعي وشعور خاصّ، وأن يحافظ عليها، وأن يُعنَى بها أيّما عناية كيلا تضيع.
أجل، لا بد من معرفة قدر هذا كلّه وقيمته، ولا بد من مقابلة نعم الله الغفيرة بالشُّكر.
قوة الإيمان
سؤال: كيف نوفَّقُ إلى خِدمة الإسلامِ مع ما يُناصَبُهُ من عداءٍ عالميّ، وما هو طريق الكفاح؟
الجواب: إن الظروف الحالية تجعل للنضال والكفاح معنى آخر، ومستندنا في هذا فهم بديع الزمان نفسه، يقول: “الظهور على المدنيّين إنما هو بالإقناع لا بالضغط والإجبار”[3]؛ إذًا نتوقع أن تُسْتَثمر الأرضية الديمقراطية القائمة والحقوق والحريات الديمقراطية، ويختارَ الناسُ الإسلام بمحض إرادتهم مثلما اختاره سادتنا خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم جميعًا، ويقيننا أن هذا الطريق هو الأسلم والأَدْوَم.
أما عن القسم الأول من السؤال فإن الله الذي أخرج الأشجار السامقة من نواة صغيرة، ينشر رحمته ودعوته القدسية في أنحاء المعمورة كلّها مستخدمًا وسائل بسيطة جدًّا، وإن في قولنا “وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”[4] بعد الصلوات الخمس إعلانٌ بأن قدرته وسعت كل شيء، ولا شكّ في هذا ولو مقدار ذرة؛ فلنكف عن الكلام في المسلَّمات.
أجل، على هذا الفهم تربينا، ولما قيل لواحد من أهل القلب: “اُذكُر الله” قال: “وهل نسيته لأذكره؟!”، وقد قرّرْنا بدايةً أن مسألتنا هكذا.
أجل، إنَّ لنا أفقًا فكريًّا: “إننا فدائيّو المحبة، ولا وقت لدينا للخصومة”[5]؛ لا ذِكْرَ في أحاديثنا لجرحى أو قتلى السيوف والخنجر والقوس المشدود والسهم المرسل، وإنما نتحدث عن البعث والإحياء كما قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/24)، وندعو الناس إلى الله ورسوله، ونقول: “من استجاب لهذه الدعوة فلن تحيي موَاتَ جسمه فحسب، بل ستحيي وتخلّد موات القلب والروح أيضًا”.
[1] مشايخ أكبر الجماعات الدينية والطرق الصوفية في تركيا.
[2] إشارة إلى تنازل سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة حقنًا لنشوب نار الفتنة بين المسلمين.
[3] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: سيرة ذاتية، الحياة الأولى، ص 116.
[4] انظر: سنن الترمذي، الدعوات، 36؛ سنن ابن ماجه، المناسك، 84.
[5] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، سيرة ذاتية، الحياة الأولى، ص 54.