Reader Mode

. سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
إن رسولنا الحبيب r هو أعظم من بعث رسولاً حظي بالألطاف الربانية من البداية إلى النهاية. فهو صاحب لواء الحمد. وهو المخلوق المتميز بالمغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر. بمعنى أن الله سبحانه كما لم يقدّر له الذنب قبل رسالته لم بقدّر له الذنب أثناء رسالته كذلك. فهو سيد الأنبياء والمرسلين وهو حبيب رب العالمين بل أحب مخلوق عنده فقد أُعطي له كل شيء حتى لم تبق مرتبة دنيوية أو أخروية إلا أُعطيت له.. ومع هذا كان r له طلب ورغبة، نراها في حديث رواه البخاري ومسلم:
“وَالّذي نَفسُ محمدٍ بِيَده لَوَدِدتُ أَنِّي أَغزُو في سبيل الله فأُقتَلُ ثم أَغزُو فأُقتَلُ ثم أَغزُو فأُقتَلُ”
هذا هو ما كان يتمناه ويطلبه الرسول r. تُرى ما حاجة فخر العالمين إلى الشهادة؟ وما الضرورة إلى الرغبة في الشهادة والتوضؤ بدمه الزكي وهو الذي توّج بتاج “لَولاك لَولاك لَما خلقتُ الأفلاك”.
أجل، كان يرغب ويسأل ويطلب لأن الشهادة تحل العقد كلها وتكسب الإنسان في المحكمة الكبرى مراتب رفيعة متميزة. ماهية هذه المراتب نسمعها وندركها منه أيضا:
“عن أنس ابن مالك أن النبي  قال إذا وقف العباد للحساب جاء قوم واضعي سيوفهم على رقابهم دما فازدحموا على باب الجنة فقيل مَن هؤلاء قيل الشهداء كانوا أحياء مرزقين” وعندما يقول الرسول r: “لوَدِدْتُ أنى أُقتل في سبيل الله ثم أُحيا..”يلفت الأنظار الى هذه النقطة. فإن بين الأنبياء الكثيرين ممن جاهدوا في سبيل الله ولبسوا لباس الحرب فأُكرموا بالشهادة فضلا عن النبوة. وإذا ما نظرنا إلى الرسول r بهذا المنظار فكلنا نعلم كيف أن امرأة يهودية في خيبر دعت الرسول r إلى وليمة دسّت فيها السمّ فأصاب منه ذلك السمَّ.( ) ولدى بعض مؤرخي التاريخ الإسلامي أنه توفي من أثر ذلك السم. وهذا يعني -من ناحية- الشهادة. أي أن الرسول الحبيب قد توفي شهيدا. إلا أنه كان يريد أن يستشهد خلف السرايا ولكن الله سبحانه قد وعد بعصمته من الناس لئلا تتفرق الأمة المحمدية. أي إنه تعالى قد استجاب سؤاله r للشهادة أيضا بشكل آخر.
. سيدنا عمر
كل ذي عقل يتمنى الشهادة نتيجة النضال والمجاهدة. فسيّدنا عمر t من هؤلاء. فقد ارتقى منبر رسول الله في المسجد النبوي بعد أبي بكر الصديق وخطب بالناس تحت مشاهدة روحانية الرسول r طوال عشر سنوات. أقول تحت مشاهدة روحانية الرسول r لأن الرسول r لم يمت في نظر عمر. بل بدّل غرفة بغرفة. أي انسحب من غرفة عائشة رضي الله عنها إلى غرفة السعادة والنور تحت الأرض ويرى من خلفه من عالم البرزخ وعالم المثال.
وفي خطبة ذكر سيدنا عمر  جنة عدن، واصفًا سعَتها وأبوابها وأول من يدخلها الأنبياء، ثم أعقب كلامه مباشرة بنظرة لطيفة إلى قبر الرسول r مع انحناءة احترام وتوقير قائلاً: “هنيئا لك يا صاحب القبر”ثم استمر في ذكر الداخلين إلى جنة عدن وهم “الصدّيقون”وكذا بالتفاتة لطيفة وانحناءة احترام وتوقير توجه بها إلى قبر أبي بكر الصديق قائلا:”هنيئا لك يا صاحب هذا القبر”. ثم قال: يدخل جنة عدن من بعدهم الشهداء، ولعله تذكر الشهادة التي بشره بها الرسول r بالشهادة عندما كانوا معه على أُحد بقوله: “اثْبُتْ أُحُدُ فَما عليك إلاّ نَبيٌّ أَو صِدّيقٌ أَو شَهِيدانِ” ولعله تذكر ذلك اليوم المبشّر به فسكت هنيهة.. والجميع يرقبون ما ستتحرك به شفتا عمر t من كلام. فقال لنفسه متذمرا: “أين الشهادة منك يا عمر؟”أي هل ستظفر بها؟ أو ما شابه من هذا الكلام. ثم توقف مرة أخرى وباشر كلامه: “إن الله الذي هداك إلى الإسلام ووهبك الهجرة وجعلك من أصحاب النبي ورزقك العيش في المدينة يجعل الشهادة من نصيبك أيضا” كان هذا حلم سيدنا عمر t أي أنْ يُرزق الشهادة. وهو الذي قال الرسول الكريم r بحقه: “لَو كان بَعدي نَبيٌّ لَكان عُمَرَ بنَ الخطّابِ” وهو الذي ارتشف بالدرجة التالية من رحيق العلم اللدنّي الذي ارتشف منه الرسول r بالدرجة الأولى. وهو نموذج رفيع لا يضاهى للأمة. ومع كل هذا كان يرغب في أن يرصع بالشهادة تاج المجاهدة والجهاد الذي وضعه على رأسه.
ولا نعلم المدة الزمنية بين خطبته هذه وبين الطعنة التي نالها وهو يؤم المسلمين فطرحته أرضاً في الصلاة مضرجاً بدمه. لا يذكر لنا التاريخ عن هذا شيئا جازما. ولربما كان عمر t في غضون إيراده تلك الخطبة يعيش أيامه الأخيرة وكان يتمنى الموت ضمنا ويرغب فيه. فلقد بلغ به فراق الرسول الكريم والصدّيق حدًّا لا يطاق، فكان يدعو مراراً وبإلحاح: “اللّهم ارْزُقني شَهادةً في سَبيلك وَاجعَلْ مَوتي في بلَد رَسولك r”.( ) يدعو بهذا الدعاء ويتضرع إلى ربه ويبكي والمسلمون وراءه يبكون. وقد استجاب الله سبحانه دعاءه في إحدى صلواته فطُعن فأُكرم عمر t بالشهادة.( )
وفي الحقيقة أننا لو أدركنا مدى أهمية دَمعتين وقطرتين تسكبان في سبيل الله شوقا إلى العالم الآخر عند مليك مقتدر لرغبنا في اقتناص تلك الحالة بألف شوق وشوق، ورَفَّت لها أجنحة أرواحنا كرفيف أجنحة الحمام. ومعلوم أن هذا أيضا مرتبط بدرجة الإيمان والإذعان.
يقول الرسول  فيما يخص هذا الموضوع:
“عَينان لا تَمسُّهما النارُ، عَينٌ بَكَت من خَشيَة الله وعَينٌ بَاتَت تَحرُسُ في سبيل الله”.
أجل إن الله  يحب هاتين القطرتين إلى هذا الحد. فالذي يربط محبته بما يحبه الله ويرضاه ويعدّ نفسه لهذا السبيل لا يرغب في شيء من ملذات هذه الحياة الدنيوية ويعزف عن أذواقها الظاهرية. فلا يتذلل أمام مغريات الدنيا، بل يتأهب للعقبى بمشاعره ولطائفه كلها. ومن المعلوم أن هذه الأمور منوطة ببلوغ الإنسان درجة العرفان. وذلك أمر ليس بالسهل واليسير بل هو من أصعب الأمور وأشقّها. فالعرفان كما نفهمه هو اشتعال شعلة الإيمان في داخل الإنسان حتى يرى بنور الإيمان العقبى كما يرى الدنيا. فيشاهد ويطالع ما في العقبى كما يشاهد ويطالع ما في الدنيا. وعندها يتولد في داخل الإنسان شوق عارم إلى الآخرة لا يفضل أي عاقل أي شيء كان على المجاهدة في سبيل الله ولا على الشهادة في ذلك السبيل. فكيف يميل إلى هذه الدنيا الفانية الفاسدة من شاهد الجميل السرمديّ والجمال الأبدي؟.                                                          . عمرو بن جموح  – سعد بن خَيثمة
الشهادة ضمان الظفر بالخلود. وكان عمرو بن جَموح وسعد بن خَيثمة من الذين ظفروا في عصر النور بهذا الضمان. كانا طريحي الفراش لا طاقة لهما على السير إلا بالاعتماد على العصا. ولكن ما إن سمعا نداء الجهاد إلا وانتفضا من موضعهما انتفاضة الأسد الجريح وتأهبا للجهاد. خاطب كل منهما أولادهما وأحفادهما قائلا: “لو كان الأمر شيئاً غير الجهاد لفضّلتُكم على نفسي ولكن الأمر أمر الشهادة ولقاء الله جلّ وعلا والفوز بالجنة الخالدة. في هذا لا يفضّل أحد غيره على نفسه”وذلك عندما قالوا لكل منهما: “أنت مريض طريح الفراش فقد بلغت من العمر عتيّا، دعنا نخرج عنك للجهاد”. فهذا الحوار جرى في بيتين مختلفين وبين متحاورين مختلفين، ولكن يكاد يكون المعنى واحداً. مع أنه لا علم لأحدهما بالآخر. واحتكما معاً إلى الرسول r، اشتكى الشيخان من الشباب قائلَين “إن أولادي وأحفادي لا يدعاني أرزق الشهادة أو أضحّي بروحي في سبيلك”. ومهما حاول الرسول تهدئتهما إلا أنهما كانا قد سددا نظرَيهما إلى الجنة فاضطر الرسول r في النهاية إلى القول “نعم”، وهكذا يشترك الشيخان في الجهاد. وبعد ذلك يقول الرسول محدقا ببصره إلى العالم العلوي: “أرى عمرو بن جموح يركض في الجنة وقد سلمت رجله”. ووجدا طريحين ظهرا بظهر معا على الأرض. أجل لقد استشهد سعد بن خَيثمة وعمرو بن جموح في سبيل الله. والشاهد على هذا ربُّ العزة وسيد المرسلين والملائكة الكرام. فهم شهود جميعاً على أنهما قد ضمِنا الجنة.
وغيرهما يمكن أن يعيشوا بالرغبة نفسها وهم مازالوا في الدنيا، يعيشون والموت والاستشهاد أسمى غايتهم. ولكن كما ذكرنا من قبل أن هذا الأمر مرتبط بالعرفان واتباع الواصلين. فالبكاءُ هنا ينقلب هناك إلى ضحك وسرور، والقلقُ والمعاناة إلى الانغماس في الأذواق واللذائذ، والضيقُ والحرمان إلى مفارقة كل ضيق وحرمان. فعلى المرء أن يدرك هذا جيّدا ويلقّن نفسه هذه الحقائق دائما. ولهذا فالتنقيب عن وقائع ماضينا سيكون نافعا جدا. وقد أتت إلينا دعوة الإسلام العظيمة منذ الرعيل الأول إلى الآن بهذا الشعور وعلى هذه الشاكلة.
نعم إن التضحية بالنفس كانت عندهم رغبةً وعشقاً وتوقاً وهياماً مع أنهم كانوا بشَراً مثلنا وكانوا يحبّون الحياة. ولكن الذي دفعهم إلى هذا السبيل حقيقة أخرى. ولا يمكن إيضاح هذه الحقيقة إلا إذا عرفنا أنهم بلغوا العرفان. والقرآن الكريم يغرز فينا هذا العرفان ويعلن أنه لا يلحق المجاهدين في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم ومن اقتدى بهم في جهادهم وأنهم ليسوا أمواتا قطعا بل أحياء عند ربهم بحياة لا ندركها نحن ولا يدركها إلا من بلغها.
. جعفر بن أبي طالب
الشهادة دليل عزة المؤمن. والشهيد يرى من العزة والإكرام في الآخرة ما لضيف عزيز مكرم. وما رآه جعفر بن أبي طالب من الإكرام هو المثال الأنموذج.
لقد حارب جعفر بن أبي طالب t ببطولة فائقة في “مؤتة”. حتى يقول الذين كانوا يراقبونه أنه لم يلتفت إلى الوراء ولا مرة واحدة. ولما أصبحت فرَسه تعيق مبارزته وتعرقل اندفاعه، تركها فورا ونـزل من ظهرها وقطع قوادمها بالسيف وانطلق راجلا يخوض المعمعة ويقابل الموت بصدر رحب وجنان جريء.. حتى فقد ذراعيه واستشهد. وقال الرسول الكريم r في مجلس يضمّ ابنه عبد الله ليسري عنه: “رأَيتُ جَعفَرًا يَطيرُ في الجنّة مع الملائكة”.
أجل لقد حظي جعفر t بنعمة الطيَران مع الملائكة. منسلخا من أوهاق البشرية فأصبح كالملك.
5. أبو عَقيل t
أبو عقيل t أسطورة بحدّ ذاته. شهد بدراً، وبعدها شارك في جميع الغزوات مع رسول الله r. ولكنه لم يظفر بما كان يتُوق إليه ويبحث عنه. وما نال ما يبغيه إلا في اليمامة، في الحرب الضروس مع مسَيلمة الكذّاب. فكانت اليمامة آخر يومه في الدنيا… وفي الحقيقة إن هذا اليوم الأخير جدير بأن يطلق عليه يوم الخلود. فلَقد دبج أبو عَقيل بدمه في ذلك اليوم قصيدة عصماء لا يقدر على مثلها أحد من الشعراء. لنستمع الآن إلى الحادثة من ابن عمر:
لما كان يوم اليمامة واصطفّ الناس للقتال كان أول الناس جرحاً أبو عقيل الأنيفي t رمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده فشطب في غير مقتل فأخرج السهم ووهن له شقه الأيسر لما كان فيه وهذا أول النهار وجر إلى الرحل فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجازوا رحالهم وأبو عقيل واهن من جرحه سمع معن بن عدي t يصيح بالأنصار “الله الله، والكرة على عدوكم”وأعنق مَعن يقدم القوم وذلك حين صاحت الأنصار “أخلصونا أخلصونا”فأخلصوا رجلا رجلا يميزون. قال عبد الله بن عمر فنهض أبو عقيل قومه فقلت ما تريد يا أبا عقيل ما فيك قتال قال قد نوّه المنادي باسمي قال بن عمر فقلت إنما يقول يا للأنصار لا يعني الجرحى، قال أبو عقيل أنا رجل من الأنصار وأنا أجيبه ولو حبْوًا. قال بن عمر فتحزم أبو عقيل وآخذ السيف بيده اليمنى مجردا ثم جعل ينادي “يا للأنصار كرة كيوم حنين”فاجتمعوا رحمهم الله جميعا يقدمون المسلمين دربة دون عدوهم حتى أقحموا عدوهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم. قال بن عمر فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب فوقع على الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل وقتل عدو الله مسَيلمة. قال بن عمر: فوقعت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت “أبا عقيل!”فقال “لبيك”بلسان ملتاث: “لمن الدبرة”قال قلت: “أَبْشر!”ورفعت صوتي “قد قتل عدو الله”. فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله. قال بن عمر فأخبرت عمر بعد أن قدّمتُ خبَره كله، فقال: “ما زال يسأل الشهادة ويطلبها”.
. عبد الله بن عمرو
هو والد جابر، حضر جابر إلى رسول الله r وقال: “توفي والدي وخلف أيتاما كثيرين عقبه، علي أن أتكفلهم ولا أملك ما يعيشهم”. فحضر رسول الله r بيته ليسري عنه. وكانت ابنة جابر أو أخته في غرفة مجاورة تئنّ أنينا حزينا يُسمع الرسول r:
“جابر بن عبد الله يقول: لَمّا قُتل عبدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ حَرامٍ يَومَ أُحُدٍ قال رسولُ الله r يا جابرُ أَلا أُخبِرُك ما قال الله عزّ وجلّ لأَبِيكَ؟ قلتُ: بلَى. قال: ما كَلّمَ اللهُ أَحدًا إلاّ مِن ورَاء حِجابٍ وكَلّم أباك كِفاحًا فقال: يا عَبدِي تَمَنَّ عليَّ أُعطِكَ. قال: يا رَبِّ تُحيِينِي فأُقتَلُ فِيكَ ثانِيَةً. قال: إنّه سبَقَ مِنِّي “أنّهم إلَيها لا يُرجَعونَ”. قال: يا رَبِّ فَأَبلِغْ مَن وَرائي. فأَنزَلَ اللهُ عزّ وجلّ هذه الآيةَ ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ الآيةَ كُلّها”.
. حَرام بن ملحان
لا أعلم هل هناك من يجهل بطولات بئر معونة؟ فلقد أرسل الرسول r من القرّاء إلى قبيلة عمرو بن طفيل للدعوة والإرشاد، وكان بينهم حرام بن ملحان t وهو خال سيدنا أنس t وشقيق أمّ سُلَيم رضي الله عنها. كان واحدا ممن عشق رسول الله إلى حدّ الولـه. وحينما اقتربوا إلى القبيلة خاطب من معه: “لأذهب أنا وتخفوا أنتم هاهنا فإن أنصتوا لما أقول تأتون من بعدي وإن أصابوني بشي تنجون”ورضي الآخرون بهذا الرأي.
وهكذا بلغ قبيلة عمرو بن طفيل، فتظاهروا كأنهم ينصتون إليه. وما أن أوضح لهم الحق وبسط الحقائق إلا وقطّعوه بالرماح إربا إربا وطرحوه أرضا غارقا في بحر من الدماء. بيد أنه حظي بنور الآية الكريمة التي سيحظى به كل فرد في الآخِرة وهي: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(ق:22) فكان بصره يرنو إلى جنات النعيم، إذ قال “اللهُ أَكبرُ فُزتُ ورَبِّ الكَعبة”. إلا أن الكفار لم يكتفوا بقتله فحسب بل قتلوا أيضا كل من كان معه من الصحابة الكرام. كان الرسول r وقتئذ في المسجد مع أصحابه فأجهش بالبكاء.
“عن أنَسِ بنِ مالكٍ قال: جاءَ ناسٌ إلى النبي r فقالوا: أنِ ابعَث معنا رِجالاً يعَلّمونا القرآنَ والسّنّةَ. فبَعثَ إلَيهم سَبعِينَ رجُلاً مِن الأَنصارِ يُقال لهم القُرّاءُ فِيهم خالي حَرامٌ، يَقرءون القرآنَ ويتَدارسون باللّيل يتعَلّمون، وكانوا بالنّهار يَجِيئُونَ بِالماء فيَضَعونه في المَسجد ويَحتَطبون فيَبِيعونه ويَشترون به الطعام لأَهل الصُّفّة ولِلفُقراء، فبَعثَهم النبي r إلَيهم فعَرَضوا لَهم فقَتلوهم قَبل أنْ يَبلُغوا المكان فقالوا: اللهم بَلِّغ عَنّا نَبِيَّنا أنّا قَد لَقِيناك فرَضِينا عَنكَ ورَضيتَ عَنّا. قال وأَتَى رجُلٌ حَرامًا (خالَ أنَسٍ) مِن خَلفِهِ فطَعَنَه برُمحٍ حتى أَنفَذَه فقال حَرامٌ: فُزتُ ورَبِّ الكعبة. فقال رسول الله r لأَصحابِه: إنّ إِخوانَكم قَد قُتِلوا وإِنّهم قالوا: اللهم بَلِّغ عَنّا نَبِيَّنا أنّا قَد لَقِيناك فرَضِينا عَنك ورَضِيتَ عَنّا” وباشر الرسول  بعد هذه الحادثة بقراءة دعاء القنوت في الصلاة كل يوم ودعا على أولئك القتَلة وقد سمح الله جل وعلا لهذا الدعاء فترة من الزمن حتى نـزلت الآية الكريمة ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾(آل عمران:128) أي أن هذا الأمر يخصّ الله سبحانه. فهو الذي يتخذ منكم شهداء ويجعلهم أعزاء مكرمين، ويذل الكافر بعذاب خالد في نار جهنم. فالله يمهل ولا يهمل. إذ يعطي الكافر فرصة بالإمهال ولكن إذا ما أخذه لا يفلته. وكم من جبار قصم الله ظهره، وكم من ظالم أخذه أخذ عزيز مقتدر، وكم من فرعون دمّر الله قصوره على رأسه، وكم منهم من أغرقهم، وكم منهم من أنـزل عليهم حجارة من السماء، وكم منهم من تركهم تحت النيران -كما في بومبي- وما نجا جسد بعضهم إلا ليكونوا عبرة لمن خلفهم. أجل، فالله يمهل ولا يهمل. والله حليم ولكن عذابه أليم.
فالذين أراقوا دماء المسلمين في بئر معونة صاروا حطب جهنم كلهم إلا من دخل في الإسلام. أما الذين استشهدوا هناك فاصبحوا في جنات النعيم. فلئن لم يكن هذا عزا وكرامة فما هو إذن؟
. سيدنا حمزة بن عبد المطلب
أيمكن ألا يُذكر سيد الشهداء وأسَد الله حمزة إذا ما ذُكر الشهيد؟
عندما خاض حمزة t معركة أُحد الحاسمة استشهد شهادة تليق به. لم يحظ شهيد ولا مجاهد بالبطولة والشجاعة بمثل ما حظي به حمزةt . فقد قتل في ذلك اليوم ثلاثة وثلاثين كافرا ثم استشهد حسب ما يورده المؤرّخون. بمعنى أنه قتل ما يقارب نصف قتلى المشركين قبل أن يقطّع جسده أوصالا. كانت صفيّة أخته تبكي على نعشه المبارك وفي الوقت نفسه ربما كانت تسعى لجمع أوصال جسده. كانت شهادة حمزة تثير أشجان رسول الله r من جهة ومن جهة أخرى يثيره بكاء عمّته صفيّة أم الزبَير. لم يبق أحد من المسلمين لم يجرح في ذلك اليوم، زد على ذلك تسعة وستين شهيداً. وعندما رجعوا إلى المدينة كان كلٌّ يبكي على أقاربه. بكاء على الشهداء وبكاء على الجرحى وبكاء على من مات في بيته من أثر الجرح. ولكن غُفل عن واحد منهم في هذا الهياج والعويل المتصاعد فلم يُذرف الدمع عليه. نعم إنه سيد الشهداء. فهذا المنظر آلم رسول الله r كثيراً فقال بقلب منكسر حزين “لَكِنّ حَمزَةَ لا بَوَاكِيَ له”. وما أنْ سمع سعد بن معاذ t هذا حتى جمع نساء الأنصار إلى باب بيت حمزة قال لهن: “ابكوا لحمزة ثم لـمَوتاكم”. ثم أصبحت هذه عادة جارية مدة ثم انقطعت. ولو أن المسلمين بكَوا لحمزة t قبل بكائهم لموتاهم إلى يوم القيامة، لَما أوفوا حقّ أسد الله حمزة …
. عبد الله بن جحش
وعبد الله بن جحش أيضاً من عشاق الشهادة. فقد اقتحم صفوف العدو يوم أُحد لما رأى علائم الهزيمة في صفوف المسلمين وبدا التشتت فيها. عبد الله بن جحش t وسعد بن أبي وقّاص أبناء أخوال. وتقابلا عندما اشتدّ الكرب وحمي الوطيس. يقول سعد بن أبي وقّاص t:
“قال عبد الله بن جحش يوم أُحد: ألا تأتي ندعو الله؟ فخلينا في ناحية فدعوت: “اللهم إذا لقيتُ العدوّ غداً فلقّني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حَرَده فأقتله فيك وآخذ سلبه.”فأمّن عبد الله بن جحش، ثم قال عبد الله: “اللهم ارزقني غداً رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يقتلني ويأخذني فيجدع أنفي وأذنيّ، فإذا لقيتك قلتَ: يا عبد الله! فيمَ جُدع أنفك وأذناك؟ فأقول: فيك وفي رسولك. فيقول: صدقتَ.”قال سعد: كانت دعوة عبد الله خيراً من دعوتي، فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنيه معلقان في خيط.”( )

النتيجة
الموت الشريف.. يفضّله المؤمن الحق على العيش الذليل… الموت العزيز أفضل بألف مرة من العيش في عقر الدار في قلق واضطراب خوفا من تسلّط الظلمة علينا. هو هكذا إذا استغرق في بحر العرفان الربانيّ، ذلك المسلم العزيز الكريم. ولا يدرك هذا المعنى من يعيش حياة المقابر ميتا في الحياة.
وفي الحقيقة إنه من الصعوبة بمكان أن تتطهّر ذنوبنا بشكل آخر. إن الإنسان يعيش مرة ليكسب السعادة في الآخرة. والحال إن حياتنا تمضي غارقة بالذنوب. فكم مرة يقترف النظر الحرام شاب يجول في الأسواق ويجوب الشوارع، وكم مرة يموت كل يوم.. كم مرة ينغمس في القاذورات، كم مرة يغرق في الأوحال، كم مرة يُنـزل الحرام إلى معِدته، بل كم مرة يركع ويسجد أمام الحرام، كم مرة يعصي ربَّه الجليل، كم مرة يهمل توقير الرسول الحبيب r، بل كم مرة ينحط إلى الكفر بإنكاره القرآن الكريم… فلا ضمان لتطهير هذه الأجساد المليئة بالآثام إلا طريق الشهادة… البقاء في هذا الشعور والفكر، واغتنام الفرصة متى سنحت والإمساك بها، والسعي للفوز بذلك الموقع المعَلّى مضطربا اضطراب أبى عَقيل t… نعم إن هذا هو أسمى غاية لكل من حمل أمانة دعوة الإسلام العظيمة وينبغي أن يكون هذا. فالشهادة هي غايتنا ومطلوبنا وعشقنا…
إن أفضل ما يعمله مَن أمضى حياته بالصالحات من الأعمال في منظومة من الشعر الرقيق، أن يختمها بقافية الشهادة. وعندها تكسب الحياة قيمة أعظم وأغلى فتتفتّح في رياض الجنة إلى ما شاء الله أن تتفتح عن ذخائر مباركة، ألا يكافأ في الجنة على كل عمل من الصالحات. فالجنة وجهنم حَوضان ومخزنان تجمعان أعمال الإنسان، فيتجمع الخير والطيّب منها في الجنة والشر والخبث في جهنم. ومن هذه الجهة فنحن بمثابة من ينسج الجنة وجهنم ويحيكهما خيطاً خيطاً.
إن تاج الأعمال الصالحة هو الشهادة بلا شك. والشهادة هي تسليم من نذر حياته في سبيل الله، وروحه إلى الله على بصيرة وعلم. لأن بصره قد تفتّح في الدنيا فشاهد ما وراء الدنيا ولمّا يزل فيها. وقد اجتنى الشهيد ثمرات الجنة لنذر حياته لله. ومن هذه الناحية فهو المحظوظ المختار من بين الناس.
إن من يريد أن يأخذ حظًّا كاملاً من حياة مباركة طيبة عليه أن يقطّر عليها قطرات من الدم في سبيل الله ويكون شهيدا، كي يظفر بمطلوبه بأفضل ما يمكن. فالحياة التي لا تختم بالشهادة تترك فجوات مهما كانت معمورة بصالح الأعمال. أما الحياة التي أخذت نصيبها من الشهادة بشكل من الأشكال فليس فيها فراغ ولا فجوة فهي كالقصيدة التي اكتملت بقافيتها إلى آخر بيت. ففيها الانسجام والنظام والمحبة. الشهادة مفتاح ذو أسرار، تفتح أبواب الرحمة للسماوات والأرضين على مصاريعها. حيث يمضي الشهيد دون حساب في المواضع التي يحاسب فيها حتى الأنبياء متوجها إلى ما أعد له من العوالم. الشهيد له حصانة. فلباسه الملطّخ بالدم يمنحه الامتياز في المرور.
لقد حرص كل مؤمن بالله على الشهادة ختاما لحياته، في جميع المعارك الحاسمة والكفاح المستميت والحركات النضالية الجادة التي مرت في جميع الأدوار. ذلك لأن الله سبحانه يرضى عن أمثال هؤلاء من عباده، كما ذكر في حديث الرسول الكريم r: “عن عَبد الله بنِ مَسعُودٍ قال: قال رسولُ الله r عَجِبَ رَبُّنا عزّ وجلّ مِن رَجُلٍ غَزَا في سَبيل الله فَانْهَزمَ -يَعنِي أَصْحَابَهُ- فعَلِم ما علَيه فرَجَع حتى أُهَرِيقَ دمُه فيَقُولُ الله تعالى لِملائكته: انْظُرُوا إلى عَبدي رجَع رَغبَةً فِيما عِندِي وشَفَقَةً مِمّا عِندِي حتى أُهَرِيقَ دَمُهُ”

مقدمة الكتاب