لا بد أن يكون كل من يتولى مهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مجهزاً بالعلم. ذلك لأن العلم والتبليغ وجهان لحقيقة واحدة. فعلى الداعية أن ينشئ نفسه جيداً بحقائق دينه الذي يريد تبليغه للآخرين، وإلاّ يكون سبباً لإخفاقات كثيرة، بل قد ينفّر مخاطبيه عنه وعن دينه. وما هذه النتيجة إلاّ تجاوز على الحقوق الدينية والدنيوية له ولغيره.
سنذكر في هذا الفصل نظرتنا للعلم عامة، ثم نسعى لبسط علاقة الإرشاد والعلم والعمل.
العلم في عالم الوجود كله محراب سيدنا آدم، وهو يتجسم ليصبح سفينة سيدنا نوح، ويصبح سيدنا نوح في السفينة، وهو في سيدنا إبراهيم وديان جارية بمسيل الوحي الإلهي، وهو يتجسم ليصبح الطور في سيدنا موسى، أو يصبح سيدنا موسى في الطور.. لذا فما يُرى في الكائنات قالب واللب هو العلم.
ما العلم؟ العلم هو معرفة الإنسان لربه بعد معرفة نفسه، أو رؤية الإنسان لربه بجعل نفسه مرصاداً لمشاهدة “الصفات” و”الأسماء” الإلهية، بما يكتشفه في مشاعره، وسعيه للوصول إلى معرفة ربه والعلم به. فهذا هو العلم الحقيقي، كما عبّر عنه الشاعر يونس أمرة ضارباً في صميم العلم:
العلم هو أن تعرف،
أن تعرف نفسك،
فإن لم تعرفها،
فالعفاء على ما قرأت…
أما قولهم: “من عَرف نفسَه فقد عرف ربَّه” فهو كلام بليغ ذو مغزى دقيق يكاد يكون حديثاً نبوياً، وهو ليس بحديث شريف بل دستور رصين قيّم من حيث المغزى والمعنى، والقرآن الكريم يسند هذا الدستور بالآية الكريمة ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾(الحشر:19).
نعم إذا نسيتم الله، يُنسيكم أنفسكم وذاتكم. وإذا ما نسيتم أنفسكم تبتعدون عن الله. وعنده تغفلون وتصبحون غرباء عن أنفسكم فتنسونها. وهكذا تتكون حلقة مفرغة تولد إحداها الأخرى وتغذيها، ومن يدخل في هذه الدائرة الفاسـدة من الصعوبة بمكان أن ينجو، بل ينقلب على عقبيه، ويذهب هدرا. ويمكن أن نفهم من الآيـة الكريمة معنى آخر وهـو:
احذروا أن تنسوا الله، فينسيكم أنفسَكم، وعنده تنشغلون بالخارج فحسب، فتتحول أنظاركم إلى الآفاق وحدها، فلا توجهون مجال تفكركم ومحاسبتكم إلى أنفسكم. فتجد من يتكلم عن الإسلام، وعن القرآن ولكنه ينتظر تطبيق أحكامه من الآخرين، وربما يهمل أقرب الأقربين إليه أحكام الإسلام ويحقرها جهاراً وفي بيته، وهو لا يراهم حيث كثف نظره إلى الآخرين منتظراً منهم ما يريد. وكم هو حزين أن يطلق الإنسان الهتافات المطالبة بالإسلام والجولات في الأزقة والشوارع، متتبعاً خطوات الشياطين، ناسياً نفسه من دون أن يأخذها بالمحاسبة الدقيقة. ولا يتحرى يومياً مرات ومرات مدى علاقته مع ربه الجليل.
نعم، نحن كمن يتسلق ذرى الجبال، علينا أن نحسب حساباً دقيقاً أين سنضع أقدامنا وأين سنضرب الكلاّب (الخطاّف) ونربط الحبل، لأن أي خطأ نرتكبه -ولو كان تافهاً- يودى بحياتنا.
نعم! أليس عجباً أن ينسى الإنسان نفسه في المعبد والمسجد بل حتى في الكعبة والروضة المطهرة.. وأعترف متألماً أن عدد هؤلاء الذين ينسون أنفسهم في هذه الأماكن لا يحصى. فيا رب ما أعظم هذه الخسارة!
للعلم غاية، وهي أنه ينتج المعرفة الإلهية والمحبة الإلهية. إذ العلم الذي لا يضرم محبة الله في قلب الإنسان ولا يلهب ذوقه الروحاني -وهو ضمان نعيم الجنة- لا يعدّ علماً بلغ غايته. لأن العلم الذي بلغ الغاية وحققها هو منبع حياة لطائفنا، والشريان الدافق لمشاعرنا، وبدونه موت معنوي. فالعلم الذي يثني عليه ويحث عليه القرآن الكريم والحديث الشريف هو هذا العلم وليس غيره. بل هذا هو العلم.
وقد خضنا هذا الموضوع مع أنه ليس موضوعنا الأساس، إلاّ أنني أحب أن أتناول بعضاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تخص العلم:
أ- ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(الزمر:146)
أي هـل العلم الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الله تعالى سـواء مع الذي يسجن الإنسان في المختبر؟ وهل يستوي العلم الذي يوصل من يراقب النجوم أمام التلسكوب ناوياً أن يصعد بمدارج من نور إلى الله والعلم الذي يسمّر نظره في النجوم وأنظمتها؟. وبتعبير أوضح هل يستوي هذان اللذان يملك كل منهما زاوية نظر مختلفة عن الأخرى؟
إن مَن يجول في بطون الكتب كالفأر متتبعاً خزينة الأسرار يصرف جلّ عمره في كتابة الحواشي والشروح من دون أن يقرأ سطراً واحداً من علم الحقيقة، هذا الذي يطلق عليه اسم العالم، هو بالتعبير القرآني كمن يحمل أسفاراً. أين هذا من الإنسان الكامل الذي يقرأ سطراً وإذا به يحلّق في السماوات ويعيش في كل آن في نشوة وانتشاء روحي. أظن أن الفرق بينهما كالفرق بين “لا شيء” و”كل شيء”. فالعلم الموصل إلى الله “كل شيء” والذي يتركك في الطريق “لا شيء”.
بـ- ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾(فاطر:28).
واضح جداً الإشادة بالعلم والثناء على العلماء في هذه الآية الكريمة. ولكن الثناء يكون في موصوفه، أي في الإنسان الواقف في خشوع بعلمه تجاه ربه. ولكل علم ثقله وأهميته. والرسول r يقول: “إنّ العلماءَ ورَثةُ الأنبياء”.( )
نعم! لئن كانت هناك زمرة من البشر يرون الحقيقة على نصاعتها دون غبش، فهم الأنبياء عليهم السلام. أما نحن فنستطيع أن ننفذ إلى الحقيقة بوساطة النور الذي يشعّه كلامهم. حيث لا يمكن لإنسان كائناً مَن كان أن يجد الحقيقة المطلقة من دون أن يدخل تحت رعاية نبيّ من الأنبياء. وربما يكشف عن بعض الحقائق القريبة من الصواب بجهوده وسعيه، أما الصواب المطلق فلا يمكنه الكشف عنه إلاّ بدلالة الأنبياء عليهم السلام. ولهذا فالأنبياء هم الوارثون الحقيقيون لله، ومن بعدهم العباد الصالحون. والقرآن الكريم يشير إلى عباد الله الصالحين الذين يرثون الأرض. و تلك العلاقة بين الحديث المذكور وهذه الآية جلية وواضحة إذ تعني: أن عباد الله الصالحين هم الذين يستحقون أن يكونوا خلفاء الأرض، وهم الوارثون للأنبياء وليس غيرهم؛ ذلك لأن النبي ترجمان الصواب، وبمقدار تحقق أيّ إنسان ليكون مترجماً للصواب يكون وارثاً حقاً للأنبياء.
ولأجل بيان فضل العالم على الآخرين أُورِدُ من الرسول r هذا القياس، إذ يقول: “فَضْلُ العالِمِ عَلَى العابِدِ كَفَضْلِي على أَدناكم”.( )
نعم إن العابد الجاهل معرّض للانحراف والزيغ كل حين. وهذا الانحراف نسبي حسب مرتبة العبد عند الله. فمنهم من يعدّ عدم مراقبته لله في آن واحد انحرافاً جاداً.. ورغم نسبية المسألة فهناك انحراف. والحال أن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء في مراقبة دائمة ومحاسبة مستمرة مع أنفسهم. فهم في توق روحي دائم، وعلى أهبة الاستعداد تجاه المهالك والمخاطر المحدقة. ومما لا شك فيه أن العالم الذي يتعبد عن معرفة وبشعور تام بكل مسألة، أفضل ممن يتعبد بلا شعور، كفضل الرسول r على أدنى الصحابة الكرام. والحقيقة أن هذا يعني: أنه لا يمكن مقايستهما.
وهناك نكتة دقيقة في هذه المسألة، وهي أن الإنسان الكامل الوارث للنبي r لا يفلت منه نور يُفاض عليه من الفيض الأقدس. حتى كأنه مركز استقطاب كبير لابتلاع الأشعة المنبعثة من الشمس. فلا يهدر ولو ذرّة من كل فيض مقدس يفيض عليه بتجليات الأحدية، وينتقل إليه بتجليات جمالية لطيفة تلاطفه بإسباغ الرحمة عليه، فتكون جميع أركان قلبه في نشاط مستديم وفعالية دائمة، ساعياً ليكون مرآة عاكسة لهذه الفيوضات.
هـذا -في الوقت نفسه- تعبير عن خشوعه العظيم وتوقيره الكامل لربه الجليل، وهو عملية شحن روحي مستمر. ولهذا الشخص المشحون باستمرار له إفراغ أيضاً، وهذا الإفراغ هو نشر ما في روحه من ضياء ونور وحقائق أخرى إلى مَن حوله. وليس هناك معيار لقياس عمله هذا حسب أعماق روحيته. إذاً فمهما توغل العابد في عبادته لا يبلغ درجة عبادة عالم مؤهل لأن يكون إنسانا كاملا. فضلاً عن أن المرء عليه أن يعمل بما عَلِم. وإلاّ فالقرآن الكريم يهدده ويزجره بالآية الكريمة: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعلَمُونَ﴾(البقرة:146).
نعم، إنهم يعلمون ولكن لا يعملون، فهم كالثقوب السوداء لا تعكس نوراً إلى شيء. فلا يستفاد بشيء من طاقاتهم الضوئية، أو بتعبير أصح لا يكون كالشمس تشع ضياءها إلى كل مكان، فهي موقد وهي سراج وهي حزمة ألوان تلامس أزاهيرها، من الكواكب السيارة. ولنترك محرومي الحظ الذين ضياؤهم كالثقب الأسـود مظلماً قاتماً، مع ما لديهم من طاقات مدخرة. نتركهم وحالهم منتقلين إلى حديث شريف للرسول الأكرم r؛ إذ يقول: “مَن سُئل عن علمٍ عَلِمَهُ ثم كَتَمَه أُلْجِم يوم الْقيامة بلجَامٍ من نار”.( )
فهذا الكلام الطيب بيّن المعنى، أي مَن تعلم شيئاً ولم يحاول نشره إلى مَن حوله، أي لم يفرغ بعد ما شُحن، ولم يصبح قدوة حسنة بأطوراه، فلا يكون مرآة عاكسة للحق. ويكون جزاؤه أن يلجم بلجام من نار. ونجد في الحديث الشريف تقريعاً وتوبيخاً شديدين؛ حيث إن اللجام لا يستعمل إلاّ للحيوانات. أي تشبيه مَن كتم علمه بالحيوانات، وهو تعبير شديد كما هو واضح.
إن ذلك الإنسان -الذي كتم الحق- لم يدرك قيمة ما أهّله الله وجعله في أحسن تقويم، وأهمل ما أودع الله في ماهيته من شعور وبيان وتفكر حتى ميّزه عن الحيوانات، بل جعله خلقاً ممتازاً مختاراً من بين المخلوقات، ولكنه لم يؤد شكر ما أودع الله فيه. أليست معاملة عادلة عدالة محضة أن ينـزع رب العالمين أفضاله عنه.. الأمر أعرضه لأنظاركم.
العلم والتبليغ وجهان لحقيقة واحدة، أما العمل فهو شرط لا ينفك عنهما. فلا يفرز هذه الثلاثة بعضها عن بعض؛ إن عمل المرء بما علم تعبير عن توقيره لعلمه، إذ عدم القيام بالعبودية لمن عرف ربه هو عدم توقيرله وعدم اكتراث، بل بلاهة وعمى وصمم. ولاسيما من تولى عناء خدمة الإيمان وتكاسل عن العبودية فهذا أمر مخيف أكثر من مخافة العدو الخارجي. والحالة التي يتقمص بها الغربيون حينما يرون غير الملتزمين من المسلمين، وما يتفوهون به له دلالة لهذا الحكم، إذ الكلام أو الشهادة من الخصم له دلالة خاصة.
يسأل أحدهم إنكليزيا مسلماً، لماذا لا يدخل الإنكليز في الإسلام أفواجاً، فهم أناس عقلاء حتى إنهم يديرون سياسة العالم؟ فلا يجيبه الإنكليزي المسلم وإنما يمسك بيد السائل ويأخذه إلى أقرب مسجد.. وضع كئيب، ليس هناك إلاّ عدد ممن يؤدون العبادة بأجسادهم.. وكان هذا جوابه. وهذا يعني: أن طور الغربي واضح تجاه النظم الدينية، أو غير الدينية، إن لم تظهر في التطبيق العملي وإن لم تترجم إلى واقع عمليّ. فمتى ما أصبحنا نقابلهم كجماعة توحد فيها الظاهر والباطن، وتكامل فيهم العقل والروح، وغدت قلوبهم متعارفة مفتوحة للقرآن الكريم، وانسجمت أعمالهم مع فطرة الإنسان، وهمّ كل منهم متوجه إلى هداية الإنسانية.. فانهم يلجأون إلى الإسلام. وقد لجأوا إليه، وسيلجأون بإذن الله من دون أن نكلفهم به.
نعم، إن مجتمعا لا يعرف دينه، ولا يعرف ربه، ولا يفهم عن كتابه، وليس له من المظاهر ما يجلبه اليه كيف يلتحق به الغربي؟ فهو ينظر أول ما ينظر إلى الواقع العملي والى بناء قلب المسلم وعقله. إذ يهتم بأناس تتماوج في آهاتهم الحسرات حباً للإنسانية وإشفاقاً عليها، يقضون لياليهم بالتهجد والقيام لله، وألسنتهم رطبة بذكر الله، لا يهدرون الوقت ما استطاعوا، بل يشغل كل منهم كل آن من وقته بما يفيد وينفع.. نعم إنهم يهتمون بأناس مشحونين بمثل هذه الطاقات.
فإذا ما تمكن الذين يمثلون الإسلام أن يصبحوا على هذه الشاكلة فسيهرع الغربيون إلى الإسلام ويدخلونه أفواجاً. ولكن لان الحالة معكوسة، تجلت النتيجة معكوسة أيضاً، فابتعدوا عنا حالياً.
وباختصار نقول: إن الإسلام نظام إلهيّ يربط العلم بالعمل ربطاً محكماً. ففي إحدى جانبيه الإيمان، والجانب الآخر تحويل هذا الإيمان إلى عمل وفعالية. نعم، إن ذكر أعمالِ وعباداتِ الآخرين وروايةَ حكايات عنهم جميل من جهة لما فيها من عبر وعظات. ولكن الاكتفاء بهذا القدر فقط من دون القيام بتطبيق تلك الأعمال في الواقع يؤثر تأثيراً سلبياً في المقابل. فالإسلام ليس ذكر مناقب الأولياء أو الاستماع إليها فحسب، بل هو تحويل ما يُذكر عنهم إلى حياة معيشة. نعم، الإسلام إيمان وعمل. فالذين يتكلمون عن العمل الإسلامي من دون أن يدركوا أن الإسلام إيمان وعمل كلامهم هذر ليس إلاّ.