سؤال: هل من الضروري استيراد العلوم للوصول إلى المستوى المطلوب في العلم والدراسة؟ وما الذي يجب القيام به لتأسيس مفهومٍ علميّ قائم على مقوّماتنا الأساسية؟
الجواب: المصدر الرئيس للعلم هو آثار الحق تعالى، والقرآن الكريم المعجز البيان هو القول الشارح والتفسير الواضح والبرهان القاطع والترجمان الساطع لهذه الآثار [1]، والسنة الصحيحة هي المبيّن والمفسر للقرآن الكريم، أما فهمُ ساداتنا من الصحابة الكرام والتابعين العظام فهو بمثابة عدسة نستطيع من خلالها فهمَ كتاب الله تعالى؛ لأن القرآن الكريم نزل بلغةٍ يفهمونها، واستخدم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لغةً تراعي الأفهام وتحترم الحسّيات وتتماشى مع الأذهان أو ما يُسمى بـ”التنزلات النبوية”، ولذا فمن الأهمية بمكانٍ أن نتدبر ونستوعب جيّدًا الأوامر التكوينية تحت ريادة القرآن الكريم بدايةً فالسنة الصحيحة ثم السلف الصالح، وأن نتوصّل إلى نقطة اتصالٍ واتفاق بين هذه الأوامر التكوينية والأسس الدينية، لكن يجب ألا يغيب عن الأذهان أنه من المتعذّر الوصول مرة واحدة إلى مثل هذا الأفق المأمول والمستوى المنشود في مثل هذه المسألة التي تعرضت لإهمالٍ جسيم طوال قرون؛ فقد تلقى الشغف للعلم والدراسة ضربةً فادحة في القرن الخامس الهجري، فحُذفت من المقررات الدراسية الحقائقُ والمعاني العالية التي يفيضها العلم في الأرواح، ونتقرب بها إلى الله.. وكما ذكرنا في مناسبات مختلفة لم تُستبعد فحسب العلوم الطبيعية في المدارس الشرعية، بل أُغلِق الباب وأوصِد دون حياة الإسلام الروحية.
نشوة النصر
وثمة حقيقة لا مجالَ إلى إنكارها وهي أننا قد رفعنا لواء الإسلام في تلك الفترة، وبذلْنا قصارى جهدنا وسعينا في هذا السبيل، فأحرزْنا إنجازات كبيرة في المجال السياسي والعسكري، ولا جرم أن رعاية العالم الإسلامي والذود عنه له قيمةٌ عالية وقدرٌ كبير عند ربنا سبحانه وتعالى.
أجل، فالذين انغلقوا على العداوة وتجاوزوا واعتدوا؛ يُعتبرُ التصدّي لهم من أجل الحفاظ على الدين والشرف والكرامة أمرًا جديرًا بالاحترام والتقدير وخليقٌ بمن قاموا بهذا الأمر أن يُوجّه إليهم كلُّ احترام وتقدير.
أجل، إن أجدادنا من السلاجقة حتى الإيلخانيين، ومن الأيوبيين حتى العثمانيين قد رفعوا لواء الإسلام، ومثّلوه حقّ التمثيل، فكأنهم حملوا اللواء من برجٍ إلى آخر، وجعلوه يُرفرف خفاقًا على القمم في كل مكانٍ كرمزٍ لكرامتنا وشرفنا وعفتنا، ولكن كما أن الإنسان الذي ينهمك في أمرٍ ما ويستغرق فيه لا يستطيع أن يتبحّر في أمرٍ آخر فقد أدى هؤلاء وظيفةَ رفعِ اللواء، ولكنهم أغفلوا المختبرات والمراكز البحثية.
والحال أن العلم في عالمنا الإسلامي كان قد بلغ مكانة سامقة في القرون السابقة طوال عصور متعددة، فنشأ الكثير من المتفوقين في هذا المجال؛ فمثلًا كان ابن سينا (370هـ/980م-427هـ/1037م) متخصّصًا في علوم كثيرة، وله باعٌ كبيرٌ في الفكر والفلسفة، كما كان صاحب الكلمة في علم وظائف الأعضاء، وعلم التشريح، وساحة الطب؛ حتى إنه وضع علاجات معيّنة للفيروسات في تلك الفترة، كما كانت له آراء وملاحظات حول فهم القرآن الكريم، وفضلًا عن ذلك كان متصوّفًا، ولم يكن وحيدًا في هذا الميدان، بل نشأ إلى جانبه في تلك الفترة أيضًا العديدُ من العلماء الأجلّاء مثل محمد ابن يحيى بن زكريا الرازي (250هـ/865م-311هـ/923م) وجابر ابن حيان (721-815م) والفزاري (ت: 777م) والزهراوي (936-1013م) والخوارزمي (164هـ/781م-232هـ/847م) والبيروني (362هـ/973م-440هـ/1048م)…؛ كان مصدر هؤلاء جميعهم الدين الإسلامي، بحثوا فيه عن نقطة الاتصال والاتفاق بين الأوامر التكوينية والأوامر التشريعية، واستوعبوها جيّدًا، فلم يرزحوا تحت تأثير الآخرين، ولم يُصابوا بعقدة الدونية، أما غيرهم فقد أدركوا أن ما يتمتع به هؤلاء المؤمنون من مزيةٍ وتفوقٍ يرجع إلى الدين، فاحترموا الدين في شخص هؤلاء.
غير أن الشغف بالعلم والبحث قد ظلّ قائمًا حتى القرن الخامس الهجري، وما إن ابتعد عن المركز ووصل إلينا حتى أخذ يتباطأ ويفقد بريقَه مع الوقت، ولم يؤد وظيفته على الوجه الأكمل.. ومن المحتمل أن النصر الذي تحقق بفتح إسطنبول قد أدار رؤوسنا، وزاد هذا الدوارَ انتقالُ الخلافة إلينا، ولا يُفهم من كلامي أن هذه الفترة لم تتخللها أي إنجازات؛ فلا أحد يُنكر الإسهامات العلمية التي حققتها “مدرسة الفاتح” و”مدرسة السليمانية”، و”مدرسة أندرون”.. ولكن الحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها أن هذا التطوّر والانكشاف العلمي في الساحة العلمية الذي ظلّ قائمًا حتى القرن الخامس الهجري لم يُر له أثرٌ في الحقب التالية.
تأمّل كتاب الطبيعة
والحقُّ أن الغربَ قد وصلَ إلى مستوى معين في العلم والفنّ بتأمّلِه وتدبّره للحوادث والأشياء وشغفِه الكبير بالعلم والدراسة، كما يظهر لنا في البرامج الوثائقية.. فمثلًا أخذ بعض علماء الغرب في تتبُّع حياة طيور البطريق في القطب الشمالي، والحيتان في مكان ما؛ حتى إن هناك باحثًا يقول: “إنني أتتبّع حياة الأفاعي منذ خمسة وعشرين عامًا”.. ربما لا يعلم هؤلاء العلماء النتيجة التي سيتحصّلون عليها في المستقبل من جراء سعيهم وجهدهم، ولكن حبَّ الاطّلاع عندهم وشغفَهم بالعلم والبحث؛ قد دفعهم إلى التدقيق فيما يسمونه بالطبيعة الموحشة، فأخذوا يحللون ويركبون ويُدقّقون، ويمحّصون، وينسجون، ثم ينظرون في الأطراف؛ في محاولةٍ للوصول إلى نتيجة ما.
وأقول استطرادًا: لقد وصل هؤلاء في العلم إلى مستوى ما، ولكنهم نسبوا كلَّ هذا إلى الانسياقات الداخلية والدوافع الطبيعية لدى الحيوانات، ولم يخطوا خطوة أخرى، فينسبوا الأمر إلى صاحبه الحقيقي وهو الله جل جلاله.. لقد رأوا أن كل الأحياء تتصرف مثل الإنسان، بل إن بعضها يتفوّق على الإنسان ويحرز كثيرًا من النجاحات في مسألة إدامة العيش، ولكنهم لم يستطيعوا أن يروا يدَ الناظم سبحانه التي أبدعت مثل هذا النظام والتناغم الرائع الفريد، ولا القوانين التي وضعها، ونظرًا لأنهم لم يستوعبوا فكرة السير إلى الله انطلاقًا من الإنسان والحوادث والأشياء، ولا يملكون وجهة النظر التي تعينهم على الوصول إلى هذا الأفق فقد انخرطَ وانغمس معظمُهم -ولا نقول جميعهم- في الطبيعية والوضعية أو المادية.
أجل، رغم ما بذلوه من جهدٍ فقد عجزوا عن رؤية كتاب الكون الكبير، وما فيه من حروفٍ وكلماتٍ وفقراتٍ تتحدّث جميعها عن الله سبحانه وتعالى.
السبل الآمنة للوصول إلى الحقيقة
ولنرجع إلى موضوعنا الرئيس فنقول: لقد ضعُفت الهمّة لدى العلماء والباحثين عندنا بعد القرن الخامس الهجري، فلم يضطلعوا بأبحاثٍ وأعمالٍ حول دراسة الأشياء وسبر أغوارها كما يفعل علماء الغرب اليوم.. وإننا الآن إن لم ننكبّ على هذا الأمر مثلهم على الأقل، أو نهب أنفسنا لمثل هذه الدراسات والأبحاث فمن المتعذّر الوصول إلى نجاحٍ على المستوى المنشود.. من أجل ذلك يجب أن يكون لدينا عشقٌ بالغُ الشوقِ للحقيقة، وكما أنه لا توجد حقيقةٌ أعظم من الحق سبحانه وتعالى، فكذلك ليست هناك حقيقةٌ أعظم من الأشياء التي عظّمها الله سبحانه وتعالى، إذًا فالعشق هنا هو عشق الوصول إليه سبحانه بدايةً، ومن شأن هذا العشق الذي يشعر به الإنسان إزاء حقيقة الحقائق أن يثير شغفَه نحو العلم، أما عشق العلم فيسوقه إلى البحث والدراسة، ونتيجة لهذه الدراسات يقوم الإنسان بالبحث عن الطرق الموصّلة إلى الله والعثور عليها.
والطرق الموصلة إلى الله تعالى هي بعدد أنفاس المخلوقات؛ ولذا فإن قصْر هذا القول على المشارب والمسالك ليس إلا قصورًا في الفهم؛ فثمة سبلٌ توصّل إلى الله في كلِّ المخلوقات بداية من الذرات حتى المجرات، علينا أن نجدها، ونعبّد الطرق الآمنة حتى لا تتردى الإنسانية في أودية الضلالة، أو تصطدم بما يَعِنّ في طريقها؛ وهذا يتطلّب منا أن نكدّ ونسعى ونناضل ونكافح ونموت ونحيا مرات ومرات، ونتخلى عن التفكير في أنفسنا من أجلِ أن يحيا الآخرون، وأن نتلمّس يدَ قدرة الله تعالى وعلمه المحيط وإرادته الشاملة في كلّ شيء؛ حتى لا نقع فيما وقع فيه الغربيون حينما انغمسوا في الطبيعة.
ومن ثم فطلاب العلم عندنا في حاجةٍ ماسة إلى إعادة تأهيلٍ حتى يتشرّبوا مثل هذه الروح، فإن لم يتمكن مثل هذا الشعور في نفوس هؤلاء بدايةً من المدرسة الابتدائية فالإعدادية والثانوية والجامعة وما بعدها؛ فلن تقدروا على انتقاء مثل هذا الفريق الذي تنشدونه من بينهم، ولذا يجب عليكم أن تُغرِقوا الباحثين بالجوائز للتحفيز والتشجيع إن لزم الأمر. أجل، إننا لا نُنكر أن التقدير تابعٌ للمهارة في فلسفتنا، ولكن يجب ألا نتوقع مثل هذا الشعور لدى الجميع؛ لذا علينا أن نساعد رجال العلم على إظهار مواهبهم ومهاراتهم بإغداق العطايا عليهم وتأمين حياتهم المادية والمعنوية، كأن نقول لأحدهم: “قم بالبحث في هذا المجال، فإن وقفتَ على جوهر المسألة أمّنّا لك حياتك المعيشية، وخصَّصْنا لك بيتين حتى لا ينشغل عقلك أو قلبك بأمورٍ مادية عدا العلم والبحث”.. والحق أن البحث العلمي هو مسألةُ عشقٍ، ومحاولةٌ لانهماك الإنسان بكل كيانه في العمل، غير أن تشبّع الناس بهذا الشعور أمرٌ منوط بإعادة تأهيلهم من جديد.
نقل المعرفة والقضية الأساسية
أما المسألة التي لا بدّ من حلّها كخطوةٍ أوّلية للسير في هذا الطريق الموصِّل لهذا الهدف فهي مسألةُ نقل المعرفة، ومن ثمّ فمن الممكن لنا الآن احتذاءُ الطريق الذي اتبعه اليابانيون والصينيون.. فكما هو معلوم أخذَ هؤلاء علومَهم عن الغرب، واستفادوا منها، وأضافوا إليها، وألحقوا بها بعض الزيادات، ووظّفوها وفقًا لفلسفاتهم ورؤاهم العامة؛ فمثلًا استغلّت الصين ما نقلته من معلومات وتكنولوجيا في مجال الصناعة، وبدأت تُصنِّع منتجاتٍ بأقل الأسعار، حتى صارت دولةً عالميّة عملاقة، أما اليابان فقد أُبيدت ودُمّرت بالقنبلة النووية في الحرب العالمية الثانية، ودخلت تحت وصاية دولةٍ ما، غير أنها رغمَ كلّ هذا ما فتئت أن تفوّقتْ علينا في مجال الأبحاث والدراسات العلمية، وكذلك ألمانيا دُمّرت ومُحيت، وتقاسمتها الدول الكبرى، إذ دخلت ألمانيا الشرقية تحت وصاية روسيا، وألمانيا الغربية تحت وصاية أمريكا، لكن رغم كل هذه الظروف السلبية استطاعت أن تستجمع قواها وتنهض، وتستورد العمالة من عندنا.. ومن ثم فمن الممكن أن نعيشَ نحن أيضًا مثل هذه الفترة من نقل العلوم والتكنولوجيا، ثم نحسن استغلال ما استوردناه من الخارج، وبعد ذلك تأتي مرحلة توجيه إنساننا إلى الغايات السامية.. البعض يُطلق على هذا الأمر “أسلمة العلوم”، لكنني أرى من الأصوب أن ننظر إلى المسألة على اعتبار “أنها محاولةٌ للوصول إلى نقطة التقاءٍ بين الأوامر التشريعية والأوامر التكوينية التي هي مصدر العلم”.. ولا جرم أنه من المستحيل الوصول إلى هذا المستوى في حملةٍ واحدة أو انطلاقةٍ واحدة، من أجل ذلك لا بدّ من تربية أناسٍ عاشقين للبحث العلمي، يصدحون بالحقيقة في كلّ مكانٍ كالمؤذن الذي يضع يديه على أذنه صادحًا بالأذان مع دخول كلّ وقت، وألا نتراجع عن مواكبة العصر بأن نتتبّع آثار العلم والتكنولوجيا التي ظهرت في غير عالمنا.
حاصل القول: إن الآلية العلمية القائمة على مقوماتنا الفكرية في حاجةٍ إلى نقل المعرفة بدايةً ثم استغلالها، وأن يكون لدى الناس شوقٌ واشتياقٌ إلى تحليل الحوادث والأشياء وفهمها وتفسيرها، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التوفيق بين هذه المعلومات وبين قيمنا، وجعلها -بمعنى ما- جزءًا من ذاتيتنا، ثم النظر إلى التجارب التي قام بها هؤلاء حتى اليوم، حتى نقوم بمثلها؛ بمعنى أن ننقل العلوم في مرحلة، وأن نجعلها جزءًا من ذاتيتنا في مرحلة أخرى، ثم نتناول كل شيء وفقًا لماهيته الحقيقية، ونتحرّى مراد الله من خلق كتاب الكون الكبير، وندرس حقيقة كيف أن القرآن هو القول الشارح والبرهان الواضح والدليل الساطع على هذا الكتاب.. فإذا ما تشكّلت لديكم وجهةُ نظرٍ واضحة راسخة ونظرتم إلى كتابَي الحق تعالى (القرآن والكون) استطعتم إدراك الحقيقة نفسها، ويبدو القرآنُ لكم كأنه كونٌ، والكونُ كأنه قرآنٌ، من جانب آخر سيتبدى الإنسان في نظركم وكأنه فهرست للكون، والكون كأنه إنسان كبير.. كلّ هذه المسائل ستشهدون عليها بضمائركم، وتصدّقون بها بقلوبكم.
بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة الخامسة والعشرون، المقدمة، ص 417.