التفكر في أي موضوع من المواضيع، يعني إعمال الفكر إعمالاً واسعاً وعميقاً ومنظّماً. ولدى أربابه هو زناد القلب، وغذاء الروح، وروح المعرفة، ودم الحياة الإسلامية وروحها وضياؤها. فإن انعدم التفكر أظلم القلب، واضطربت الروح، وتحولت الحياة الإسلامية إلى موات هامد.
التفكر هو نورٌ في القلب، وأيّ نور، به يميّز الخير عن الشر والنفع عن الضر والحسن عن القبح، وبه تتحول الكائنات إلى كتاب يُقرأ، وبه تكسب كل آية جليلة عمقاً خاصاً بها.
التفكر مصباح يضيء الحوادث، للاعتبار واستنباط النتائج المتنوعة منها.. وهو مفتاح ذهبي للتجارب.. ومشتل لأشجار الحقيقة.. وبؤبؤ نور القلب. ولأجل هذا فالإنسان الأُفق r الذي تسنّم الذرى في كل شيء حسن جميل، استولى في التفكر على الذروة بقوله: (تَفكَّروا في آلاء الله ولا تَفكَّروا في ذاتِه، فإنّكُم لَن تَقْدروا) إذ وضّح لنا حدود ميدان ما يمكن أن نفكر فيه، مذكّراً بقوتنا وإمكاناتنا وقدراتنا.
وكم هو جميل ما قاله “صاحب المنهاج” تذكيراً لنا بهذا المعنى:
دَر آلاء فِكر كَردن شَرطِ راهست
وَلى دَر ذاتِ حَق مَحضِ گُناهست
بُوَد دَر ذَاتِ حَق اَندِيشه بَاطِل
مُحالِ مَحِض دان تَحصيلِ حَاصل
أي: إن التفكر في النعم هو شرط هذا الطريق، ولكن التفكر في ذاته تعالى إثم مبين. نعم، إن التفكر في ذاته تعالى باطل بيّن، فاعلم أنه محال محض وتحصيل حاصل.
وفي الحقيقة، أليس القرآن الكريم يوصينا بآياته الجليلة أمثال: ]وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[ (آل عمران:191). إلى أفضل طريق للتفكر، وذلك بعرضه كتاب الكائنات أمام أنظارنا، وإظهاره كيفية كتابته وخواص حروفه ومزايا كلماته ونظام جمله وانتظامها، ورصـانة هيئته العـامة وقوتها.
أجل، إن التوجه إلى كتاب الحق تعالى في كل تفكر، وفي كل تصور، وفي كل حال وطور، والسعي لتدبّره وإدراكه، ومن ثم تنظيم الحياة وفق فهمنا هذا وامتثاله في حياتنا المعيشة، يجعل الحياة كلها ذات مذاقٍ روحاني؛ إذ إن كشف الأسرار الإلهية في كتاب الكائنات وإظهارها، يمنح الإنسانَ كل آن عمقاً إيمانياً آخر-فوق إيمانه- وتلوناً روحياً يرتشف مذاقه، هذا الكشف الجديد والنتائج المستخلصة منه نور يمتد من الإيمان إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى المحبة، ومن المحبة إلى لذائذ روحانية، ثم المضي قُدُماً إلى الآخرة ورضوان الله تعالى. فهذا هو الطريق المنور ليصبح السالك إنساناً كاملاً.
التفكر مفتوح على جميع العلوم حيث إنها ميدان بحثه وتنقيبه، إلاّ أن العلوم العقلية والتقريرات الوضعية ما هي إلاّ مقدمات لهذه النتيجة العظيمة وواسطة لها وطريق إليها.. وهذه جميعها متوجهة بمحتواها الحقيقي وبوجهها الصائب إلى العلم الإلهي الواحد، إن لم يُسقم دماغ الإنسان بمعالجات خاطئة.
نعم، إن التفكر في الموجودات ومطالعتها ككتاب، إنما يثمر الثمرة المرجوة منه، ويكون موضع واردات ذات بركة، بالإيمان بالله وأنه سبحانه هو خالق جميع الأشياء بجميع متعلقاتها، وهذا هو شعار روّاد الحياة القلبية وأبطال الحياة الروحية الذين أدركوا يقيناً أن كل شيء يستند إلى الله وحده بجميع أحواله وكيفياته فبلغوا الاطمئنان بمعرفة الله ومحبة الله وذكر الله.
والتفكر الذي لم ينظّم من البداية أي لم يؤسس على إسناد كل شيء إلى الحق سبحانه، وإنما يتناهى إليه تعالى بعد لأيٍ في النتيجة ، يقابله التفكر المخطط له من البداية على أساس أن الخلق والأمر وكل شيء يستند إلى الله تعالى. هذا التفكر يجري ويستمر إلى اللانهاية بأبعاد جديدة دون انقطاع قط. بمعنى أن مثل هذا التفكر الذي يبدأ من الله سبحانه باسمَيْه “الأول والظاهر” ومن ثم يتوجه إليه تعالى أيضاً باسمَيْه “الآخر والباطن” ليس متناهياً بل غير متناه. ومن هنا فالحث على هذا النمط من التفكر الذي توضَّح هدفُه منذ البداية، فيه إرشاد إلى استعمال مناهج العلوم الطبيعية وتعلّم أصولها التي تحاول تقرير شكل الوجود وتشخيص تجليه.
أجل، لما كانت السموات والأرض بجميع أجزائها ومركباتها ملك الله تعالى، فإن مطالعة أي حادثة وأي شأن وأي نظام في كتاب الموجودات، تعني قراءة أحكام الخالق العظيم وكيفيات تصرفه في شريعته الفطرية. ولا جرم أن طريق من يقرأ هذا الكتاب حق قراءته وينظم حياته وفق ما قرأ سيكون طريق هداية وتقوى، وسيكون مثابه الجنة وشرابه الكوثر. ذلك لأنه، مقابل أصحاب الهلاك والخسران الذين يجولون في وديان الكفران بدلالة إبليس غافلين عن الله المولى الحق لأنواع النعم والآلاء وألوان الحسن والجمال في الدنيا، هناك من يعرف المنعم الحقيقي والمالك لكل شيء، ويؤمن به ويخضع له بشعور إيماني يجول في دائرة بين الشكر والنعمة والنعمة والشكر، بريادة الملائكة وقيادة الأنبياء والصديقين ويمضي عمره هكذا كـ”باز التفكر” يحوم فوق قمم الأفكار، فيحلّق عالياً فوق الوديان نفسها التي تتساقط فيها الجموع الغافلة ويتردى فيها الهالكون.. فيوفي بهذا التفكر حق ما ناله من ألطاف ربه الجليل. وإن اعترضه عائق في عالم الفكر اجتازه ببُعد الذكر، فيمر من التدبير إلى التسليم، ومن التمكين إلى التفويض، ويبلغ هدفه طائراً في السموات بينما الآخرون في الأرض أسرى المسافات.
اللّهم اجعلنا من الذين يذكرونك قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، وصلّ وسلّم على سيد المتفكرين وعلى آلـه وصحبه المخلَصين.