إذا كنتم تحلمون بإدخال السلام في قلوب الإنسانية كلها صغيرها وكبيرها، فلا بد أن تغرسوا عقيدة الحشر في قلوبها إلى أن تستقر فيها وتتمكن منها، حينئذ تستقيم أمور الشباب، ويترك الأولاد العبث، وتغمر السعادة أرواح الشيوخ حيث يؤمنون أنهم في سبيلهم إلى الجنة، وتومض بوارق البهجة والسرور في أنحاء كل بيت، وتترنم الألسنة بمعانٍ من الآخرة قبل الانتقال إليها، فتتمثل حياة الجنة في الدنيا واقعًا.
المدن منازل الإنسان الكبيرة، فكيف يعم السلام دنيا شبابُها عبيد لأهوائهم، وشيوخها قد استبد بهم اليأس والقنوط، وظُلَّامُها يستمتعون بأنات المظلومين كأنها ترنيمات ناي شجية، المدن والبلاد في مثل هذه الدنيا خالية من السعادة، لأنها خالية من أسبابها.
للصلاة أركان لا تصح الصلاة إلا بها، وإذا شملها الخشوعُ تبلغ ذروة الكمال، فيُحسّ العبدُ ببسمة المعراج الحلوة ترتسم على شفتيه، وقد تقع له لحظة لا تساويها لذائذ ألف سنة، كذلك لا تحظى المجتمعات والأمم بالسعادة كاملة إلا إذا توفرت أسبابها وأركانها في أفرادها التي تكونها، فلا تقوم مدينة مثالية إلا تحت ظل نظام مثالي، فلندع أفلاطون يحلم بهذه المدينة المثالية في “جمهوريته”، ولنترك الفارابي يسبح في خيالاته ويرسم خطوطها في “مدينته الفاضلة”، فهم لن يستطيعوا استخراج المدينة المثالية إلى ساحة الواقع أبدًا، لأنها محرومة من الأركان التي تقوم عليها، وأعظم ركن ينشر السلام في الحياة ويُوشِيها به؛ هو الشعور بصَغار الدنيا والزهدُ فيها، ثم الإيمانُ بالآخرة والتطلع الدائم إليها.
ومن ثم يمكننا أن نقول إن من أعظم الإنجازات التي أجراها رجل العدل والميزان صلى الله عليه وسلم، هو أنه أقام نظام العالم الذي أنشأه على ركن ركين، وهو فكرة الحساب على الأعمال كلها، فما هذه الحياة إلا مقدمة للآخرة، ومزرعة لها، والفرصة الوحيدة التي وُهبت للإنسان كي يوقد في قلبه نورًا للآخرة، ولذلك أطلق لهذه الحياة اسم الدنيا، ولتلك اسم الآخرة، فالبذور التي تُلقَى هنا تُحصَد هناك.
هذا هو الدرس الذي بثه الرسول صلى الله عليه وسلم في القلوب كلها؛ فسكنت به، واطمأنت له، وفاضت بأنواره حتى باتت الدنيا صغيرة زهيدة لا تساوي شيئًا في أعين ذلك الجيل الذهبي.
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بيّنة إلا دعواهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ”، فَبَكَى الرَّجُلَانِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَقِّي لَكَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَمَّا إِذْ فَعَلْتُمَا مَا فَعَلْتُمَا فَاقْتَسِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ تَحَالَّا”[5].
وهكذا نرى كيف انتظمت الحياة تحت ظل الإيمان بيوم الحساب، لقد بلغ الأمر من الجدّ إلى درجة أنه عندما أدرك أحد الصحابة أنه خان اللهَ ورسولَه، مضى لفوره إلى المسجد النبوي، فربط نفسه بسارية، وحلف ألا يحل نفسه حتى يتوب الله عليه.. هكذا عاقب نفسه، وآخر يعتقد أن السيئة التي اقترفها لا يمحو آثارها من القلب إلا دمٌ يراق في سبيل الله، فلا تخامره ذرة من تردد، فيخوض المعركة، ويقاتل فيراق دمه فيتجرع كأس الشهادة.. كل ذلك ليلقى ربه طاهرًا نقيًّا.
وفي مشهد من مشاهد أُحُد المؤثرة، نجد سعد بن الربيع رضي الله عنه مسجًّى على الأرض، ممزق الأطراف، وقد سالت منه الدماء، وكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول لأبيّ بن كعب: “أقرئ رسول الله مني السلام.. واهًا لريح الجنة، إني أجده دون أحد”[6].
أيّ شيء يستطيع أن يغمر قلبَ الإنسان بالسعادة حتى في لحظات الاحتضار؟ وأيّ تقدم بشري يستطيع أن يمنح الفردَ والعائلة والمجتمع هذه السعادة، سوى الإيمان بالآخرة؟
وحتى نفهم بعض الشيء كيف ربّى ذلك النبي العظيم أمتَه، نستعرض بعض الدرر التي جرت على لسانه الشريف صلى الله عليه وسلم عن البعث والنشور، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا”، أيْ إنكم تُبعثون روحًا وجسدًا كي تشاهدوا الجنة التي لم تدركوها في الدنيا على حقيقتها، ولكنكم أحسستم بها في قرارة نفوسكم، والأهم من ذلك تبعثون لكي تروا جمال الله الذي شاهدتم تجليات أسمائه وصفاته، لكنكم لم تحيطوا بكنه ذاته سبحانه، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: “أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/117-118)”[7].
وجاء في حديث رواه الطبراني في الأوسط -وإسناده جيد- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لَمْ يَلْقَ ابْنُ آدَمَ شَيْئًا مُنْذُ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ”، ثُمَّ قَالَ: “إِنَّ الْمَوْتَ أَهْوَنُ مِمَّا بَعْدُ، وَإِنَّهُمْ لَيَلْقَوْنَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ شِدَّةً حَتَّى يُلْجِمَهُمُ الْعَرَقُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ السُّفُنَ أُجْرِيَتْ فِيهِ لَجَرَتْ”[8].
وهذا الحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه يفصّل الحديث السابق:
“يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا”[9].
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربّي أمته بهذا الإيمان الراسخ، وكان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يسيرون بحذر شديد وكأنهم يرون جهنم وأهوالها، والجنة وزخارفها، والسبيلُ الوحيدة لإنشاء حياة فاضلة مستقيمة كهذه هي التأدبُ بهذه العقيدة، وزرعُها في القلوب، والانطباعُ عليها، والتكيفُ بها.. وإلا ضاعت الاستقامة، وضاعت الفضائل، وبالتالي ضاعت المجتمعات، وإذا لمحنا عليهم آثارًا من الفضيلة، فليس ذلك إلا بسبب الجوهر الإنساني المكنون في فطرة الإنسان، والذي لا يمكنهم مخالفته، لأنه مركوز في الفطرة، ومن ثم يحملهم على أعمال فاضلة تلقائية، غير أنها ليست أبدًا على مستوى الفضيلة التي تُكتسب بالاجتهاد والإرادة.
[5] صحيح البخاري، الحيل، 9، الأحكام، 20؛ سنن أبي داود، الأقضية، 7.
[6] الحاكم: المستدرك، 3/221.
[7] صحيح البخاري، الأنبياء، 8؛ صحيح مسلم، الجنة، 58.
[8] الطبراني: المعجم الأوسط، 2/277.
[9] صحيح البخاري، الرقاق، 45؛ صحيح مسلم، الجنة، 59.